مرجل دار فور يوشك أن يفور


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كمعظم مشكلاتنا في العالم العربي تسلك الحكومات والأنظمة الطريق الذي يفاقم من حجم المشكلة عوضاً عن أن يعزلها ثم يسعى لحلها.

 

ما يجري في دارفور الآن يثبت بكل تأكيد أن معظم تدخلات الخارج في شؤوننا مبعثه عجز الداخل عن وضع حلول عادلة لمشكلاتنا الداخلية على نحو يجعله يتعامل مع بناه الاجتماعية بشكل من القسطاط الذي يفرضه ديننا الحنيف.

 

ما نراه الآن في دارفور من تدخل خارجي وتمرد داخلي مرده بالأساس لغياب العدالة والمساواة في ممارسات الأنظمة العربية، ويتألق فيه المعنى القرآني السديد: "قل هو من عند أنفسكم". إذ ما كان من الممكن للولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي أن يتدخلا في الشأن السوداني الداخلي إلا وقد وجدا تربة خصبة لهذا التدخل، وكيف يتسنى أن يلام الغرب المتربص على تدخله ما دام قد وجد مشكلة لاجئين يزيد حجمها عن مليون لاجئ نزحوا إلى تشاد المجاورة بسبب الصراع الدائر وتداعياته الاقتصادية، ووجد مشكلة ناضجة جدا للتدخل وجاهزة للتدويل، وهذا بحد ذاته خطأ استراتيجي كبير وقعت فيه حكومة الإنقاذ السودانية أدى في النهاية إلى اتخاذ المشكلة في دارفور السودانية أبعاداً أخرى خلافاً للبعد المحلي، وبمقدورنا أن نوجز هذه الأبعاد فيما يلي:

 

ما يجري في دارفور الآن يثبت بكل تأكيد أن معظم تدخلات الخارج في شؤوننا مبعثه عجز الداخل عن وضع حلول عادلة لمشكلاتنا الداخلية...

 

البعد المحلي للصراع:

معظم المحللين يعود بالصراع الدائر في دارفور إلى موروثات حزبية وجهوية ضيقة أدت إلى تهميش متعمد من قبل حكومة الإنقاذ وما قبلها لهذا الإقليم الحيوي الهام، وإن كانوا لم يعطوا تفسيراً مقنعاً عن توقيت تفجر الصراع الآن.

ولعل مبعث تفجره في هذا الوقت بالذات عائد إلى عدة متغيرات إقليمية ودولية ومحلية سيجري الحديث عنها بعد قليل، لكننا محلياً نجزم بأن التمييز الذي مارسته الحكومة السودانية ضد الغرب المسلم ذي الطابع الإفريقي هو آكد العوامل الداعية إلى تأجيج الصراع ومن ثم تدويله.

 

الحكومة السودانية جاءت على خلفية إسلامية، وكان مفهوما أن تواجه التمرد الجنوبي بقدر من الشدة في بادئ الأمر، لكن ما لا يمكن تفهمه الآن تعاطيها مع الغرب السوداني بشيء من التمييز يفضي في النهاية إلى تمرد مسلح ومن ثم حرب أهلية بين القبائل العربية والإفريقية.

 

وغني عن البيان أن حركات التمرد في الغرب السوداني لا سيما حركة تحرير السودان بقيادة أمينها العام مني أركوي ميناوي قد لاقت تشجيعاً خارجياً خصوصاً من تشاد المجاورة، وآخر من الداخل متمثلاً في الدعم السياسي الذي توليه الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، كما أن الطريقة التي تعالج بها الحكومة السودانية المشكلة الجنوبية قمينة بأن تشجع أي حركة معارضة سلمية على العصيان وحمل السلاح بوجه الحكومة التي تحاول بأي طريق أن تسد الباب أمام أي تدخل أجنبي عبر تنفيذ كثير من مطالب الغرب دون عناء التدخل من جانب وإسقاط الحكومة من جانب آخر!!

 

البعد الإفريقي للصراع:

يصعب أن تخلف مشكلة دارفور مليون لاجئ في تشاد ولا يستدعي ذلك في ذات الوقت حكومتها للتدخل المباشر في الشأن الداخلي السوداني، بوسع تشاد أن تتحرك بحرية كطرف مؤثر في المشكلة وتستجلب من ورائها الاتحاد الإفريقي، الذي يتحرك بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان هذا الاتحاد بمعية تشاد قد انتزعا من حكومة البشير قبل ثلاثة أشهر تقريباً وقفاً للعمليات العسكرية في غرب السودان، وأرغماها على قبول مراقبين من خارج السودان لضبط وقف إطلاق النار، وحكومة البشير الضعيفة في الغرب السوداني، والتي منيت بخسائر عسكرية فادحة العام الماضي خلال محاولاتها قمع حركات التمرد الغربية التي صالت وجالت في دارفور قبلت في آخر الأمر هذا التدخل الإفريقي طمعاً في أن يوقف زحفاً أمريكياً/ أوروبياً. غير أن بنداً واحداً جرى الاتفاق عليه بين حكومة البشير وحكومة تشاد (الموالية لفرنسا)، وحركة تحرير السودان (الموالية لتشاد)، وحركة العدالة والمساواة (الموالية للزعيم السوداني حسن الترابي على ما يبدو)، وبرعاية الاتحاد الإفريقيº هو بند "تأمين وصول المساعدات الإنسانية" كان كفيلاً بتسلل القوى الخارجية الدولية إلى السودان من جهة الغرب أيضاً.

 

البعد الصهيوأمريكي للصراع:

قد يظن البعض أن الشعار الذي ترفعه "إسرائيل" لدولتها الكبرى المزعومة "مملكة الرب" مقصور على مصر غرباً دون السودان، وأن مطامع الكيان الصهيوني تقف عند الحدود الجنوبية لمصر، وأن تدخله في الجنوب السوداني مرده الأول: الضغط على مصر لجهة التحكم في منابع النيل، بيد أن نصين توراتيين تؤمن بهما "إسرائيل" ينسفان هذا الظن (أعني: الاقتصار على تلك المطامع لا وجودها قطعاً). الأول: ورد ذكره في سفر أشعياء (18): [ويل لأرض حفيف الأجنحة في عبر أنهار كوش (هي أرض السودان وإثيوبيا بحسب كثير من مفسري اليهود)، التي تبعث رسلاً في البحر في قوارب البردي السابحة فوق المياه، امضوا أيها الرسل المسرعون! إلى شعب طوال القامة جرد، إلى شعب بث الرعب في القاصي والداني، إلى قوم أقوياء وقاهرين تشطر الأنهار أرضهم (النيل الأزرق والأبيض)، يا جميع أهل الأرض والساكنين فيها! عندما ترتفع راية على الجبال فانظروا، وعندما يدوي نفير بوق فاسمعوا]. ذاك أن "إسرائيل" ومن منطلق مزدوج يجمع ما بين الأصولية والبراجماتية توظف تلك النصوص لضرورة التدخل في السودانº جنوبه وغربه ومن ثم مد يد العون لمن يقدمون في الأخير هداياهم في جبل صهيون، وهذا هو النص الثاني [وفي ذلك الوقتº يقدم الشعب الطويل القامة الأجرد الذي بث الرعب في القاصي والداني آلامه القوية القاهرة التي تشطر الأنهار أرضها هدايا إلى الرب القدير في جبل صهيون موضع اسم الرب القدير].

 

وثمة بوادر بدت واضحة للتدخل الصهيوني في الغرب السوداني أماط اللسان عنها أحد المتمردين أنفسهم، إذ صرح الناطق باسم إحدى المجموعات المتمردة في الغرب السوداني الصادق هارون أن لقاءً تم بترتيب إرتيري بين منشقين دارفوريين ومسؤولين "إسرائيليين" أفضى إلى تقديم دعم مالي عبر إرتيريا إلى ما يسمى بجيش تحرير دارفور، كما كشف عن عدد من الاستقالات في صفوف المتمردين احتجاجاً على سماح قادتهم للصهاينة بالتدخل في القضية.

 

والأمر لا يقتصر بالطبع على مجرد دعم صهيوني مرده بعض النصوص التوراتية كالتي ذكرنا آنفاً، وكالتي وردت في التوراة 15/18: [لقد منحت ذرياتكم هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات]، فمن ناحيتها القضية تتعدى ذلك للضغط على مصر بقوة من خلال السيطرة على منابع المياه، ومن ثم إلجائها إلى مد أنابيب المياه إليها قسراً.

أما من ناحية الأمريكيينº فإن الأمر يتعدى ذلك إلى السيطرة على منابع النفط بصورة كاملة في السودان وإحكام السيطرة على القرن الإفريقي، إذ إن فكرة الحرب الاستباقية الأمريكية لا تقتصر على كونها مجهوداً حربياً وحملات عسكرية تهدف إلى إخضاع بلاد، وإنما تتجاوز هذا الحد إلى الوصول إلى مواطن القوة المتوقعة لبعض دول وحذفها من قائمة الدول الطموحة إلى نوع من التحدي لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.

 

ولعل مثل هذه العبارات بقدر ما تثير فضولاً لدى البعض فإنها تثير سخرية أولئك المحشورين في دائرة الاقتصاد الضيقة، وتحدوهم إلى القول: "ومن تكون السودان حتى تخشاها الدولة العظمى!! السودان دولة فقيرة ونفطها إذا بلغ منتهاه فلن يمثل قوة اقتصادية تحسب لها الولايات المتحدة الأمريكية حساباً"، وبالفعل فإن السودان دولة فقيرة الآن لكنها بلد لو خلا من المؤامرات لصار القوة الزراعية الأولى في المنطقة، ولو حكم الشمال والجنوب معاً في ظل سلام دائم لصار إنتاجه النفطي كبيراً للحد الذي يجعله متفرغاً للتنمية والنمو الاقتصادي وربما العسكري، ولو التأم شمال الوادي بجنوبه لصار كلاهما معاً دولة عظمى، وإذا أخذنا باعتبار وجود قوى إسلامية طموحة في إرتيريا وشرق السودان والصومال وشمال إثيوبيا، وإذا أخذنا بالاعتبار أيضاً أن مجمل أرض إفريقيا كانت تسمى في خرائط الماضي "السودان"، حيث كان الإسلام الإفريقي منجذباً إلى هذه البوابة الإفريقية للإسلام لصارت القضية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أعقد من مشكلة بحجم مشكلة فلسطين.

 

من المهم هنا أن نذكر أن الولايات المتحدة لا تجد نفسها مدفوعة للسيطرة على منابع النفط هنا أو هناك من أجل أن تستحوذ عليها فقط وإنما أيضاًº لأنها لا تريد لأحد أن يستقوي بمداخيل النفط عليها وعلى مصالحها في هذه الرقعة من العالم أو تلك، ومن هنا نفهم لماذا تمارس إدارة بوش ضغوطها على الشركات النفطية التي لا تتبع للمنظومة الصهيوأمريكية، والتي تعمدت حكومة الخرطوم جذبها إلى السودان (مثلما فعل الملا عمر في أفغانستان من قبل إبان حكم طالبان حين كاد أن يرسي المناقصة الدولية على شركة نفط أرجنتينية قبل أن تدهمه الولايات المتحدة بقواتها) لكي ترحل عن السودان تاركة كعكته يقضمها العام سام بمفرده، وقد وقعت شركات بتروناس الماليزية وتاليزمان الكندية والنفط الصينية جميعهم تحت الضغوط الأمريكية المباشرة لدفعها للرحيل من السودان.

 

وبالجملة فإن السودان سيظل يعاني من المؤامرات الخارجية في ظل غياب منظومة استراتيجية سودانية تحول دون هذا التدخل الأجنبي وبين أن ينال مبتغاه، وستبقى أزماته أكثر عمقاً من دارفور، والحل يكمن في الداخل السوداني حين يحقق كرامة المواطن السوداني ويحقق العدالة، وفي محيطه العربي حين يدرك أن السودان ثروة لا يضيعها إلا أحمق يقلب سلة غذائه في سلة النفايات.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply