أبوجا .. الجحر القديم


  

بسم الله الرحمن الرحيم

في بداية عهد الإنقاذ في السودان، واجهت قضية الجنوب بتعقيداتها وتشابكها صناع القرار في نظام الحكم الجديد، وكان منقستو هايلي مريام الرئيس الأثيوبي آنذاك يحتضن القيادات السياسية والعسكرية لحركة التمرد الجنوبية، فبدأت المحادثات بين الحكومة والمتمردين في أديس أبابا، ولما سقط نظام منقستو في بداية التسعينيات من القرن الماضيº وانتقلت قيادة التمرد إلى نيروبيº تحولت المفاوضات إلى كينيا، وبدأت رحلة العواصم الإفريقية مع قضية الجنوب، فانتقلت بعدها إلى أبوجا العاصمة النيجيرية قبل أن تستقر في كينيا مرة أخرى.

 

فأبوجا إذن لها تاريخ مع القضايا السودانية، وفي الشهر الماضي استضافت أبوجا المحادثات بين الحكومة السودانية ومتمردي دار فور، ولعل أبوجا الأولى ترتبط بذكريات غير سارة عند الكثير من الإسلاميين في السودانº ففيها بدأ الدكتور علي الحاج الذي كان ممسكاً بملف المفاوضات مع متمردي الجنوب حينها، والمعارض الناشط الآن ولعله ـ للمفارقة والغرابة ـ أقرب لمتمردي دار فور منه للحكومة السودانيةº بدأ علي الحاج تنازلاته هناك، والتي استمرت في الانحدار حتى أوصلتنا إلى نيفاشا الآن. ففي أبوجا ـ لمن لا يعلم ـ ظهرت الملامح الأولى لدستور 1998م الذي يُحكم به السودان الآن، فتم القبول بعدم النص على دين الدولة الرسمي، وتبعه مباشرة ـ كنتيجة حتمية ـ السكوت عن دين رئيس الجمهورية، وإذا كان البعض يستبعد أن يحكم رجل غير مسلم بلداً غالبيته من المسلمينº ففي نيجيريا نفسها ينتصب الدليل على خطأ دعواهم، ففي هذا البلد ذي الغالبية المسلمةº يتبوأ أوبسانجو النصراني منصب رئيس الجمهورية، لا عن طريق انقلاب عسكري بل بانتخابات ديمقراطية كما زعموا.

 

وكأنما متمردو دار فور يحرصون على اقتفاء آثار متمردي الجنوب حذو القذة بالقذة، فقد انتقلت المحادثات من أديس أبابا إلى أبوجا. وعلى مستوى القضايا محل النقاشº يثير متمردو دارفور نفس قضايا متمردي الجنوب، فينادون بقسمة الثروة والسلطة، وبعضهم وصل به الغلو في التبعية حد المطالبة بتقرير المصير.

 

إن أبوجا في الماضي وفي ظروف مغايرة ساهمت في تعقيد القضايا السودانية، واليوم يواجه المفاوض الحكومي متمردي دار فور وسيف قرارات مجلس الأمن مسلط على رأسه، ووفود قوى الاستكبار الغربي تتزاحم على المدينة لتمد المتمردين بالنصائح والمشورة، في الوقت الذي يحتشد الجنود الفرنسيون على الحدود السودانية التشادية، وتتأهب عواصم أخرى لإرسال جنرالاتها وجنودها مباشرة أو تحت مظلة الاتحاد الإفريقي، وممثل عنان بالخرطوم يلعب دور المندوب السامي البريطاني في مصر أيام الاحتلال، ومسلسل التنازلات حين يبدأ يصعب إيقافه... وجحر أبوجا القديم لا تزال تؤلمنا لدغاته... فهل نتعظ ومجموعة الثعابين تُخفي سمها الزعاف تحت ملمسها الناعم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply