العرب ومحنة دارفور من اللامبالاة إلى الحركة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

واحدة من المفارقات الكبرى التي تحيط بالسودان الآن، إنه أنهى مفاوضات سلام مع حركة قرنق في الجنوب، وبات قريبا من توقيع اتفاق شامل يُعاد على أساسه بناء سودان جديد، وكان الرجاء أن يكون هذا الاتفاق خاتمة للضغوط الدولية الكثيفة التي قادتها الولايات المتحدة على الخرطوم، وفاتحة خير لمعونات دولية ومساندة سياسية ومادية من أجل حُسن تطبيق الاتفاق. لكن الرجاء والأمل بات الآن محصورا في ألا يفرض مجلس الأمن عقوبات جديدة على حكومة الخرطوم بسبب ما يُوصف بأنه تقاعس أو تواطؤ

أو عدم جدية في السيطرة على الميليشيات العربية الموإلىة للحكومة والمعروفة باسم الجنجويد، والمتهمة بارتكاب عمليات إبادة جماعية ضد السودانيين الأفارقة في دارفور. ما بين الرجاء المُحبط والعقوبات الدولية المنتظرة أو المتوقعة بقوة، هناك مواقف دولية وإقليمية تبدو ميالة أكثر لإيجاد أسباب وذرائع لوضع الخرطوم تحت سيف الضغط الدائم بغض النظر عن صحة موقفها ومنطقيته من عدمه. والملاحظ هنا أن كل المواقف الأمريكية والأوربية تركز على مسئولية الخرطوم في نزع أسلحة ميليشيات الجنجويد، واحتواء التمرد وتحسين أحوال السودانيين في دارفور، في الوقت نفسه لا توجد إشارة واحدة إلى ضرورة ووجوب أن يكون نزع السلاح من كل الفصائل المسلحة، ومن حركتي التمرد الكبيرتين في الآن نفسه. وكأن المطلوب هو توفير توازن عسكري جديد في إقليم دار فور لصالح حركتي التمرد في مواجهة الحكومة، تماما كان الحال وما زال في الجنوب، إذ دائما ما كانت العقوبات والضغوط توجه للحكومة، ويقابلها الدعم والمساندة للحركة الشعبية لتحرير السودان. ولعل هذا الموقف الدولي، وتحديدا الأوربي والأمريكي ومن ورائهما الأمين العام للأمم المتحدة والمنظمات الدولية للإغاثة، يفسر إلى حد معين إصرار حركتي العدل والمساواة وحركة تحرير السودان في الجلسة الأولى للمفاوضات مع الحكومة التي عقدت تحت رعاية الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا يومي 15 و16 يوليو 2004، على ستة شروط، اقل ما توصف بأنها شروط طرف يشعر بالانتصار وبالحماية الدولية ولا يتعرض لأي نوع من الضغوط، ومن ثم يريد توجيه الضربة القاضية للطرف الآخر، أي للحكومة. مثل هذا الوضع يذكر بوقوف الخرطوم وحيدة في مواجهة الحركة الشعبية لتحرير السودان، حتى دون مساندة من الأحزاب السودانية العاملة في الداخل، وليس لها أية علاقات تنظيمية مع التجمع الوطني المعارض في الخارج. هذا الوقوف الوحيد ربما يفسر بعض التنازلات الكبري التي وردت في الاتفاقات الستة التي تم توقيعها بالفعل مع الحركة الشعبية بقيادة قرنق، ويفسر أيضا ارتفاع أصوات شمالية تطالب بالإسراع بالانفصال عن الجنوب والاكتفاء بسودان شمالي تطبق فيه قوانين إسلامية دون إزعاج من أحد. ولعل الخطأ الذي وقعت فيه الخرطوم سابقا في الإقرار بالتفاوض مع الحركات التي تحمل السلاح، وبأن يكون الأمر مجرد مفاوضات بين الحكومة وحسب والحركة المسلحة، بات واضحا بما فيه الكفاية من حيث الخطورة وارتفاع التكلفة، وبحيث يفترض نظريا تجنب الوقوع فيه مرة أخري. ولكن يبدو أن فضيلة التعلم من خبرات الماضي القريب ليست بمقدرة الحكومة، تماما كما هو شأن العرب الذين تركوا الخرطوم تتفاوض وحيدة تحت رعاية منظمة الإيجاد وأصدقائها الأمريكيين والأوربيين، فجاءت النتيجة على النحو المعروف. وكما أن هناك مسئولية على الحكومة السودانية، لا يمكن إخفائها، هناك أيضا مسئولية عربية لا يمكن تجاهلها. فغياب العنصر العربي عن مفاوضات نيفاشا كان له تداعياته الكبري على طبيعة الاتفاقات التي تم التوصل إليها بالفعل. وإذا ما تكرر الأمر نفسه في أي مفاوضات خاصة بدارفور، فالنتيجة المنتظرة لن تكون مختلفة من حيث الجوهر ومن حيث التنازلات المتوقعة، لاسيما وان القوي الدولية الكبرى تطرح مواقفها وضغوطها على الخرطوم بكل جرأة وقوة، ودون اعتبار لطبيعة المشكلة وحاجتها لمزيد من الوقت حتى تؤتي الإجراءات التي تم البدء بها ثمارها المرجوة. وما التلويح المتكرر بتوقيع عقوبات دولية إلا تطبيق لهذه المواقف العنيفة والمنحازة للمتمردين، في الوقت نفسه تجاهل الاتفاق الذي تم بين حكومة الخرطوم وكوفي عنان في نهاية يونيه الماضي ويقضي بمنح الحكومة فترة 3 اشهر للقيام بإجراءات عسكرية وسياسية وتنموية لاحتواء التمرد والمأساة الإنسانية معا. من ينظر إلى المواقف العربية تجاه مأساة دارفور، يجد درجة عالية من اللامبالاة، بما في ذلك على الصعيد الإنساني البحت، أو على الأقل الاقتراب الحذر من بعض الدول المحيطة بالسودان، وتحديدا مصر وليبيا. والغالبية العظمي تعول على تحركات الجامعة العربية وتري فيها تحركات كافية وكفيلة بأن تمنع الحرج واللوم. وتبدو المواقف العربية متأثرة إجمالا بعاملين، الأول مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية لدولة عربية أخري، وهو المبدأ الذي يساء استخدامه أحيانا بحيث ينتهي إلى درجة عإلىة من اللامبالاة بما يجري في أي بلد عربي آخر، والاكتفاء بمتابعة ما يجري فيه وحسب كأي قضية تحدث في مكان آخر من العالم. والثاني التعامل مع القضية من خلال القنوات الرسمية والحكومية وحسب. وكلا العاملين مسئولان عن عدم وجود روابط وعلاقات بين الدول العربية مجتمعة وأي من حركات التمرد في دارفور. وفي المقابل ونظرا لان حركتي التمرد في الإقليم السوداني ترفعان شعار المواجهة بين العروبة والزنوجة، فمن الطبيعي أن تكون امتداداتهم وتطلعاتهم نحو بلدان أفريقية كتشاد وأفريقيا الوسطي المتصلين حدوديا بإقليم دارفور، وليست نحو بلدان عربية. في ظل هذه البيئة العامة تبرز ثلاث تحركات عربية. الأول تحرك الجامعة العربية، والمتمثل في إرسال بعثة إلى إقليم دارفور في نهاية شهر أبريل ومطلع مايو الماضيين، والتي قدمت تقريرا حول أوضاع الإقليم والأسباب وراء المواجهات بين القبائل. وقد تضمن التقرير عددا من التوصيات من بينها إرسال ممثلين للجامعة العربية في اللجنة السداسية المنبثقة عن اتفاق نجامينا بين الحكومة وحركتي التمرد بشأن وقف إطلاق النار وتحسين الأوضاع الإنسانية، وتدبير مساهمة مالية مناسبة من الجامعة العربية لدعم نشر مراقبين من الاتحاد الإفريقي للإشراف على وقف إطلاق النار، وان ترسل الجامعة خبيرين على الأقل للمشاركة في لجنة مراقبة وقف إطلاق النار، وتنظيم مؤتمر عربي لدعم التنمية في دارفور، وإرسال معونات إنسانية عاجلة، ومساعدة حكومة الخرطوم على نزع أسلحة الميليشيات في الإقليم وغير ذلك من التوصيات، التي يبدو أنها ضلت طريقها في التطبيق، أو ربما لا تجد الحماس الكافي من الدول العربية الأعضاء في الجامعة. وإذا كان إرسال بعثة من الجامعة العربية لاستطلاع الوضع ميدانيا في الإقليم، يمثل خطوة لا بأس بها، فإن تفعيل توصيات البعثة يعد المحك العملي الفارق بين الجدية العربية الجماعية وبين ادعائها نظريا، وذلك في مجال مهم ويدخل تحت بند مساعدة دولة عضو على الاستقرار الداخلي وتقويتها في مواجهة ضغوط خارجية أمريكية وأوروبية هائلة. وفي إطار التفعيل العربي المطلوب أيضا فإن زيارة لامين الجامعة العربية عمرو موسي إلى إقليم دارفور واستطلاع الوضع ميدانيا تعد مسألة ملحة ومهمة للغاية، خاصة وان من زاروا الإقليم حتى الآن، ككوفي عنان وكولن باول واللجنة الأمريكية، وغيرهم من مسئولي المنظمات الإنسانية، كانوا محملين مسبقا بإدانة حكومة الخرطوم وتحميلها مسئولية تدهور الوضع هناك. وإذا ما قام عمرو موسي بمثل هذه الزيارة فإنها ستكون بمثابة تعبير عملي ورمزي على رفض توقيع عقوبات على السودان، وعلى تأكيد وقوف الجامعة وراء الحل السلمي المتوازن لازمة الإقليم، وعلى أن العرب لن يتخلوا عن مساعدة السودانيين أيا كانت أصولهم العرقية في ظل هذه الظروف الصعبة والمعقدة. أما التحرك الثاني فيتعلق بتحرك ليبي صرف، وله طابع إنساني بالدرجة الأولى، والمتمثل في توقيع مذكرة تفاهم مع برنامج الغذاء العالمي من أجل فتح ممر آمن عبر الأراضي الليبية للوصول إلى أهالي الإقليم وتقديم المساعدات الغذائية لهم. والتحرك الثالث والأخير، فيتعلق بموقف مصر المساند لحكومة الخرطوم في رفض توقيع أي عقوبات في هذه المرحلة والمناداة بمنح المزيد من الوقت حتى تثمر الإجراءات الخاصة بنزع أسلحة الميليشيات. والجديد في الموقف المصري يتمثل في إعلان النية للتقدم للاتحاد الإفريقي بالمشاركة في لجنة مراقبة وقف إطلاق النار، عبر إرسال مراقبين مصريين. وأهمية مثل هذا التطور انه يعكس رغبة في ألا تبتعد مصر عن أزمة دارفور، كما ابتعدت عن أزمة ومفاوضات الجنوب السوداني. وفي حال مشاركة مصر في اللجنة المذكورة، فستكون الخطوة رغم ما فيها من رمزية غالبة، بمثابة تعديل في السياسة المصرية ككل إزاء الأزمات الداخلية السودانية. أهمية هذه التحركات العربية الثلاثة ليست قليلة، ولكن يظل هناك مساحة من التحركات العربية مطلوبة بشدة وبأسرع وقت ممكن، على الأقل إعلان رفض عربي جماعي واضح ودون أي لبس لفرض أي عقوبات دولية على السودان، وتنظيم بعثة إنسانية عربية لأهالي دارفور سواء كانوا من الأصول العربية أو الإفريقية، والإعلان عن اجتماع تحضيري لمؤتمر عربي لدعم التنمية في دارفور

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply