الصراع في دار فور .. تأملات ووقفات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن حرب المصطلحات التي يشنها الغرب بإعلامه القوي وتكراره الممل قد ألقت بظلالها على الحرب التي تدور رحاها في إقليم دار فور غربي السودان، ولك أن تتأمل في مصطلحات من أمثال: الجنجويد ـ الإبادة الجماعية ـ التطهير العرقي، وغيرها من الكلمات التي تلوكها آلة الإعلام الغربية ويتبعها في ذلك الإعلام العربي المقلد غير المبتكر لتدرك حقيقة البلاء الذي نعيشه في زماننا هذا غير معتبرين بما كان في الأمس القريب حين روَّج الغرب الاتهامات للعراق بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وأثبتت الأيام أنهم أكذب الناس ولا حياء، وهاهنا حقائق أود بيانها في هذا المقال:

أولاً: إقليم دارفور عريق في إسلامه، وقد كانت الهدايا تُحمل منه إلى الكعبة المشرفة والمدينة المنورة، والمسلمون به نسبتهم 100% ويغلب على أهله حب الدين والاهتمام بتحفيظ القرآن والعلوم الشرعية الأولية من فقه وتوحيد.والمحافظة على الصلاة سمة بارزة في أهله إلى يومنا هذاº ولا ينفي هذا أن التدين قد خالطته أنواع من الدجل والخرافة والتعلق بالأوهام التي لا قيمة لها في ميزان الشرعº فقد يكون أحدهم حافظاً للقرآن الكريم، لكنه لا يتورع عن بيع التمائم وكتب السحر والشعوذة للناس، أو يكون من أهل القرآن، لكنه لا يخلٌّ بعادته في تناول شراب مسكر أو التلبٌّس ببعض المنكرات في الأخلاق والسلوك.

 

ثانياً: الإقليم يسكنه خليط من القبائل التي ترجع إلى أصول عربية كالهبانية والمسيرية والكبابيش والماهرية والبني هلبة وأولاد راشد والزيادية والمحاميد والرزيقات والتعايشة، وأغلب هؤلاء يشتغلون بالرعي ـ خاصة الإبل ـ ولذلك يُسَمَّون بالأبالة، وهم بدو رحَّل، وأغلب رحلاتهم إلى مصر وليبيا، وليس لهم ـ في الغالب ـ اهتمام بالتعليم كعادة البدو في كل مكان. ويسكن الإقليم كذلك بعض القبائل التي تعود إلى أصول إفريقية كالفور والبرتي والمساليت والزغاوة والتنجو والتاما والبرنو، وهؤلاء يشتغلون بالزراعة ورعي الغنم، وفيهم المتعلمون في أعلى المستويات ومن يشاركون في الحكم ويتولون المناصب.

 

ثالثاً: الصراع بين هذه القبائل قديم كالعادة بين الراعي والمزارع حين تعدو إبل الراعي على الزرع، أو حين يمنع المزارع الراعي من أن يرتع بإبله، وقد يقع بين الفريقين اعتداء يقوم بعده سراة القوم وحكماء الفريقين بالتوسط لإنهائه وإجراء الصلح فيه بدفع ديات وتعويضات، ولم يكن يصحب تلك الأحداث إحراق للقرى أو قتل للناس بالجملة، ووقع في بعض الأوقات نهب مسلح بأن يعتدي جماعة من اللصوص على عابري سبيل فيأخذون بعض أو كل ما بأيديهم، ويطلق على هؤلاء مصطلح: (الجنجويد) أي النهابين السراقين من أي قبيلة كانوا، لا كما تروِّج أجهزة الإعلام الغربية ـ خاصة إذاعة لندن ـ حين تقرن بينه وبين القبائل العربية فتقول: (ميلشيا الجنجويد العربية الموالية للحكومة).

 

رابعاً: الأصابع الأجنبية في إدارة الصراع غير خافيةº إذ الوجود الأجنبي قديم تمثل في المنظمات الأوروبية خاصة الألمانية كمنظمةG.T.Z، ومنظمة OXFAM البريطانية، ومنظمة (أطباء بلا حدود) الفرنسية كما أن بعض مديري الصراع الآن لهم ارتباطات بجهات أجنبية من قديم كأحمد إبراهيم دريج الذي حكم الإقليم في زمن النميري وهو من الفور ومتزوج من ألمانية، ويرجع بعض الناس بداية الصراع إلى أيامه وأنه أول من حرَّض الفور على طرد العرب، وكذلك شريف حرير المتزوج من نرويجية.

 

وأهم من هذا كله الصراعات التشادية التشادية التي دارت رحاها في أزمنة متقاربةº حيث كانت تبدأ من دارفور بحكم التداخل القبلي مع تشاد، وبعد نهاية الصراع وتغلٌّب أحد الفريقين تبقى الأسلحة بأيدي حثالة من الناس ضعاف العقول يستخدمونها ـ في ظل ضعف أجهزة الأمن واتساع مساحة الإقليم ـ في النهب والسلب والاعتداء على الآمنين.

 

خامساً: قيام الحكومة بمفاوضة المتمردين الجنوبيين بقيادة قرنق وإعطاؤهم أغلب أو كل ما يشتهون ـ في ظل ضغوط أمريكية وأوروبية وغياب عربي وإسلامي ـ أغرى بعض أبناء دارفور بسلوك السبيل نفسه، فعمدوا إلى إعلان حركة تحمل اسماً قريباً من اسم حركة قرنق (حركة تحرير السودان) وقاموا بشن هجمات منظمة حيث احتلوا محافظة (قولو) ثم (عين سرو) إلى أن كانت قاصمة الظهر يوم 24/3/2004م حين عمدت فرقة منهم إلى احتلال مطار مدينة الفاشر، فأحرقوا ست طائرات، ودمروا وخربوا وقاموا بأسر قائد المنطقة وهو برتبة عميد وصحبوه معهم إلى (أروري)º حينها أدركت الحكومة أن تمرداً كبيراً ينذر بشر عظيم، وكان مما لفت النظر أنه لم يبدأ صغيراً ثم كبر بل وُلد وهو كبير، فقامت بعد ذلك العمليات العسكريةº حيث استنفرت الحكومة الناس، وكان ممن سارعوا في ذلك النفير عدد مقدر من القبائل العربية.

 

تأملات:

1- الفجور في الخصومة أمر ظاهر في هذا الصراع، حين عمد بعض رموز التيار الإسلامي ـ علي الحاج محمد كمثال ـ إلى التنادي بالتدخل الأجنبي مرددين شعارات التهميش والشعور بالظلمº مع أنه كان بالأمس القريب من أعمدة النظام الحاكم الذي ظلم ـ بزعمه ـ أبناء دارفور، لكن بعد الخلاف بين البشير والترابي وانحيازه إلى الجناح الثاني لم يبال بالانحياز إلى أعداء الدين والملة من أجل الانتقام ممن خالفهم وناوأهم. وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خاصم فجر»(1).

 

2 - العزف على وتر العصبية الجاهلية هو عمود تلك الفتنةº حيث ترددت شعارات ما كنا نسمعها من قبل كشعار: (أخرجوا العرب من دارفور) ومنشورات وزعت باسم قريش [1] وقريش [2] ونسي كثير من الناس تعاليم الدين، بل من أجل الانتصار للقبيلة نسيت الالتزامات الحزبية. وصدق النبي- صلى الله عليه وسلم -: «دعوها فإنها منتنة»(2).

 

3 - استثمار الفتنة من قِبَل دوائر صنع القرار الاستعمارية كان بسرعة أذهلت الحكومة السودانية وجعلها في حيرة من أمرهاº حيث صدرت القرارات تلو القرارات من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وقبل هذا من الإدارة الأمريكية الكاذبة الخاطئة، وتتابعت زيارات المسؤولين الأوروبيين مهددة ومتوعدة وداعية إلى التدخل الدولي السافر. وصدق الله العظيم: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُم لا يَألُونَكُم خَبَالاً وَدٌّوا مَا عَنِتٌّم قَد بَدَتِ البَغضَاءُ مِن أَفوَاهِهِم وَمَا تُخفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُم تَعقِلُونَ} [آل عمران: 118].

 

4 - ضعف حركة التيار الإسلامي العريض وتفاعله مع الأحداثº فلم نسمع عن تحرك إسلامي رسمي أو شعبي سوى بعض التصريحات الباهتة من هنا وهناك الحريصة كل الحرص على تجنب غضب السيد الأمريكي المتربص بنا الدوائر، والسؤال: أين دور هيئة علماء السودان؟ وأين دور الرموز الإسلامية المؤثرة في الساحة؟ بل أين دور الجماعات الإسلامية التي انشغلت بخلافاتها الداخلية عن التفرغ لمثل هذا الأمر الجلل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

5 - لم يبق من دول الجوار ولا غيرها من لم يحشر أنفه في القضية ويدلي بدلوه في الحل بالإضافة إلى الدول الاستعمارية الكبرى، وصدق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «وينطق الرويبضة». قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتحدث في أمر العامة»(1).

وقد اهتبلت المنظمات الكنسية الفرصة فأقبلت بخيلها ورجلها إلى دارفور تحت دعوى الإغاثة لتوزع قليلاً من الغذاء والدواء وكثيراً من الأناجيل والمنشورات، وحين تدخل معسكراً من معسكرات النازحين يفاجئك الصغار رافعين أكفهم وهم يرددونOK. ويتساءل الصالحون من أبناء دارفور: أين المنظمات الإسلامية؟ فنقول: إن الأمريكان ومن معهم عرفوا كيف يكفٌّون أيدي تلك المنظمات الإسلامية، ويوقفون عملها عن طريق تجميد الأرصدة وإغلاق المكاتب واعتقال العاملين فيها أو تخويفهم من أجل أن يخلو لهم المجال عند حدوث أدنى كارثة، فيعيثون في الأرض فساداً بعدما خبروا تلك المنظمات في حروب الصومال والبوسنة وكوسوفا، وعرفوا أنها تهدد عملهم وتبطل كيدهم:

 

الحلول:

ومن الحلول المقترحة العاجلة:

1- رد الأمور المتنازع فيها إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والنزول على حكم أهل العلم في ذلك.

 

2- إحياء الصحوة الإسلامية بين أبناء دارفور ببث التعاليم الإسلامية الصحيحة التي تكفل تأليف القلوب ورص الصفوف وإزالة العداوة والبغضاء من النفوس، وإحلال المحبة والوئام مكانها.

 

3- زرع العقيدة الحقة بالإيمان بالرجوع إلى الله - سبحانه - في الآخرة، وأن الإنسان سيُسأل عما جنت يداه، ولن ينفعه في ذلك اليوم قبيلة ولا نسب.

 

4- التواثق بين رجال القبائل وسراة القوم على حفظ الدم والمال والعرض، وأخذ العهود على ذلك.

 

5- الوصول إلى السياسيين الكبار الذين يديرون هذا الصراع لتذكيرهم بالله، وإقناعهم بأن يتركوا إشعال الفتن وتحريكها.

 

6 - بسط هيبة الدولةº وذلك بنشر القوات النظامية، وتأمين المروعين من المقيمين والنازحين.

 

7 - إيواء المحرومين الذين فقدوا مزارعهم ومساكنهم وأموالهم وتعويضهم عما أصابهم.

 

8 - الأخذ على يد المفسدين في الأرض بإقامة الحدود وضرب الرقاب دون اعتبار للوم اللائمين.

 

9 - قفل الأبواب أمام المنظمات الصليبية، وخاصة بعدما ثبت تورط بعضها في دعم التمرد ـ منظمة العون الكنسي النرويجية كمثال ـ وتورط أكثرها في تثبيط النازحين عن العودة إلى ديارهم بدعوى أنهم قد جاؤوهم بإغاثة تكفي لست سنوات.

 

10 - نشر العلم خاصة بين العرب الرحل الذين يخيِّم عليهم الجهل، ويغلب عليهم الهوى.

 

11 - قيام الدولة بتنمية متوازية في دارفور تقوم على توفير ضرورات الحياة من مطعم ومشرب ومسكن وملبس وعلاج، وبذل أقصى الجهد في ذلك.

 

12 - إعادة الاعتبار للإدارة الأهلية ـ شيوخاً ونظاراً وعُمَداً ـ لأنهم عرفاء القوم وأدرى بمشاكلهم وكيفية حلها.

 

13 - نشر ثقافة العفو بين الناس، وتقديم التنازلات عن الحقوق الخاصة وأن هذا ليس عيباً، بل هو دليل كمال ورجولة تامة.

 

14 - توجيه الإغاثة إلى العائدين إلى قراهم من أجل تشجيع غيرهم على العودة وترك المعسكرات التي تشرف عليها المنظمات الصليبية.

 

وبعد: فما حك جلدك مثل ظفرك، وواجب الدولة عظيم ومسؤوليتها تنوء بحملها الجبال، وإن على المسؤولين عبئاً أكبر في السهر على حماية دين الناس وصيانته من شبهات الكافرين، وبعد هذا حماية الأنفس والأموال والأعراض، والله الموفق والمستعان.

 

----------------------------------------

(*) رئيس قسم الثقافة الإسلامية في جامعة الخرطوم.

(1) رواه البخاري، رقم 2279، ومسلم، رقم 88.

(2) رواه البخاري، رقم 4525، ومسلم، رقم 4682.

(1) رواه أحمد، رقم 7571، وابن ماجه، رقم 4026، وقال الحافظ في الفتح، أخرجه أحمد وأبو يعلى، والبزار، وسنده جيد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply