دارفور .. ومواجهة الحقيقة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بين يدي المشكلة:

يملكنا نحن المغلوبون على أمرنا في العالم العربي خصوصاً، وفي العالم الإسلامي عموماًº - حاكمين ومحكومين - أن نعد كل شيء يأتي من الغرب إما "طاهر مقدس، وإما دنس حقير"، بنظرة حدية بالغة السذاجة كما يقول مالك بن نبي - عليه رحمة الله -، وذلك بفعل عدم قدرتنا على إدراك الأمور في عمقها وشمولها، وفهم مختلف أبعادها.

فنجد أنفسنا أمام موقفين لا ثالث لهما، فالذين يعتقدون أنهم يوالون الانتماء الحضاري الإسلاميº يرون في كل موقف غربي أنه تحامل على الإسلام والمسلمين، وحضارتهم ووجودهم، أما المنتمون إلى التغريب من أبناء المسلمين فيهللون لكل ناعق من العالم الغربي، دون تفحص لما يقول أو يفعل، وذلك بحكم الاغتراب الحضاري الذي يعيشونه، وكلا الطرفين مجانب للصواب، فإنه ليس كل ما يأتي من الغرب شر، وليس كل ما يأتي منه خير.

وفي هذا الإطار فإنه لما تعالت أصوات جمعيات حقوق الإنسان الغربية منددة بما يقع في دارفور، وتبعتها حكوماتها في التهديد بالعقوبات والتدخل العسكري في السودان، ثارت ثائرة المتعاطفين مع الانتماء الحضاري الإسلامي للسودان مدافعين عن حكومته، وعن استقلال قراره، ومكذبين جملة وتفصيلاً ما يشاع عن أحداث دارفور، والصراع الخطير الدائر في ذلك الجزء من السودان.

ولكن هل وقف أحد منا وتساءل عن إمكانية أن يقع فعلاً مثل ما وقع في دارفور، وليس خداعاً إعلامياً غربياً بحثاً عن هدف جديد بعد أفغانستان والعرق؟

هل نزل المتعاطفون مع الانتماء الحضاري الإسلامي للسودان إلى أرض الواقع وشاهدوا ما يقع، وتحققوا من مجريات الأمور؟

هل كلف أحد نفسه بسؤال السودانيين الآخرين الذين لا يؤيدون حكومة الخرطوم عن حقيقة ما يجري؟

إن مناصرتنا للسودان مجتمعاً ودولة - وليس حكومة ونظاماً - يفرض علينا أن نتبين الأمر، فإن كان فيه مزايدة أحضرنا بياناتنا التي تبين كذب الافتراءات، وإن كان في الأمر حقيقة وقفنا مع الحق، وصدعنا في وجه الحكومة السودانية ألا تورط السودان في حرب أهلية أخرى، وفي مشروع تقسيم آخر، وألا تسمح بتآكل العالم العربي من أطرافه تعنتاً وحرماناً لحقوق مواطنيها في التعبير عن حقهم في العيش والاستقرار والأمن.

 

المشكلة موجودة ولا بد من الاعتراف:

إن مشكلة ما في دارفور لا يمكن إخفاؤها أبداً أو الادعاء بأن مليون مشرد ونازح إنما نزحوا بدون سبب أجبرهم على ترك أرضهم وديارهم وأموالهم، والتجمع في محتشدات تفتقد إلى أبسط شروط الحياة الإنسانية.

وإذا اعترف الجميع بأن هناك مشكلة فإن بحثاً حيادياً ينبغي أن يقوم في أسباب المشكلة، ولا مانع من أن تستعين الحكومة السودانية بخبراء - من الدول غير الاستعمارية -، بل نقول أن تستعين بخبراء من الجامعة العربية، أو من منظمة المؤتمر الإسلامي، وأهم الدول المؤثرة في سياستها مثل: مصر والسعودية وماليزيا وإيران وتركيا يشكلون لجان حيادية من خبراء يعاينون المنطقة، ويحققون في المسألة، ويبحثون عن المتسببين في الكارثة الإنسانية التي وقعت بين أبناء الوطن الواحد، والدين الواحد، ويزيلون بذلك أي فتيل للتدخل الدولي الاستعماري سواء أكان مباشراً من أمريكا وبريطانيا، أو تحت غطاء الأمم المتحدة أو النيتو كما حدث مع أفغانستان والعراق.

بل من مصلحة الحكومة السودانية ألا تبالغ في المعاندة في إنكار الكارثةº لأن من مصلحتها أن تقبل بتدخل دول إسلامية بخبراء مسلمين، لأن المشكلة وقعت بين مسلمين في بلد واحد، خير لها من أن تصير إلى تدخل احتلالي من أوربا أو أمريكا، أو من أي طرف آخر، وعندها يصعب التحكم في الأمور.

كما أنه من المصلحة للحكومة السودانية أن تباشر بفتح أبوابها للتعاون في مجال التحقيق، والحماية، وحفظ الأمن في المنطقة من قبل الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والدول غير الاستعماريةº لأن تتابع الأحداث يؤدي إلى ثلاث مخاطر كارثية على الحكومة والدولة والمجتمعº أولها: أن تمادي المشكلة واستمرارها، وإصرار المجتمع الدولي على اتهام الحكومة السودانية بالضلوع في التصفية العرقية قد يوصلها أو بعض أعضائها إلى محكمة جرائم الحرب.

 

وثانيها: أن تماديها في الامتناع عن طلب العون من العالم العربي، والعالم الإسلامي من جهة، وعدم قدرتها على التحكم في الأمور من جهة أخرى يؤدي إلى انهيار هيبة الدولة، وغياب القانون، ونشأة بل وتكاثر المليشيات المسلحة التي قد تزيد من حجم الكارثة.

أما ثالثها: فهو خطر التقسيم الذي يرعب كل مسلم يستشعر مدى خطورة هذه الاستراتيجية التفكيكية التي يراد لها أن تزدهر في العالم الإسلامي، ولذلك جعلناه في عنوان هذا المقال.

 

خطر التقسيم:

إن خطر التقسيم أكبر المخاطر التي تهدد السودان في وحدته الترابية والسياسية، كما تهدد بتآكل العالم العربي من أطرافه.

فبعد اتفاق مشاكوس الذي يمنح الجنوبيين حق تقرير المصير خلال ست سنوات، تبدو الأمور في دارفور أنها تسير في الاتجاه نفسه إذا لم تتدارك الحكومة السودانية الأمر في بدايته، وبالرغم من أن المتابعين يرون أن الأمر يختلف في دارفور عنه في الجنوب، فإن كثيراً من مراصد الصراع الفكري والسياسي في الغرب والشرق بدأت تعزف لحناً انفصالياً آخر، فإذا كان اللحن الذي يعزف في الجنوب هو التمايز الديني الإسلامي الشمالي والنصراني الجنوبي، فإن اللحن الذي بدأت قوى الاستكبار العالمي تعزفه هو اللحن العرقيº أي: أن الصراع بين عرب وأفارقة ولو أن كلا الطرفين يدين بالإسلام ويتمسك به، وهنا تكمن الكارثة والفتنة.

ولعل أحداً يتساءل: لماذا؟

نقول: إن التقسيم هو استراتيجية أمريكا والغرب بعد الحرب الباردة، وتريد أن تطبقه على العالم الإسلامي بأسره، ففي السعودية والعراق الصراع والتقسيم يكون على أساس طائفي (سني- شيعي)، وفي مصر يكون التقسيم ديني بين المسلمين والأقباط، وفي الجزائر والمغرب على أساس لغوي بين العرب والبربر، وفي ماليزيا وأندونيسا على أساس عرقي وديني مسلمين وهندوس وبوذيين، وملايو، وصينيين، وهنود... وهكذا.

أما السودان فغناه التربة الخصبة لذلك بفعل ترامي أطرافه وكبر مساحته من جهة، وبحكم انتمائه الإسلامي العربي الإفريقي في الوقت نفسه، وكذلك بحكم أن الحكومة التي تحكمه تدعي أنها تحكم بالإسلام، وتتبناه إطاراً دينياً وحضارياً لمشاريعها في بناء الدولة، ولهذا فإن مخاطر تقسم السودان كبيرة وكارثية إذا لم تأخذ الحكومة السودانية الأمر بجد.

وقد تعجبت من أن بعض المسؤولين السودانيين يعدون الأمر مجرد صراع قبلي من أجل مصادر الماء والكلأ بين قبائل منطقة دارفور، وقد سمعت هذا من حوار لموقع الإسلام أون لاين مع الأستاذ الدكتور حسن مكي (مستشار وزير خارجية السودان)، وكذا الحوار الذي أجراه الدكتور عصام البشير مع موقع الإسلام اليومº إذ قللا من شأن المشكلة، بينما العالم كله يشاهد عمق المأساة التي يتعرض لها مسلمون على أيدي مسلمين.

ولم يتنبها إلى أن التهديدات الأمريكية والبريطانية ليست رحمة بالمسلمين الذين يقتلهم إخوانهم المسلمون، وتتفرج عليهم حكومات المسلمين، وإنما هو استغلال للفرصة من قبل أمريكا واليمين المتصهين في البيت الأبيض لتعيق الشرخ، وتفتيت الوحدات السياسية الموروثة عن عهد الاستعمار والحرب العالمية الثانية، وإعادة تشكيل العالم العربي التي طرحها كولن باول (وزير خارجية أمريكي) منذ العام 2002م، والذي تطور ليصبح مشروع الشرق الأوسط الكبير، فهل تنتبه حكومة السودان، والحكومات العربية قبل فوات الأوان، وقبل أن نؤكل واحداً تلو الآخر؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply