الدستور الانتقالي: إسلامي أم علماني ؟ ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 َظلُ الدستور -القانون الأعلى في الدولة- محل احتفاءٍ, واهتمام من قوى المجتمع بمختلف مشاربها، فهو يعبرُ عن وُجهة الدولة، فيبينُ ملامحها ويوضحُ قسماتها، ومنذ أن نال السودان استقلاله بُذلت تضحيات جسام من أجل دستورٍ, إسلامي يلبي الأشواق، وهاهي التجارب الدستورية في بلادنا بلغت مرحلة دستور الفترة الانتقالية وفقاً لاتفاق السلام، أحاولُ في هذا المقال أن أجيب علي السؤال الجوهري الذي طرحته من قبل....هل سيعبرُ دستور الفترة الانتقالية عن إسلامية الدولة؟، فانا لست ممن يرى(أ ن الدولة كائن معنوي يفقد صفة الانتماء الديني القائم أساساً على وجود ضمير فردي يتعبد ويتعامل[1])، بل أعتقد أن الدولة كائنٌ يقوم علي ركائز فكرية راسخة تفصح عنها أجهزتها، و من ثمّ لم يكن نشازا أن اهتمت دول بالانتماء الديني للدستور وإن تدثرت بعلمانية ظاهرة غير مستترة، فالدستور التونسي[2] ينصُ على أن (تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها)[3]. كما ينص ذات الدستور على: (رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ودينه الإسلام)[4]، واظنُ ان التنوع والتعدد-في الدين كان أم العرق- الذي يتكئ عليه اتفاق السلام متحقق في تونس.

 

 

إنّ الإجابة على السؤال المطروح تُبنى على الحقائق الآتية: -

سيضعفُ دستور الفترة الانقالية من مكانة اللغة العربية على المستوى الرسمي، حيث جعل اتفاق السلام اللغة الانجليزية لغة رسمية هي الأخرى، ولا أرمي من هذا الوقوف في وجه اللغات الأخرى، فالواجب الاعتناء بها وإتقانها، لكنّ الدفاع عن اللغة العربية له مدلول ثقافي ملازم للإسلام، فالعربيةُ باتت لغة وطنية لكل السودانيين، فالجماعات الإفريقية القحة تعدها لغةَ التواصل، و الكنيسةُ في السودان لن تجد وسيلةً جامعةً -غير العربية- تبشرُ بها، ورغم ذلك الضيم الذي لحق باللغة العربية في اتفاق السلام، فانّ لها مستقبلا واعدا أزهر في السودان، ففي كل حين تكسب ساحة جديدة، فهي تسبق حتى الإسلام في انتشارها ممهدة له الطريق، ولن تجد الحركة الشعبية من خيار غير (العربية) تخاطب بها أنصارها وتنشر بها أفكارها.

 

ـ سيضعفُ دستور الفترة الانتقالية من مكانة الشريعة الإسلامية على المستوى القومي، حيث جُعلت المواثيق الدولية لحقوق الإنسان أساسا وهاديا للدستور الانتقالي وقد تتعارض تلك المواثيق مع الشريعة [5]،

 

فقد جاء في اتفاق السلام: -

(تحترم جمهورية السودان، بما فيها كافة مستويات الحكم في جميع أرجاء القطر وبصفة كاملة وتلتزم بموجب معاهدات حقوق الإنسان الدولية التي هي طرف فيها أو التي ستصبح طرفا فيها. ويشمل ذلك العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثفافية، والاتفاقيات الدولية لإزالة جميع أشكال التمييز العنصري واتفاقية حقوق الطفل واتفاقية الاسترقاق لعام 1926 في صيغها المعدلة والاتفاقية الملحقة المتعلقة بها والاتفاقية الدولية بشأن منع ومعاقبة جريمة الفصل العنصري والاتفاقية الدولية لمناهضة الفصل العنصري في الرياضة، الاتفاقية المتعلقة بوضع اللاجئين والبروتوكول المتعلق بها والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. ويتعين على جمهورية السودان السعي إلى التصديق على معاهدات حقوق الإنسان الأخرى التي وقعتها. )

 

ففي ظل هذا النص قد تنشأ دعاوى دستورية تطالب بإلغاء القوانين المستمدة من الشريعة لزعمهم مخالفتها لمواثيق حقوق الإنسان[6]. بل حتى في الشمال نفسه يمكن أن تتراجع الشريعة بعد [7] أن منح اتفاق السلام الولايات حق الاعتراض على أي تشريع له صبغة دينية، وقد كان الأمل معقودا بعد استثناء الجنوب من الشريعة الغراء أن يُنصّ صراحة انّه (لا يجوز إصدار تشريع في الشمال يخالف الشريعة)، فمثل هذا النص يَسدُ أي منفذ لتشريعات تخالف الشريعة، سيما وأن التوافق الشعبي المبهم يُعدُ هو الآخر مصدراَ من مصادر التشريع في الشمال، فإحكامُ النصوص أمرٌُُ مطلوب ضمانا لسيادة الشريعة، والمـتأملُ بعمق في وضع اللغة العربية والشريعة الإسلامية في دستور الفترة الانتقالية يشعرُ كأنهما طارئان[8] على السودان، فالعربيةُ في السودان هي مثل الإنجليزية التي يبلغ تاريخها مائة عام أو يزيد، والشريعة الإسلامية يمكن أن تعترض عليها أية ولاية فتسود أعراف ومعتقدات محلية.

 

ـ سيضعفُ دستور الفترة الانتقالية من هُويّة الجيش السوداني (إن اختار شعب الجنوب الوحدة على الانفصال)، فالوحدات المشتركة التي ستكون نواة للجيش السوداني سيكون لها مبدأ عسكري جديد، هو حتما لن يكون كما نصّ عليه الدستور الحالي (الدفاع عن الوطن شرف والجهاد في سبيله واجب).

 

ـ إنّ هذه الحقائق تجعلُ دستور الفترة الانتقالية دون أشواق دعاة الدستور الإسلامي ودون طموحهم، بل هو يؤسس خاصة على المستوى القومي- لدولة لن يكون للإسلام فيها نصيب وافر، ولا للشريعة حظ معتبر.

 

-----

[1] هذا الرأي أورده د. منصور خالد في سلسلة مقالات له في صحيفة الرأي العام.

[2] تونس مثال لدولة تجاهر بعلمانيتها.

[3] المادة الأولى من الدستور التونسي.

[4] المادة 38 من الدستور التونسي.

[5] ثار جدل بعد توقيع اتفاق السلام حول دستورية جريمة الردة التي نصّ عليها القانون الجنائي لسنة 1991 ويري البعض عدم دستورية تلك الجريمة لمخالفتها لمواثيق الأمم المتحدة التي تنادي بحرية الاعتقاد.

[6] الشريعة ترعى حقوق الإنسان فيكفي قوله - تعالى -(ولقد كرمنا بني آدم) لكن نظرتها لهذا المفهوم تختلف عن ما تدعو له المواثيق العالمية.

[7] أتوقع ذلك في مجال التشريعات المتعلقة بالمرأة والأسرة.

[8] يردد (قرنق) دائما أن الوجود العربي الإسلامي في السودان وجود طارئ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply