دارفور في مفترق الآفاق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

في الإنجليزية تعبير ترجمته التقريبية هي: "كلما أوشكت أن أسدد هدفاً، حولوا قوائم المرمى"، وهو يكني عن حالة من الضيق الشديد لدى شخص يتعرض لاختبار لا أمل له في اجتيازه، وذلك لأن أصحاب الاختبار يغيرون الأسئلة كلما أدركوا أن الذي يختبرونه قد أوشك على إحراز النتيجة الصحيحة، ولو أن ذلك الشخص تمكن من استذكار أسماء المليون من شهداء الثورة الجزائرية فسيغيرون له السؤال قبل أن يدرك النهاية، وقد يعلم ذلك الشخص حسن النية أو لا يعلم، أن المقصود حقيقة ليس هو الوصول إلى إجابة صحيحة بقدر ما هو إغراقه في دوامة الإجراءات لينصرف عن مباشرة أموره التي هي أولى بالمباشرة، وإذا لم يتبين صاحبنا حقيقة وضعه ويتداركه بحنكة فربما يفقد السيطرة، ويتحول إلى "مدفع مفكوك" يقذف دون تحكم في جميع الاتجاهات، بما ذلك في الاتجاه الصديق.

لا تخفى أوجه الشبه فيما صدرنا به هذه الكلمة وما يجري الآن بسبب أزمة دارفور، والذي ينظر إلى قائمة المطالب الدولية التي ينتظر من الحكومة أداؤها لا يتعب في تبين المناظرة بين الحالين، إذ لا يبدو ممكناً - مع استمرار هذا الوضع دون تغيير - أن تفلح الحكومة في تسديد الهدف أو الإتيان بالإجابة الصحيحة، فالامتحان يتبدل باستمرار.

إن مشكلة دارفور ليست صناعة أجنبية في أساسها، فهي مشكلة قائمة على معطيات فعلية ذات جذور في التاريخ والممارسة السياسية منذ الاستقلال، والثقافة المحلية المتميزة منذ أن كانت دارفور كياناً مستقلاً.

أما الافتراض بأن هناك جهات خارجية تستغلها فهو افتراض معقول، بل هو مقبول إذا فهمناه على أنه سنة طبيعية، فأعداؤك بالضرورة يتربصون بك، وينتهزون لحظات ضعفك، وأنت ينبغي أن تتربص بهم، وتستثمر لحظات ضعفهم، ولا مبرر لأن يكون هناك أي "زعل" في هذا الترتيب الكوني الطبيعي، مثلما أنك لا تغضب إذا تركت جرحك مفتوحاً فهجمت عليه البكتيريا وتكاثرت، هذه سنة طبيعية.

وطيلة تجربتي المهنية كطبيب، وتجربتي الإنسانية كشخص لم أرَ أحداً غاضباً لأن جرحه قد التهب، قد يتألم، أو يحزن، أو يخاف من النتائج والآثار، لكنه لا يغضب على جنس البكتريا، الشخص السوي المتماسك لا يتصرف في مثل الأزمة القائمة في السودان بمفهوم "كيف تفعلون بي هذا أيها الأوغاد؟ " إنهم يفعلون ذلك بالضبط لأنهم أوغاد وهذه وظيفتهم، تماماً كما أن وظيفة البكتريا هي إفساد الجرح المفتوح، والتصرف المنطقي هو البحث عما يعالج الأزمة دون إحساس بالغضب ممن يستثمرونها، كما تعالج البكتريا بالعلاج المناسب مما سيؤدي لا محالة إلى قتلها، أيضاً دون أحاسيس بالرحمة والرأفة تجاهها، أو الأسف على نكبتها، هذه هي الاستجابة الصحيحة ممن يتعامل وفق السنن الجارية.

إن أحاسيس الغضب والحزن واليأس والحيرة والضيق والتبرم كلها داخلة في حيز الطاقات السالبة، هي طاقات، وطاقات جبارة لأنها تدفع الإنسان ليفعل ما لا يفعله في أحواله العادية، لكنها أيضاً طاقات سالبة، تقود الإنسان في أحيان كثيرة ليجترح كبائر تتفاوت ما بين القتل الإجرامي والانتحار، أو ما بين هذين النقيضين من أفعال مدمرة للذات أو للآخرين.

إن الإذعان للطاقات السالبة، والارتهان إلى سيطرتها على الذات حالة تصيب الشخصيات المعنوية كالدول والتنظيمات، مثلما تصيب الشخصيات الطبيعية كالأفراد، وكثير من الأمراض التي تصيب بني البشر في ذوات أشخاصهمº تصيب أشباهها كياناتهم الجماعية وتنظيماتهم، وردة الفعل الصحيحة هي في انهماك الفرد أو الكيان، مثل الدولة، في معالجة لب الأزمة، وجوهر الداء بدلاً من الانشغال بالإجراءات، وإنفاق الوقت في التدابير الشكلية أو الانصرافية، التصرف بسوى ذلك مدعاة لأن يفقد المرء سيطرته على نفسه وعلى الموقف، ويصبح متحكماً فيه وفي استجاباته وأفعاله تحكم "الماتادور" بخرقته الحمراء في الثور الهائج، الاستجابة الصحيحة هي إذن الانشغال بمعالجة الأزمة، لا بمعالجة المعالجة، بالمرض لا بالعرض، بالجوهر لا بالإجراءات.

وفيما يلي جملة من الأفكار، هي محاولة لتفكير منتظم يثمر وصفة للتعامل البنّاء مع الأزمة التي يجد السودانيون أنفسهم جميعاً في قبضتها.

لقد ترددت كثيراً في الكتابة في هذا الموضوع الشائك لعدة أسباب، منها أنه فعلاً شائك ومحفوف بالألغام، والحديث فيه مجلبة لسوء الظنون، لكن عدداً من الأصدقاء والمعارف أخذوا يتهمونني مؤخراً بالصمت "المريب"، ويرمونني بكتمان الحق، وبما أن القضية أصبحت الآن ملكاً للسودانيين، وليست ملكاً لفئة منهمº فإنني أطمع أن تتأتى فائدة عامة من مساهمتي بالرأي في هذه الساحة العامة.

أولاً: هناك مشكلة خطاب واضحة، إن الأزمة شائكة ومعقدة، والأليق أن يكون الخطاب حولها حكيماً وصائباً، وأن يعبر تعبيراً دقيقاً عن المواقف والآراء، ويشخص الأزمة ويصف طرائق علاجها، والخطاب جزء مهم من المعالجة لأنه دال على مواقف صاحبه ورؤاه ومبادئه، ومن خلاله يتعامل المرء مع البيئة العقلية والنفسية التي تتلقى الأزمة وتتصورها بحسب تلقيها لها من خلال العرض الإعلامي.

الخطاب مهم في الأساس للجمهور الموالي، لأن القائد يتعامل مع رعيته من خلال تعبيره العام، إنه لا يلتقي بهم أفراداً، ولا يجتمع مع غالبهم، لكنهم يعرفون مقاصده ورؤاه من خلال خطابه.

والخطاب مهم أيضاً للأعداء والخصوم لأنه يحد الحدود، ويوضح النوايا، ويرسل الإشارات الضرورية في لحظات قد تكلفك فيها الإشارات الخاطئة حياتك، وحياة من معك. الخطاب الواثق المعبر هو أول واجهة للتعامل مع الأزمة، "في البدء كان الكلمة" وأول آية أنزلت "اقرأ"، لأن الكلمة هي البيان الأول، وصاحب الحق بلا بيان "ملاك أخرس"، كما أن صاحب الحق ببيان أخرق هجين بين ملاك وشيطان.

إن الخطاب الذي يصف مشكلة دارفور بأنها محض مؤامرة خارجية هو مصادرة عن المطلوب، والتفاف وراء ادعاء سطحي لا يغني شيئاً أمام الحقيقة الشاخصة المحسوسة، وهروب من الواقع، ومغالطة للتاريخ، وأجدر الخاسرين بالخسارة من يغالطون التاريخ، لأن التاريخ الثابت هو حقائق ماضية وليست حقائق مستقبلة، والمغالطة فيها لا تورث صاحبها مصداقية الرواية، ولا عدالة السند والخطاب الذي يصف ما يجري بأنه مؤامرة على الإسلام لا يضيف شيئاً مفيداً ولا جديداً، ليس لأنه غير صحيح، لكن لأنه في هذه القضية بالذات يراه كثيرون - حتى من الموالين - خطاباً مستهلكاً، وهو ليس تشخيصاً متفقاً عليه من قبل جميع المسلمين، على الأقل ليس من أهل دار فور، ومثل هذا الخطاب يستفز بعض الناس ليتساءل عن مشروعية التجربة التي تفقد باستمرار أضخم رصيد إسلامي، إنساني، وسياسي، وثقافي وجهادي، مثلته دارفور في كل حقبها التاريخية، وفي حقبة الإنقاذ بوجه خاص، أو قد يغري آخرين ليلقوا بأسئلة صعبة: لقد تلقفت السفارة الأمريكية مثلاً هذا الضرب من التعبير فأثارت في بيانها حججاً لا تخلو من ذكاء، قالت السفارة في بيانها: إن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لم يصنعا مشكلة دارفور في الأساس، وهذه حقيقة، وقالت: إن مشكلة دارفور هي بين مسلمين وبذلك لا مكان للحديث عن حرب على الإسلام، وكأن السفارة تقول: "حسن، نحن نعادي الإسلام وفق ما ترونه أنتم، ولكن ماذا فعلتم أنتم لتحلوا مشكلاتكم مع أبناء دينكم المسلمين وأبناء وطنكم؟ " ومثل هذه الحجج لن تعدم من يتأثر بها ويوافقها وسط قطاع واسع من المسلمين ومن السودانيين عامة.

ثانياً: هناك مشكلة إعلام، والإعلام والخطاب ليسا شيئاً واحداً، الخطاب يتعلق بمضمون الرسالة ومحتواها، والإعلام بفنون إيصالها وعرضها، وخير مثال يمكن استيراده في هذا الصدد هو النصر الساحق الذي حققه السودان على الولايات المتحدة في حادثة قصف مصنع الشفاء، إن أفضل ما في ذلك الانتصار هو أنه تحقق بأثر أجهزة الإعلام الغربي نفسه لا بأثر أجهزة الإعلام السودانية التي ما كانت لتضاهي أجهزة الغرب في قوتها وخبراتها، لقد اتبع السودانيون في تلك الحادثة قاعدة بسيطة في فنون المصارعة وهي استخدام ثقل الخصم للإيقاع به، ولاستخدام ثقل الخصم كان لا بد من الانفتاح الإعلامي، وتوجيه بؤر التصويب نحو الحقائق التي تعري حجج الخصم. وكانت أهم رسالة تحد وجهت يوم ذاك هي الدعوة للزيارة والنظر والتحقق من ادعاء الولايات المتحدة أن المصنع ينتج غازات سامة، ترى أليس في حقيقة أن الأمم المتحدة والمنظمات - برغم تصايحها حول تردي الأحوال الإنسانية في دارفور - لم تستطع أن توفر أكثر من خمسين بالمائة من الاحتياجات، أليس في ذلك سانحة لإيضاح أن التقصير ليس من الحكومة وحدها، بل يشترك معها فيه السيدان عنان وباول اللذان زارا المعسكرات، وذرفا الدموع الغزيرة على معاناة أهلها.

ثالثاً: هنالك مشكلة مبادرة، إن المنهج الكاسب هو الذي ينطلق من موقع المبادرة والفعل والاستباق لا من موقع السلب والتلقي، وليس من شيء أضر بصاحبه في المعركة من افتقاد المبادرة، الشيء الذي يستدعي مرة أخرى صورة مصارع الثيران "الماتادور" الذي يحرك الثور كيف شاء، لا خلاف على أن الثور هو الأقوى جسدياً ومعنوياً أيضاً، لأنه المظلوم المعتدى عليه، لكن الجماهير المتعطشة للدماء لا تأبه لهذه الحقائق، وتفضل أن تشجع المصارع لأنه الذي يحرك المشهد، ويسيطر على جدلية المصارعة، ويتحكم في تسلسلها.

ومن فرط فقدان المبادرة فإن الذي يتابع تسلسل الأزمة، وصورة المشهد القائم الآن في المواجهة بين الحكومة والولايات المتحدة والأمم المتحدةº يرد إلى مخيلته ما يذكره بالجولة الخامسة عشر في مباراة ملاكمة دامية ظلت منذ بدايتها من جانب واحد، وهذا شيء لا يعزي أي مواطن يرتبط وجوده ومعاشه ببقاء السودان موحداً مطمئناً متفيئاً ظلال السلام.

لقد رددت من قبل كثيراً قاعدة هامة في التكتيك العسكري أن "الموقع هو نصف النصر"، وإدارة المعركة السياسية تشابه إدارة المعركة العسكرية، مبادئ التكتيك العسكري تدعو إلى امتلاك المبادرة، والوضعية المكانية الأفضل في المعركة، باحتلال الأرض الحاكمة قبل العدو، وفي المعركة السياسية أيضاً توجد أرض حاكمة معنوية من يحتلها أولاً يمتلك المبادرة، وفي المعركة الحالية التي هي مقدمة سياسية لسيناريو عسكري بادرت الولايات المتحدة والأمم المتحدة إلى احتلال الموقع الحاكم بتصوير الأوضاع في السودان بأنها مأساة إنسانية، وبتكريس صورة الحكومة التي تفرط في واجباتها ومسئولياتها الأخلاقية تجاه مواطنيها، بل التي تعتدي على الأبرياء من مواطنيها، وتعين على قتلهم وتشريدهم، وظلت الولايات المتحدة وحليفتها الأمانة العامة للأمم المتحدة تديران المعركة في متابعة هجومية قاسية احتكرت لهما السبق والسيطرة الكاملة على الأحداث حتى الآن.

رابعاً: هنالك مشكلة مشروعية، إن أسوأ ما في مشروع القرار الدولي المعروض الآن أمام مجلس الأمن ليس هو العقوبات كما يتبادر إلى الذهن، أسوأ ما فيه هو تكريس صورة انتقائية للواقع السوداني تقسم المجتمع إلى عرب وغير عرب، ثم ترمي الثقافة العربية بالهمجية العدوانية، ثم تقرر أن الحكومة هي راعية ذلك العدوان، وتزيد بأن تتهم الحكومة بالتقصير في أداء واجباتها الإنسانية تجاه مواطنيها.

إن معظم الذين اطلعوا على صيغة مشروع القرار انشغلوا بأمر العقوبات، لكن العقوبات في الحقيقة هي أهون بكثير من تكريس الصورة التي أشرنا إليها، لأن العقوبات كالحكومات تجيء وتمضي، أما استنبات علاقة صدامية صراعية في المجتمع كالتي ترمي إليها الفقرات الافتتاحية في القرار الدولي فإنه يستخرج دابة مسخاً تكلم الناس، وتغتذي كل يوم من عصارات الكراهية، ونقاعات الحقد، الحكومات تذهب وتأتي، وتنفض وتلتئم، لكن المجتمعات إذا ذهبت روابطها لم تجتمع مرة أخرى، وإذا انشعبت مفاصلها لم تلتئم، والأمثلة شاهدة وشاخصة في البوسنة، وفي صربيا، وفي العراق أخيراً، ولو كنت في موقع الاختيار، لاخترت العقوبات على تلك الفقرات التشخيصية في القرار الأبعد خطراً من العقوبةº إنها حيثيات القاضي التي يبني عليها حكمه، ويضع بها الأساس الشرعي والقانوني للعقوبة، والذي يقوله القرار ويهدف إليه في المحصلة النهائية هو أن الحكومة لا تملك المشروعية ولا الأهلية لكي تحكم، وأن ذلك مبرر كاف لتنحيها واستبدالها.

خامساً: هناك مشكلة تحالفات ومناورة دبلوماسية، فلأول مرة منذ حملة إصدار قرارات مجلس الأمن ضد السودان في عام 1996 تتحالف أوربا والولايات المتحدة والأمانة العامة للأمم المتحدة في موقف موحد ومتصاعد بوتيرة مستقرة ضد السودان، حتى المجموعة الأفريقية تتحرك الآن وفق ما يعرف في قوانين الطبيعة بدفع القصور الذاتي نحو الانضمام إلى هذه الكتلة، والقصور الذاتي هو حركة الجسم في غيبة طاقات الدفع أو المنع الخارجية.

سادساً: هناك مشكلة أولويات وتركيز، وهي مشكلة تتجلى بأفضل صورة في مثالين، المثال الأول يظهر فيه جون قرنق وهو يقتنص اللحظة التاريخية بعد توقيع اتفاقية السلام، ويعيد عرض نفسه أمام الشعب السوداني بصورة البطل القومي، نصير المستضعفين، وحامي الديمقراطية، وداعية إثبات الحقوق، ورفع المظالم، بينما تبدو الحكومة غير مشغولة بتاتاً بهذا النوع من الخطاب الذي يجدد شبابها، ويؤلف قوى المجتمع الفاعلة حولها، بل تبدو أكثر مشغولية بملاحقة قيادات المؤتمر الشعبي الذين دخلوا المعتقلات ثم خرجوا منها، وريثما دخلوا ثم خرجوا تحير النظارة من أبناء الشعب السوداني الذين لم يكد يفهموا معضلة لماذا دخلت هذه القيادات المعتقلات حتى دهمتهم معضلة أعقد منها وهي: لماذا خرجت؟

المثال الثاني يتضح في طريقة التعامل مع مجتمع دارفور، لقد بدأت الحكومة معالجة الأزمة بمنهج صحيح، وأرسلت إشارات بناءة عندما شرعت في الدعوة لمؤتمر جامع لأبناء دارفور ليقرروا حل مشكلاتهم بأنفسهم، وبدأت اللجنة التحضيرية أعمالها بجد، لكن الحقيقة التي لا تخطئها العين الآن هي أن المؤتمر ما عاد سوى أصداء ذكرى مبهمة تتردد في أودية النسيان، كانت فكرة المؤتمر صحيحة لأن الجميع يعلم - بمن فيهم حاملوا السلاح في دارفور ومن يؤيدهم - أن الثقل الحقيقي والفاعل لمجتمع دارفور هو في أبناء دارفور من غير حاملي السلاح، لكن التركيز والاهتمام بدأ يتجه شيئاً فشيئاً نحو حاملي السلاح، الذين كان أقصى مطمحهم في البداية هو محض نيل الاعتراف بهم، فأصبحوا اليوم هم الذين يتمنعون على المفاوضات، ويملون الشروط المسبقة، إنه نفس الخطأ التاريخي الذي كررته الحكومات المتعاقبة حين كرست الاعتراف بحاملي السلاح في جنوب السودان على حساب الأغلبية ذات الثقل والولاء الوطني، وهو ينذر بأن يبلغ نفس المدى الذي وصل إليه في الجنوب، وإذا لم يتغير منهج التعامل بصورة ما فسيصبح الخيار الجاذب لأبناء دارفور هو تحصيل المطالب من خلال التسلح والتمرد.

المشكلات المذكورة مشكلات عويصة ومقيدة لخيارات حكومة تواجه أكبر تحدي بقاء منذ وجودها، لكنها لئن كانت عويصة فإنها ليست عصية على العلاج، وعلاج الداء يبدأ بتشخيصه، وطريق المفازة مليء بالمكاره والاصطبار، قليل المعاجيل والاختصارات، لكنه موجود دائماً، وكثيراً ما يسألني بعض الشباب في هذه الأيام المدلهمة: هل هناك أمل؟

فأجيبهم إن الله صمم هذه الحياة وأخفى في تضاعيفها مواطن الأمل، ولذلك أودع في الإنسان غريزة البحث عن الأمل، وأمره بإرهاق المسعى، ونهاه عن اليأس.

أولاً: إن استرداد المبادرة والمشروعية كليهما ما يزال في دائرة الممكن، هما يمكن استردادهما في المقام الأول باتخاذ خطوات جادة لمعالجة الأزمة في جذورها، خطوات تتوجه إلى مواطني دارفور وإلى الشعب السوداني كله، وترسل إشارات سياسية قوية لا يمكن ازدراؤها أو تجاهلها، تتمثل الإشارات القوية إلى أهل دارفور في أن معاناتهم قبل أن تكون موضع اهتمام الحكومات والمنظمات الأجنبية هي من صميم اهتمامات حكومتهم التي هي راعيتهم والمسئولة عنهم أمام الله والتاريخ، إننا مهما قلنا عن تضخيم حجم المعاناة والانتهاكات في دارفور، فإن أصل الحقيقة فيها لا يمكن إهماله وتجاوزه، ومن قبل قررت الآيات أنه "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فقد أحيا الناس جميعاً".

العبرة إذن بأصل الجناية لا بعدد الجنايات، وسمة الحاكم المسلم المتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أنه "بالمؤمنين رءوف رحيم"، وعيب أن يرى الناس الرحمة - وإن كانت رحمة مصطنعة وموظفة لأغراض أصحابها - تأتي من الآخرين.

تتمثل خطوات استرداد المبادرة وتأكيد المشروعية أيضاً في التزامات قوية نحو مراجعات جذرية لبنود الصرف القومي وأولوياته، بحيث تتقدم البنود التنموية والإنسانية، ونحو إعادة تشكيل الساحة السياسية ومؤسسات الحكم على المستويات المركزية والولائية لمصلحة مزيد من تقوية البناء الوطني، وتوسيع دائرة اتخاذ القرار، خطوات كهذه تتطلب شجاعة كبيرة حقاً لكنها لا بديل عنها، وصعود الجبال ظل أبداً يستوجب طاقة كبيرة، وعزيمة قوية.

واستعادة المبادرة ممكنة وواجبة أيضاً في العلاقات الدولية باتخاذ موقف هجومي مبادر ينبني على قراءة دقيقة لمعادلات القوة، ومواطن الحصانة والضعف في الموقف الدولي، واحتمالات التحالف الإقليمي والدولي، ويتطلب ذلك أن تجتهد الحكومة في إطلاق مبادرات في العمل الإنساني تتفاعل مع الأزمة الإنسانية، وتمتص محاولات استغلالها وخلطها بأوراق هذه القضية، ويتطلب ذلك أيضاً جهوداً دبلوماسية نشطة وحثيثة ومصوبة على أهداف محددة ترمي إلى تمتين التحالفات الدبلوماسية مع الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية، وتحول دون انجراف هاتين المنظمتين في اتجاه الكتلة الأخرى.

وتتطلب المبادرة السياسية كذلك التعاطي مع أبناء دارفور جميعاً وليس حملة السلاح وحدهم، والتفاعل النشط مع الساحة السياسية الوطنية العامة في هذه القضية وبقية القضايا الأساسية التي تشغل الساحة، في كل تلك الأصعدة تكمن فرص كبيرة ومساحات رحبة لإدارة المعركة بذكاء.

لا يمكن مغادرة الحديث عن استعادة المبادرة دون التعرض للموضوع المجتنب دائماً عن القوات المسلحة، إن المشكلة الراهنة ما كان لها أن تتفاقم في ظل قوات مسلحة قوية ومقتدرة، فالقوات المسلحة وقوات الشرطة هي المعنية أساساً بحماية المواطنين وممتلكاتهم، والحجز بينهم في تعاديهم، وهما أداة الحاكم العادل الذي من أوجب واجباته في الشرائع السماوية والوضعية هي حماية دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، وهي الحرمات التي تتعرض للانتهاك الآن من جميع الأطراف، لو أن القوات المسلحة دعمت ومكنت حقاً من أداء واجباتها لما لجأ المواطنون إلى سباق التسلح الذي فجر الأزمة.

إن دعم القوات المسلحة لا يمكن اختزاله فقط في توفير الموارد المادية، بل يعني المعالجة الناجزة لكل المشكلات الإدارية والبنيوية والمفهومية التي تعوق أداءها، هذه مسألة لا تخص القوات المسلحة وحدها، بل تخص الأمن الوطني كله، والمجتمع برمته، والأوضاع في دارفور بكل مضاعفاتها الأمنية والإنسانية لن تعود تحت السيطرة والسيادة الوطنية إلا باستعادة القوات المسلحة وقوات الشرطة لتحكمها بالأوضاع، بعدم ذلك ستكتسب الأصوات العالمية المنادية بالتدخل بالذرائع الإنسانية وبحجة تقصير الدولة في حماية مواطنيهاº مزيداً من الارتفاع، ومزيداً من المشروعية.

ثانياً: إن أغبى سياسة في هذه الظروف وأشدها ضرراً هي سياسة التكميم، وقتل المبادرات في المجتمع، لقد لاحظت الرصيد الهائل في المجتمع السوداني عامة - للتفاعل المسئول مع تداعيات الأزمة - لو لم يكن السبب في ذلك إلا إدراك الناس جميعاً أن البلوى عند وقوعها تعم ولا تخص، وتدهم ولا تميز بين المذنب والبريء، لكفى. والمطّلع على صفحات الجرائد هذه الأيام يلمس ذلك التداعي العفوي نحو نداءات الوحدة الوطنية، ويدهش المرء لتنوع الطيف السياسي الذي يبدي استعداده للنصيحة والتعاون، حتى من بين الأعداء التقليديين للحكومة، صحيح أن لدى الكثيرين حذر من أن تصادر الحكومة هذا الرصيد الضخم لمصلحتها، ومصلحة المؤتمر الوطني، لكنهم برغم ذلك وفي ضوء الظروف التي تظلل البلاد مستعدون "للمغامرة مرة أخرى" في مشروع وطني يرجى ألا ينتهي إلى ما انتهت إليه مبادرة الوفاق الوطني التي انقسمت، ثم انقسمت، ثم تلاشت.

لكن المشروع الوطني لا يختزل في حشد نجوم السياسة لإخراج البيانات، ووضع مشروعات تقسيم للغنائم والوزارات، إن الغلبة الغالبة من الناس هي من غير المنتمين حزبياً، وهي لا تسلّم بفكرة أن تصادر حقوقها ومساهماتها لمصلحة انتماءات وعصبيات محدودة، المشروع الوطني هو في جوهره إقامة العدل والسوية بين الناس جميعاً بحيث لا تخطئهما العين في الخرطوم أو في دارفور أو في الشرق أو في الجنوب، وبحيث يستيقن الجميع أن هذه الحكومة هي حكومتهم، وأنهم أصحاب حق فيها مثل أي واحد من قادتها، المشروع الوطني يلخصه حديث الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "خيار أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتدعون لهم ويدعون لكم، وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم"، إن أي حاكم جاد ينبغي أن يقيس قبوله ومشروعيته الشعبية والدينية بهذا المقياس.

الحاكم المؤيد الواثق لا يخشى شعبه الواقف من خلفه، والذي يخشى شعبه سيظل دائماً يرمي بلحظه إلى الوراء، وسينشغل عن العدو الراصد أمامه، والذي لا يخشى شعبه لا يخشى مبادرات شعبه، بل هو يطلبها ويشجعها ويسعى إليها، والشعب لا يبادر ولا يتفتق عقله في مناخ الخوف والمحاذرة، وأيما سياسة دعت إلى التنكيل والانتقاء والانتقام وتصفية الحسابات مع الخصوم في هذه الأيام هي سياسة قاتلة.

إن استنفار الرصيد الشعبي الهائل الذي أشرنا إليه لا يتأتى إلا بمزيد من الانفتاح نحو الناس، ونحو أفكارهم ونحو مقترحاتهم، هذا هو الزمان الذي تنطلق فيه الحريات من عقالها قبل أن تفرض نفسها بقوة الآخرين، فيحصدون الفضل، ويجنون الثمرة، إن مشروع الحكومة للتصدي لما يجري إن تلخصت في محض إجراءات تقييد وتكبيل، لا في اجراءات تعزز الطلاقة والتناصر في المجتمع، فستكون حكماً بالانتحار البطيء.

ثالثاً: معلوم ومقبول ومشروع أن تنطلق دعوات المقاومة والتصدي للعدوان المحتمل في مثل هذه الظروف، لكن أي مشروع مقاومة لا ينطلق من قاعدة وحدة وطنية محكوم عليه بأن يولي أصحابه الأدبار عند أول لقاء مع العدو، هكذا حكت كل تجارب التاريخ وآخرها تجربة العراق، ولن يسعف النصر أحداً أن يظن أن الحق معه، وإن ظل يصرخ بأعلى صوته حتى آخر لحظة أن الحق معه، ما لم يستوف شرائط النصر، فالحق تحرسه القوة، والقوة منوطة بالوحدة، هكذا قضت سنن الكون، وهكذا قالت تجارب البشرية، وهكذا حدثت الكتب السماوية، حتى إن هارون اعتذر لأخيه موسى حين عنفه على تغاضيه عن شرك بني إسرائيل قائلاً " إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي"، والرسول - عليه الصلاة والسلام - جعل أكبر همه لأول مقدمه المدينة أن يمتّن وحدة الجبهة الداخلية، فعقد العقود، وكتب الوثائق مع أهل المدينة وما حولها من اليهود والأعراب، وهو قد تغاضى عن المنافقين، واحتمل أذى كبيرهم عبد الله بن أبيّ حتى آخر لحظة من حياته، قائلاً لعمر: "بل نترفق به، ونحسن إليه" وامتنع عن قتله، وقد جاء بأشنع الأفعال "حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه".

إن أي مشروع مقاومة يعطي الانطباع بأنه في النهاية دفاع عن فئة دون الآخرين، أو أنه حماية لمصالح مجموعة ضيقة من الناس، لن يفلح في استنفار أقرب الأقربين، وإن رفع شعار الإسلام.

المقاومة الحقيقية تعرف كيف تنشأ من لاشيء ثم تنمو وتتعاظم، تعرف كيف تنتصر وتغلب، تعرف كيف تعلو وتقهر في المحصلة النهائية عندما يدفعها إيمان ينطلق من قاع صدر مفعم بالإيمان بالحق وبالمشروعية، مقاومة كهذه لا يصطنعها مصطنع، بل تتفجر وتتدفق من وجدان الشعوب حقيقة قاهرة غلابة، حتى إن ولت الحكومات أدبارها. هكذا فعل الشعب الفرنسي مع ألمانيا النازية بعد أن أطيح بنظامه وبحكومته، وهكذا فعل أهل دمياط مع لويس التاسع في حملته الصليبية منتصف القرن الثالث عشر عندما أسرته المقاومة التي أنشأها وقادها عامة المصريين بعد أن انهار نظامهم وسلطانهم في القاهرة، أسر لويس القديس، وأذل بسجنه في دمياط أعواماً عديدة وتوقفت الحملات، والذي أنجز ذلك كانوا هم من نسميهم العامة والدهماء، في كل تلك الحالات نجحت المقاومة بالذات لأنها لم تكن دفاعاً عن أفراد أو فئات، بل لأنها كانت دفاعاً عن عقيدة ووطن، عن حق مجمع عليه.

لن تفلح مقاومة والبلاد تمضي نازفة، وأهل دار فور خصوصاً الذين كانوا بالأمس ذخيرة الجهاد وعدته في المهدية، وفي الإنقاذ، هم اليوم بين ناقم متمرد، ومغبون مقهور، وحائر صامت، لن تفلح مقاومة والمجتمع منقسم، والحركة السياسية مشرذمة، وكثيرون لن يتبرعوا حتى بأن يرفعوا أصواتهم بالتأييد المعنوي، وآخرون لا شك سيرمي بهم الشيطان في أحضان الشماتة، هكذا قضت سنن التاريخ.

وأخيراً: فإن الذي يصدق آفاق هذه الرؤية أو يكذبها هي القيادة الملهمة، والقيادة الملهمة هي التي تثبت في مثل هذه الظروف، ثم تنهض وتشمر وتجتهد، لا تخطئها عين في تشميرها واجتهادها، القيادة الملهمة هي التي تتقدم وتصوب وتستحث، لا التي تنكمش وتتردد وتتقاعس، القيادة الملهمة هي التي تقدم القدوة، وتستوفي العزم، وتستكمل الحزم، وبدون ذلك ستبقى مثل هذه الرؤية محض كلمات طنانة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply