إثيوبيا ترتكب خطأً تاريخياً بالتورط في الصومال


 

بسم الله الرحمن الرحيم

القدس العربي/ تقترب منطقة القرن الإفريقي هذه الأيام من لحظة حاسمة في تاريخها، تتحكم فيها مرة أخري العداوة التاريخية بين الجارين اللدودين: الصومال وإثيوبيا، وكما حدث من قبل أكثر من مرة فإن التعامل في هذه المنطقة يتسم بانتهازية كثيراً ما ارتدت على أصحابها، ففي عام 1977 تخيلت القيادة الصومالية تحت سياد بري أن فرصتها قد حانت في أعقاب الفوضي الثورية التي أعقبت انهيار نظام هيلاسيلاسي عام 1974 لكي تحسم مرة وإلى الأبد الصراع حول إقليم الأوغادين الذي تسكنه أغلبية صومالية.

وقد ظل الصوماليون يطالبون بضم ذلك الإقليم إلي الصومال الكبرى مع الأقاليم ذات الأكثرية الصومالية في كينيا إضافة إلى جيبوتي، وقد نجح الصوماليون في اجتياح الإقليم، ولكن الإثيوبيين استعانوا بمدد سوفييتي، وقوات كوبية لصد الهجومº قبل أن يردوا بدعم المعارضة الصومالية، وقد مهدت هذه الحرب التي استمرت قرابة العام لانهيار الصومال بعد أن أدى التعامل الوحشي إلى سقوط النظام، وتفكك البلاد.

الصومال بدورها ساهمت في تقديم الدعم للثورة الإريترية التي أدى نجاحها إلى فصل إريتريا عن إثيوبيا، وإن كانت الأخيرة تجنبت حتى الآن مصير الصومال في التفكك الذي كانت مرشحة له، ولكن ما حدث بعد ذلك كان مفارقة كبرى لأن إثيوبيا العدو اللدود والتاريخي تحولت منذ عام 1992 إلى الوصي الدولي المعترف به على الصومال، والمعروف أن جيبوتي في مفارقة لا تقل أهمية تولت في عام 1991 قيادة جهود الوساطة لحل الأزمة الصومالية بعيد سقوط النظام هناك (القوميون الصوماليون لم يكونوا يعترفون كذلك باستقلال جيبوتي المستعمرة الفرنسية السابقة)، ولكن تلك الجهود فشلت رغم عقد مؤتمرين للمصالحة خلال ذلك العام، وبعد فشل الدور الأممي والتدخل الأمريكي في عام 1992 عادت الكرة إلى ملعب إثيوبيا التي كلفت من قبل منظمات الإيغاد والوحدة الإفريقية والأمم المتحدة متابعة الملف الصومالي، وكان هذا يعتبر نجاحاً ضخماً للدبلوماسية الإثيوبية التي اجتهدت في منع دول أخرى مثل مصر والسودان وجيبوتي من لعب دور في القضية.

إثيوبيا للأسف لم تلعب الدور المنوط بها بكفاءة ولا بإخلاص، فقد انشغلت بتقديم مصلحتها الوطنية على المهمة الدولية التي كلفت بها، وظلت تؤجج الصراعات بين الفرقاء، وتعرقل الجهود الإقليمية والدولية الأخرى لحل الأزمة، ولكن بعد اندلاع الحرب الإثيوبية الإريترية في عام 1998 وجد المنافسون الإقليميون وعلي رأسهم جيبوتي الفرصة سانحة للعب دور.

وبالفعل رعت جيبوتي مؤتمر عرتة عام 1999، ونجحت في عام 2000 في تشكيل أول حكومة صومالية معترف بها إقليمياً ودولياً منذ سقوط سياد بري عام 1991، ولكن إثيوبيا سرعان ما أفاقت، وبذلت جهوداً جبارة لعرقلة عمل الحكومة الانتقالية ودعم المناوئين لها وعلى رأسهم رئيس الصومال الحالي عبدالله يوسف أحمد الذي كان يرأس إقليم بونت لاند المطالب بالاستقلال الذاتي، ورفض التسليم بسلطة الحكومة الجديدة.

هذا الموقف الإثيوبي ساهم إلى حد كبير في الوضع الحالي، وتوسيع سلطة المحاكم الإسلامية، ذلك أن الإسلاميين ظلوا منذ سقوط سياد بري يبحثون عن موطئ قدم لهم في الصومال، ولكن النظام القبلي في إثيوبيا حرمهم من تحقيق هذا الهدف، فأينما أقاموا قواعد لهم هبت القبائل في المنطقة المعنية وأخرجتهم من ذلك الموقع بالقوة، وقد واجه الإسلاميون الهزيمة بعد الهزيمة، وكانت إثيوبيا دائماً تدعم الجهات المناوئة لهم خاصة وأن الاتحاد الإسلامي كبرى الحركات الإسلامية كانت له قواعد وعمليات في إقليم الأوغادين داخل إثيوبيا، ولكن بعد انهيار الحكومة الصومالية الانتقالية الأولى قدمت بعض الأطراف الفاعلة فيها الدعم للإسلاميين والغطاء القبلي لهم في منطقة مقديشو، مما ساعدهم على تعميق وتوسيع نفوذهم في تلك المنطقة في الفترة التي سبقت قيام الحكومة الانتقالية الجديدة في عام 2004، وهي حكومة حظيت بأكبر دعم شعبي في الصومال، وباعتراف دولي وإقليمي كامل، ولكن هذا الاعتراف لم يتبعه دعم فاعل، وبقي الفراغ الأمني على حاله، وبعد طول إهمال لهذه الأوضاع سعت جهات خارجية أبرزها الولايات المتحدة وإثيوبيا إلى دعم زعماء الحرب في مقديشو في وقت سابق من هذا العام للحد من نفوذ المحاكم، هذه المحاولات ارتدت على أصحابها كما هو معروف، وعززت نفوذ المحاكم الإسلامية، وأدت إلى طرد لوردات الحرب، وتوحيد العاصمة تحت سلطة واحدة لأول مرة منذ عام 1991.

وضع زعماء الحرب كان أحد نقاط الضعف الرئيسية في وضع الحكومة الانتقالية الجديدة التي سعت لتجنب ما رأته خطأ الحكومة الانتقالية الأولى رفضت ضم زعماء الحرب، واعتمدت في شرعيتها على الزعامات التقليدية، ومنظمات المجتمع المدني، ولكن زعماء الحرب المسيطرين على الأرض رفضوا السماح للحكومة بموطئ قدم في البلاد، مما اضطرها للاستعانة بميليشيات لحماية نفسها في مقديشو، وقد حاولت الحكومة الجديدة الاستفادة من هذه التجربة بضم زعماء الحرب إليها، ولكن هذا لم ينفعها، فعلى الرغم من أن عدداً من وزراء الحكومة كانوا يقتسمون السيطرة على العاصمة مقديشوº إلا أن الحكومة لم تستطع أن تقيم مقر قيادتها في العاصمة، وقد كانت مفارقة أن هؤلاء الوزراء أقيلوا من الحكومة بعد هزيمتهم أمام المحاكم.

وكما ظهر من الوضع في مقديشو وبقية المدن الصومالية الأخرى فإن المواطنين ملوا من سيطرة زعماء الحرب على مقدرات البلاد، ومن الأتاوات التي يفرضونها، ونقاط التفتيش والتحكم العشوائي في حياة الناس، ولهذا فإن المناطق تتساقط في أيدي المحاكم بدون قتال تحديداً بسبب رفض الناس لسلطان زعماء الحرب.

وفي الوضع الحالي ليس لدى الحكومة الصومالية الحالية ما تمنحه للمواطنين سوى التهديد بإعادة سلطة زعماء الحرب، فالحكومة ليس لديها جيش نظامي، ومقرها في بيداوة يعتمد إلى حد كبير على تعاون زعماء الحرب المحليين، وقد ضيعت القوى الإقليمية والدولية الفرصة لدعم الحكومة الصومالية بالمال والتسليح، والتدريب والقوات حتى تبني جيشاً قوياً يمكنها من فرض سلطانها على البلاد، ولعل الفرصة فاتت الآن بعد أن ظهرت المحاكم الآن باعتبارها الآن سلطة الدولة الفعلية، فالمحاكم عملياً تسيطر الآن على معظم البلاد، وتمارس سلطة الدولة فيها، ولم تعد المسألة كما كانت من قبل هي مواجهة بين حكومة شرعية معترف بها وزعماء حرب لا يعترف بهم أحد، بل هي بين حكومة أمر واقع تتمتع بدعم شعبي واسع وسيطرة عملية على الأرض، وحكومة افتراضية لا وجود لها يذكر على الأرض.

التدخل الإثيوبي عقد الأمور لأن مثل هذا التدخل يثير المشاعر القومية الصومالية، خاصة وأن أجندة الحكومة الإثيوبية هي أجندة مكشوفة، والأمر هنا أشبه بالاستعانة بإسرائيل في لبنان، أو بالهند في نزاع على السلطة في باكستان، وحين تستعين الحكومة الصومالية الانتقالية بعدو تاريخي مثل إثيوبيا فإنها تكشف من جهة ضعفها الشديد، ومن جهة أخرى تؤلب ضدها عناصر كانت ستكون موالية، ويزداد الأمر تعقيداً بتدخل إريتريا لصالح المحاكم نكاية في إثيوبيا، وهو موقف يمكن أن يدعمه السودان بصورة أقل صراحة، ولا ينتظر أن يقف اللاعبون الإقليميون الآخرون وهم كينيا وجيبوتي موقف المتفرج وهم يرون إثيوبيا تمد نفوذها في الصومال.

الحكومة الإثيوبية تتورط بمغامرة خطيرة بتدخلها السافر في النزاع الصومالي، وهي مغامرة قد لا تقل خطورة عن مغامرة سياد بري الخاسرة في حرب الأوغادين قبل ثلاثة عقود، وقد تكون لها عواقب مماثلة، أو مشابهة لورطة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وأمريكا في العراق، وقد يؤدي هذا إلى وقوع المحذور وهو تفكك إثيوبيا، أو اضطراب الأمور فيها، خاصة وأن وضع الحكومة حالياً في ضعف شديد بعد مأساة الانتخابات العام الماضي، واستمرار التوتر مع إريتريا، وتراجع شعبية الحكومة عموماً، وتصاعد الانتقادات الخارجية لها، وإذا كانت دول عظمي مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي واجهت نكسات بسبب التدخل العسكري في بلاد أخرى فمن باب أولى أن تكون عواقب التدخل الإثيوبي السافر في الصومال مما لا يحمد لا لإثيوبيا ولا للصومال ولا للمنطقة.

الولايات المتحدة تسعي الآن عبر قرار من الأمم المتحدة لإيجاد حل يضمن تحقيق الأهداف المشتركة مع إثيوبيا دون تورط إثيوبي مباشر، وذلك باستبعاد إثيوبيا وإريتريا وبقية جيران الصومال من قوات التدخل المزمعة، ولكن هذه الإجراءات أيضاً تأتي متأخرة، فلو أن الدعم للحكومة الانتقالية جاء مباشرة بعد تكوينها قبل عامين كما كان مفترضاً لكان أمر القوات هو الأولوية، ولكن الأمور تغيرت الآن على الأرض بوجود لاعب جديد قوي لم يكن في الميدان يوم تشكلت الحكومة، وبما أن تلك الحكومة جاءت بناء على توازنات بين مراكز القوى ومن بينها زعماء الحرب، وبما أن توازنات القوى قد تغيرت الآن بخروج لاعبين كثر من الميدان، ودخول المحاكم كأقوي لاعبº فإنه لا بد قبل التحدث عن أي تدخل العودة إلى طاولة المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة، أو لإجراء انتخابات على مستوى البلاد تحدد الأوزان والأحجام، وأي إجراء خلاف ذلك يعيد الأوضاع إلى ما دون نقطة الصفر.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply