بروتوكولات الاختراق الإسرائيلي ..


 

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا عنوان مهم سقط من نشرة أخبار الأسبوع الماضي: “إسرائيل” كانت الحاضر الغائب في عملية توقيع آخر البروتوكولات بين حكومة الخرطوم وحركة تحرير السودان، التي تفتح الطريق لإغلاق ملف الحرب المستعرة في الجنوب منذ عشرين عاماً. وهو ما يدعونا لأن نحتفي بذات الحدث مرحلياً، في حين تزعجنا مآلاته استراتيجياً. أما كيف؟ ولماذا؟ فإليك الحكاية.

 

 (1)

احتفاؤنا واجب بإنهاء الحرب التي خربت البلاد وأنهكت العباد، وخاضتها حكومة الخرطوم وحيدة ومكشوفة الظهر. طول الوقت، في حين احتشد أبالسة الإنس وراء الطرف الانفصالي في الجنوب. إلا أنه حين تذهب السكرة وتجيء الفكرة، سوف نكتشف أن أولئك الأبالسة لم يساندوا الجنوبيين لوجه الله، وإنما لهم مراميهم المتعددة والبعيدة، التي يعد الإمساك بخناق مصر في مقدمتها. وقبل أن يقول قائل إن هذا الكلام يستعيد منطق المؤامرة، فإنني أرد بكلمتين اثنتين، أولاهما أن المؤامرة مقطوع بها، والثانية أن ثمة اعترافاً “إسرائيلياً” بوجودها. ومن أراد أن ينكرها بعد ذلك، فإنه سيكون كمن ينكر وجود الشمس أو دوران الأرض، بحيث إن المشكلة ستكون عنده وليس عندنا. وعليه أن يعالج نفسه مما أصاب بصره أو عقله.

 

الاعتراف “الإسرائيلي” الذي اعنيه وارد في كتاب من مائة صفحة صدر في العام الماضي عن “مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا”، التابع لجامعة تل أبيب. عنوان الكتاب هو: “إسرائيل” وحركة تحرير جنوب السودان نقطة البداية ومرحلة الانطلاق. أما مؤلفه فهو ضابط سابق (عميد متقاعد) تبين معلوماته انه وثيق الصلة بدوائر القرار في المخابرات “الإسرائيلية” (الموساد)، اسمه موشى فرجي.

 

أهمية الكتاب تكمن في أمرين، أولهما أنه يشرح بالتفصيل الدور الكبير الذي قامت به المخابرات “الإسرائيلية” في مساندة حركة تحرير الجنوب، سواء على صعيد الإمداد بالسلاح والخبراء والمال. أو على صعيد حشد التأييد الدبلوماسي والسياسي لمصلحتها. الأمر الثاني الذي لا يقل أهمية أو خطورة أنه يشرح على وجه الخصوص بالتفصيل أيضاً استراتيجية “إسرائيل” لإضعاف العالم العربي بوجه عام، وإضعاف مصر على وجه الخصوص. وكيف أن تلك الجهود الحثيثة استمرت حتى بعد توقيع مصر اتفاقية السلام مع “إسرائيل” في عام 1979م.

 

لعلي لا أبالغ إذا قلت إن الكتاب في مجمله بمثابة تسجيل “بروتوكولات” الاستراتيجية “الإسرائيلية” في المنطقة. ذلك أنه يتضمن كماً هائلاً من المعلومات المثيرة التي تسلط الضوء على سياساتها وممارساتها في العالم العربي وإفريقيا. ومن أسف أنني مضطر للاكتفاء بعرض مضمونه مختصراً، متمنياً أن تقوم أية جهة نشر عربية بطباعة الكتاب وتعميمه، لكي تنفتح أعين الجميع على جانب مهم مما يدبر لنا وينسج من حولنا، ونحن لاهون أو غير مكترثين.

 

(2)

“نحن شعب صغير، وإمكانياتنا ومواردنا محدودة، ولا بد من العمل على علاج هذه الثغرة في تعاملنا مع أعدائنا من الدول العربية، من خلال معرفة وتشخيص نقاط الضعف لديها. وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات العرقية والطائفية، بحيث نسهم في تفخيم وتعظيم هذه النقاط، لتتحول في النهاية إلى معضلات يصعب حلها أو احتواؤها”.

 

هذا الكلام وجهه ديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء ل”إسرائيل” إلى قيادات الجيش وغيرهم من عناصر المؤسسة الأمنية وأجهزة الاستخبارات والمهمات الخاصة. وفي أعقابه صدرت الأوامر إلى الأجهزة “الإسرائيلية” بأن تتولى الاتصال بزعامات الأقليات في المنطقة، وتوثيق العلاقات معها. وكان العراق في مقدمة الدول التي اهتم بها “الإسرائيليون” في اختبارات الاتصال الأولى لسببين، الأول أن هناك جسوراً كانت ممتدة بالفعل منذ الأربعينات، إبان نشاط الحركة السرية اليهودية، وخاصة في المناطق الشمالية. السبب الثاني هو أن ذلك التوجه يخدم فكرة إقامة علاقات خاصة مع الدول المجاورة للعالم العربي، باعتبار أن العراق باب إلى إيران، وطريق مفتوح نحو تركيا (لاحظ أن الدول الثلاث انخرطت لاحقاً فيما عرف باسم حلف بغداد، الذي وجه ضد مصر الناصرية، ورعته الولايات المتحدة الأمريكية).

 

لتنفيذ هذه السياسة شكل بن جوريون في مطلع الخمسينات فريق عمل ضم العديد من الخبراء في الشؤون الاستراتيجية والسياسية ضم الشخصيات التالية:

 

 “إسرائيل” جاليلي، خبير الشؤون الاستراتيجية وبناء القوة العسكرية.

 

 ايجال باوين: خبير الشؤون العسكرية ورئيس الإسكان.

 

 موشيه ساسون: خبير الشؤون السياسية، والعربية والسورية منها بوجه أخص.

 

 رؤبين شيلوح، خبير العلاقات السرية مع الأقليات، خصوصاً الأكراد وإيران.

 

 جولدا مائير: خبيرة الشؤون السياسية والاتصال.

 

هذا الفريق توصل بعد عدة اجتماعات إلى وضع استراتيجية تقوم على ثلاث ركائز هي:

 

* أولاً: بناء قوة عسكرية متفوقة للاحتفاظ بقوة ردع قادرة على حماية أمن “إسرائيل”، والحيلولة دون إنزال أية هزيمة بها، لأن هزيمة واحدة تهدد الوجود “الإسرائيلي”، في حين أن بمقدور العرب أن يتحملوا أكثر من هزيمة.

 

* ثانياً: توثيق علاقات التعاون والتحالف مع أهم الدول المحيطة بالعالم العربي، تطبيقاً لسياسة “شد الأطراف”، التي استهدفت إقامة ما عرف بحلف المحيط. والدول التي توجهت إليها الأنظار هي تركيا أولاً وإيران ثانياً وإثيوبيا ثالثاً. وهو ما اعتبر - بحسب تعبير المؤلف - “الركن الركين في جدار السياسة الخارجية الإسرائيلية”. في منتصف الخمسينات نجحت الجهود “الإسرائيلية” في إقامة علاقات خاصة مع تركيا في مختلف المجالات. بعد ذلك مباشرة بدأ التحرك صوب إيران، الذي أداره فريق من الخبراء “الإسرائيليين”، الذين كان بعضهم من أصول إيرانية. ولاستكمال بناء صرح “حلف الجوار” للاستعانة به للضغط على العرب وتهديد أمنهم، جرت اتصالات نشطة مع إثيوبيا، علنية وسرية، لكي تكتمل زوايا المثلث عند مركزه الجنوبي من الوطن العربي، بعدما اكتمل من ناحيتيه الشرقية والشمالية.

 

* الركيزة الثالثة في الاستراتيجية تمثلت في عقد تحالفات مع الأقليات العرقية والطائفية في الوطن العربي، وهذه مسألة تتطلب وقفة أطول.

 

(3)

اهتمت “إسرائيل” بإقامة علاقات خاصة مع الأقليات العربية، لا سيما تلك الأقطار المحاطة بدول غير عربية (العراق وسوريا والسودان). وقد رسم هذه السياسة في بداية الخمسينات فريق الخبراء الذي شكله بن جوريون وقد أفاض في شرحها وتفسيرها كل من “رؤبين شيلواح وايلياهو ساسون وموشى شاريت”، حيث استهدفت العمل على تشتيت الطاقة العربية إما عن طريق افتعال المشاكل مع الدول الغربية عبر دول الجوار غير العربية، أو من خلال التحالف مع الأقليات التي تعيش في تلك الأقطار، كالأكراد في العراق، وسكان جنوب السودان، والموارنة في لبنان، والدروز والأكراد في سوريا، والأقباط في مصر، وأقليات أخرى في دول عربية مختلفة.

 

وإذا ألقينا نظرة متأنية إزاء الجهود “الإسرائيلية” في هذا المضمار - السرية منها والعلنية - سنجد أن “إسرائيل” جندت الخبراء المتخصصين في مجال العلاقات مع هذه الأقليات بهدف شحذها وتحفيزها على التمرد والانفصال وإقامة الكيانات العرقية الخاصة بها. وكان في مقدمة هؤلاء “رؤبين شيلواح، يؤرام نمرودي، اوري لوبراني، مردخاي بن فرات وشوشانا اربيلي” للتحرك وإجراء الحوار مع الأكراد. وأسندت إلى كل من “ايلياهو ساسون” و”ايسر هرائيل” - رئيس جهاز الموساد - للتعامل مع الأقليات في كل من سوريا ولبنان.

 

هذا المرتكز الأخير الخاص بالأقليات يعتبر من الأهمية بمكان في فهم واستيعاب الاستراتيجية “الإسرائيلية” إزاء المنطقة العربية والتي من خلالها يتم تشجيع وحث الأقليات في المنطقة على التعبير عن ذاتها إلى درجة الحصول على حق تقرير المصير والاستقلال عن الدولة الأم أياً كانت طبيعة هذه الأقليات من حيث الحجم والنوعية، ولا شك في أن مثل هذا المنطق كان هدفه الأساسي تأكيد - أو السعي لتأكيد - حقيقة أن المنطقة العربية ليست كما يؤكد العرب دوماً أنها تشكل وحدة ثقافية وحضارية واحدة. وإنما هي خليط متنوع من الثقافات والتعدد اللغوي والديني والاثني. وقد اعتادت “إسرائيل” تصوير المنطقة على أنها فسيفساء تضم بين ظهرانيها شبكة معقدة من أشكال التعدد اللغوي والديني والقومي ما بين عرب وفرس وأتراك وأرمن و”إسرائيليين” وأكراد وبهائيين ودروز ويهود وبروتستانت وكاثوليك وعلويين وصابئة وشيعة وسنة وموارنة وشركس وتركمان وآشوريين.. الخ.

 

انطلقت “إسرائيل” في ذلك من الإلحاح على أن المنطقة ما هي إلا مجموعة أقليات وأنه لا يوجد تاريخ موحد يجمعها، ومن ثم يصبح التاريخ الحقيقي هو تاريخ كل أقلية على حدة. والغاية من ذلك تحقيق هدفين أساسيين هما: رفض مفهوم القومية العربية والدعوة إلى الوحدة العربية، فتبعاً للتصور “الإسرائيلي” تصبح القومية العربية فكرة يحيطها الغموض إن لم تكن غير ذات موضوع على الإطلاق.

 

الهدف الثاني هو تبرير شرعية الوجود “الإسرائيلي” - الصهيوني في المنطقة، التي تصبح في هذه الحالة خليطاً من القوميات والشعوب واللغات، وتصور قيام وحدة بينها هو ضرب من الوهم والمحال. من ثم فإن النتيجة المنطقية هي أن تكون لكل قومية من هذه القوميات دولتها الخاصة بها وفي هذا الإطار تكتسب “إسرائيل” شرعيتها، باعتبارها إحدى الدول القومية في المنطقة.

 

يعد حديث “أبا ايبان” عن الفكر “الإسرائيلي” الصهيوني في هذا الصدد خير تعبير، ففي مجموعة كتاباته التي نشرت بعنوان “صوت إسرائيل” يعترض على الافتراض القائل إن الشرق الأوسط يمثل وحدة ثقافية وان على “إسرائيل” أن تتكامل مع هذه الوحدة. ويوضح أن العرب عاشوا دائماً في فرقة عن بعضهم بعضاً، وان فترات الوحدة القصيرة كانت تتم بقوة السلاح، ومن ثم فإن التجزئة السياسية في المنطقة لم تكن بسبب الاستعمار كما يشاع، لأن الروابط الثقافية والتراث التي تجمع البلاد العربية، من وجهة نظره، لا يمكن أن تضع الأساس للوحدة السياسية والتنظيمية.

 

(4)

أفاض المؤلف في شرح نظرية “شد الأطراف” التي هي محور الكتاب وموضوعه الأساسي. فذكر أنها ترتكز على عدة عناصر ذات أبعاد عرقية وعسكرية وسياسية، وعرض لكل واحد من تلك العناصر على النحو التالي:

 

من الزاوية العرقية كانت الفكرة بمثابة دعوة لخلق تجمع اثني يضم دولاً وجماعات غير عربية في إطار من العمل والتعاون لمواجهة المد القومي العربي، باعتبار أن ذلك المد يهدد تلك الدول والجماعات. وقد ركز الخطاب “الإسرائيلي” في هذا الصدد على أن خطر ذلك التهديد يجب أن يدفع تلك الأطراف إلى الاحتشاد في خندق واحد. وهذه الرسالة نقلها بصراحة ووضوح بن جوريون إلى كل من عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا في أواخر الخمسينات، وشاه إيران والإمبراطور هيلاسلاسي. وهذا هو المعنى الذي عبر عنه مائير عميت رئيس الموساد في حين ألقى في عام 59 محاضرة على دفعة جديدة من عناصر الموساد قال فيها: إن التهديد بالخطر العربي الذي جسدته حركة المد القومي، كان لا بد أن ينجح في إثارة النوازع النفسية لدى الجماعات غير العربية داخل الدول العربية، وخاصة في العراق وسوريا ولبنان والسودان.. كما أن الوجود الاثني المتمثل في شعوب مثل الشعب “الإسرائيلي” والتركي والإيراني والإثيوبي، الذي يتناقض مع العنصر العربي المهيمن على المنطقة، شكل أساساً لقيام علاقة تحالفية بين “إسرائيل” والدول التي تمثل تلك الشعوب.

 

استخدمت “إسرائيل” سلاح التخويف من هيمنة العرب المعززين بالقوة النفطية، لكي تحث الدول والجماعات غير العربية إلى الاحتشاد والتحالف لدرء ذلك “الخطر”. وقد عبرت عن ذلك جولدا مائير وزيرة الخارجية في مؤتمر لحزب العمال عام، 1960 حين قالت: لقد نجحنا في إقناع الدول المحيطة بالدول العربية لإقامة “حلف الدائرة”، ليشكل سوراً من حول تلك الدول، يدرأ الخطر ويقي هذه الدول ويصونها من حركة القومية العربية.

 

فكرة التخويف من الخطر العربي استثمرت عسكرياً إلى ابعد مدى. فقد ركزت “إسرائيل” على انه لا سبيل إلى صد ذلك الخطر إلا بإقامة تعاون عسكري وثيق بين “إسرائيل” وبين دول الجوار. وجندت لتلك المهمة ابرز الشخصيات العسكرية والسياسية. في هذا السياق عقد أول لقاء بين رئيس الموساد رؤبين شيلواح وبين وفد عسكري تركي في روسيا عام، 1957 وتتابعت تلك اللقاءات في إيطاليا ودول أخرى. وكان التعاون العسكري والأمني لصد خطر المد العربي هو الموضوع الرئيسي لكل تلك الاجتماعات. وما حدث مع تركيا تكرر مع إيران وإثيوبيا، حيث ركز بن جوريون في خطابه الموجه إلى تلك الدول على أن العرب يزعمون أن الشرق الأوسط هو شرق عربي، ومن الضروري أن تشكل الدول الأخرى غير العربية في المنطقة كتلة واحدة، لدحض تلك المقولة، وللدفاع عن وجودها واستقلالها.

 

هذا الجهد “الإسرائيلي” أثمر تعاوناً أمنياً وثيقاً مع الدول الثلاث (تركيا، إيران، إثيوبيا). وأدى إلى تنظيم لقاءات سرية عدة بين رؤساء الأركان في الدول الأربع، عقدت في كل من أنقرة وطهران عام، 1958 وفي سياق ذلك التعاون أرسلت “إسرائيل” أكثر من عشرة آلاف خبير عسكري وأمني إلى تركيا وإيران وإثيوبيا. وتطور هذا الرقم في السنوات اللاحقة، حتى وصل عدد الخبراء العسكريين “الإسرائيليين” في إيران وحدها عامي 77 و 78 إلى أكثر من 20 ألف شخص. كما زودت “إسرائيل” كلاً من تركيا وإيران بأسلحة من صنعها، مثل صواريخ بر - بر (جبريال) ومدافع هاون وأجهزة رادار وبنادق ورشاشات من نوع عوزي.

 

إزاء النجاح الذي حققته “إسرائيل” على ذلك الصعيد، فإنها أصبحت مطمئنة إلى أن تلك الدول أصبحت تمثل قوى احتياطية لها في مواجهة العرب، وان اختلف الموقف بالنسبة لإيران بعد قيام الثورة الإسلامية في عام 79.

 

في ذات الوقت اعتمدت الرؤية الاستراتيجية الشاملة لنظرية شد الأطراف على ضرورة خلق اصطفاف سياسي متجانس ومترابط ومتحالف مع الغرب. وحرصت “إسرائيل” على أن تقدم نفسها بحسبانها دولة تمثل امتداداً للغرب وعمقاً استراتيجياً له. واعتبرت ذلك يشكل قاسماً مشتركاً لها مع تركيا، كما تعاملت مع إيران وإثيوبيا على أنهما دولتان تدينان بالولاء للغرب. وفي سعيها لإبراز عوامل التشابه أو التطابق بينها وبين دول الجوار، فإن “إسرائيل” أرادت أن تكسر جدار العزلة السياسية التي فرضت من حولها، لأن تعاملها مع دول الجوار غير العربية من شأنه أن يوفر لها إمكانية التحرك إقليميا ودولياً باعتبارها دولة عادية في المنطقة. وفي هذه النقطة نبه المؤلف إلى أن تحقيق “إسرائيل” غاياتها السياسية في استراتيجية شد الأطراف لم يكن يتأتى لولا مساعدة القوى الغربية التي وجدت أن مصالحها تتوافق مع إقامة هذه الشبكة من التحالفات. ولذلك فإن جميع اتفاقات التعاون في مختلف المجالات بين “إسرائيل” والدول الثلاث لقيت دعماً غير محدود من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا بوجه أخص.

 

(5)

الاستراتيجية ما زالت مستمرة، لكن وسائلها تطورت أو اختلفت، أما هدفها فقد ظل واحداً، فلم يعد الخطاب “الإسرائيلي” يركز على التخويف من المد القومي العربي، وإنما صار يمارس التخويف من خلال التلويح بأخطار الإرهاب والأصولية الإسلامية.. كما انه في ظل التداعي والضعف والتفكك العربي، فقد بات بديهياً أن تركز “إسرائيل” على مقولة “إن منطقة الشرق الأوسط لم تعد بحراً عربياً تقع فيه جزر إقليمية (مثل “إسرائيل”)، وإنما العرب هم الذين أصبحوا يشكلون جزراً صغيرة، في حين أن القوى المؤثرة والفاعلة في المنطقة أصبحت مقصورة على “إسرائيل” ودول الجوار، خاصة تركيا”. وفي رأي المؤلف أن الظروف السائدة الآن عربياً وإقليميا توفر أفضل الفرص أمام “إسرائيل” لتحقيق أهدافها، وعلى رأسها تفتيت وتفكيك وحدة الأقطار العربية الرئيسية، عبر تحريك واستثارة الأقليات والجماعات الاثنية الموجودة فيها، كما حدث بالنسبة لأكراد العراق، وجنوب السودان.

 

وكذلك محاولة تفجير الأوضاع من جديد في لبنان، وتفجير صراعات وحروب أهلية في دول عربية أخرى، على غرار سوريا ومصر وليبيا والجزائر.

 

ثمة تطور مهم في استراتيجية التفكيك والتفتيت طرأ في السنوات الأخيرة، يتمثل في أن نظرية شد الأطراف لم تعد تستهدف فحسب استنزاف الطاقات العربية وتشتيتها بحيث تستهلك تلك الطاقات بعيداً عن ساحة المواجهة مع “إسرائيل”. وإنما تجاوزت المسألة هذه الحدود إلى ما هو ابعد وأخطر، بحيث تطورت فكرة شد الأطراف إلى “بتر” تلك الأطراف. بمعنى سلخ الأطراف غير العربية وفصلها عن الجسد العربي، من خلال التحالف مع دول الجوار.

 

أكد هذا المعنى الباحث “الإسرائيلي” زئيف شيف الذي ذكر أن استراتيجية شد الأطراف التي تم تبنيها في أواخر الخمسينات جرى تجاوزها، بحيث أصبح المرفوع الآن هو شعار البتر وليس الشد، وبمقتضى ذلك فإن الدعم الموجه إلى الجماعات العرقية أو الطائفية تحول، بحيث لم يعد يستهدف إضعاف الموقف العربي في مواجهة “إسرائيل”. وإنما أصبح الخطاب “الإسرائيلي” يولي أهمية خاصة لعملية “البتر” لتلبية طموحات الجماعات العرقية والدينية في الانفصال، وتشكيل الكيانات المستقلة عن الدول العربية.

 

كيف نفذ المخطط في السودان؟ وما هي النجاحات التي حققها؟ في الأسبوع القادم بإذن الله نعرض إجابة المؤلف “الإسرائيلي” على السؤالين، وما يتفرع عنهما من أسئلة أخرى.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply