ثمانون عاماً وأحوازنا العربية محتلة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما نشرت مجلة ناشيونال جيوجرافيك أواخر العام الماضي خارطة للخليج العربي، استشاط الساسة الإيرانيون غضباً، منددين بالمجلة لإحلالها كلمة "العربي" مكان "الفارسي"، وفي خضم ما تتعرض له المنطقة الخليجية الساخنة في أعقاب احتلال العراق كانت هذه الحادثة قمينة بتسليط الأضواء الإيرانية عليها ريثما تعود "المسميات" لأصحابها (ليس في الأمر من عجب إذا ما وضع في إطار حرص إيران على التشديد على فارسية البحرين وبعض الجزر الإماراتية وغيرها على الشاطئ الغربي من الخليج، وهو ما يعكس أطماعاً حقيقية غير مستترة للنظام الإيراني في دول الخليج العربية).

ربما كثيرون رأوا أن ليس ثمة ما يستدعي إيلاء القضية حجماً أكبر من حجمها الحقيقي، وأن "الدولة الإسلامية" مدعوة لاختيار مسمى جامع كـ"الخليج الإسلامي" ينال رضا الجميع لاعتبار أن دول الجوار الخليجية كلها مسلمة، وأن الظرف لا يسمح بهكذا حزازات وإشكاليات بين دول الجوار المسلمة، وأن تحفيز كيمياء الإثنيات درب من دروب الحكمة المنقوصة في هذه اللحظة التاريخية بالذات، التي تتعرض فيها المنطقة الخليجية لعوامل خارجية قد تستغل أي مشكلة عرقية وتنفخ في نيران فتنتها.

لكن قليلين في المقابل - لاسيما في الطرف العروبي - لم يلمسوا في الاحتجاج الإيراني أي قدر من المعقولية، فمتى نظر المشاهد للخليج من أي جهة لا تخطئه عروبته.

وإذا كانت عروبة دول مجلس التعاون الخليجي لا تفتقر إلى دليلº فإن الشاهد الأبلج على عروبة الشاطئ الشرقي من الخليجº أو قسط كبير منه هو محل نظر من كثيرين يجهلون تلك الحقيقة.

ومبعث الجهل أمور تتلخص في توافق الإرادة الدولية والإقليمية على عدم بعث هذه القضية المقبورة من جديد، فالولايات المتحدة برغم إظهارها بين الفينة والأخرى حرصاً على إحراج النظام الإيرانيº فإنها تتجنب التعاطي مع إيران بسياسة اعتباطية لا تأخذ بالاعتبار موروثها "الاستعماري" من بريطانيا التي كانت تحتل إيران قبل أقل من قرن، والذي يحدوها للسير وفق الخطى البريطانية التي ما انفكت تتعامل مع إيران كدولة "فارسية"، لها امتدادها الفسيح في مرابع التاريخ كدولة أو حتى إمبراطورية متعارضة المصالح - بل والرؤى - مع العالم العربي الذي لم تتغير نظرتها إليه كعالم استلبها بعض مفاخر المنتوج الحضاري، وأطفأ إلى الأبد مشاعل نيرانها الفارسية.

الولايات المتحدة الآن لا تتغاير نظرتها إلى إيران عن نظرة بريطانيا "العظمى" في العام 1925م (عام الحزن الأحوازي، أو عام الاغتصاب كما يطيب للأحوازيين أن يسمونه)، حين عمدت إلى الشيخ خزعل أمير عربستان (بلاد الأحواز) فقطعت عنه كل السبل، وصيرته أسير إرادة الإيرانيين، فاقتادوه أسيراً إلى طهران حتى قتل أو توفي في سجونها بعد نحو عشرة أعوام، هنا في العام 1925م كان على البريطانيين أن يحسموا أمرهم: أنبقي على "عربستان" وقد أظهرت عمليات التنقيب عن النفط في بلاد العرب في العام 1909م نتائج مبشرة بكميات هائلة من النفط؟، هل نبقي على بلاد "عربستان" مستقلة عن فارس؟

90% من نفط إيران هي في "عربستان"، لم تكن قبيلتا بني نمر وبني كلب اللتان استوطنتا هذه الأرض قبل الإسلام، ولا بنو تميم وبنو كعب وربيعة الذين عمروها بعد ظهور بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدركون هذه الحقيقة حينما أطلقوا عليها اسم "الأحواز" - أي الأملاك -، لكنهم ربما بفطرة العربي النقية كانوا يستشعرون أهميتها على الأقل لجهة الزراعة التي توافر لها النهر لريها، فصارت من أخصب أراضي شرق الخليج، أيضاً لجهة تحكمها في مضيق الخليج، ومعبر التجارة الأوربية الأقصر من المتوسط إلى الهند.

غير أن "فطرة العربي" لم تكن أكثر حدساً من "استراتيجية الإمبراطورية العظمى" التي لا تغيب عنها الشمس، ولا وريثتها أمريكا التي تدرك أيضاً أن العرب يكفيهم هذا الحظ من النفط، وليس من "اللائق" أن يحوزوا غيره من "الأحواز".

الدول العربية تماهت - للأسف - مع المنحى البريطاني - الأمريكي فلم ترفع عقيرتها داعية إلى تحريك ملف الأحواز العربية إلى مجلس الأمن أو إلى غيره، فهي متشبعة من الاستحقاقات التحريرية لبلاد العرب السليبة في فلسطين والعراق، وسبتة ومليلة المغربيتان، وجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبي موسى الإماراتيات، وأم الرشراش المصرية، والجولان السورية، ومزارع شبعا السورية - اللبنانية، علاوة عن حل مشكلات الصحراء المغربية، والصومال، والسودان، مع أن هذه الدول ذاتها تعاني من مشكلات مزمنة مع الجار الإيراني، سواء في العراق، أو معظم الدول الخليجية.

الأحوازيون يرون أنفسهم بوابة العرب الشرقية، الأمن القومي العربي لا يراها كذلك ربما!! لكن الأهم من ذلك أن مرجل الخليج يغلى في ظل متغيرات غزو العراق بما يجعل الدول الخليجية في وضع أسوأ كثيراً من السنوات التي سبقت غزو العراق، حتى الكويت التي كانت تعد نفسها في وضع مهدد بسبب وجود صدام، وفرحت لذهاب ملكهº صارت تعاني من تبعات تمدد الباسيج الإيراني، واطلاعات (الاستخبارات الإيرانية) في العراق وجيرانه، لكن مع ذلك لا تجد الدول العربية نفسها في وارد تحريك مياه الإثنيات الراكدة في إيران بغية إزاحة بؤرة الأحداث عنها قليلاً - ولو لبعض الوقت -، فهناك خمسة ملايين ونيف من العرب أصحاب أكبر ثروة مناطقية، لكنهم الأفقر في إيران من بين بقية الإثنيات، إليهم تعود مفردات الحضارة في إمبراطورية فارس لا الفرس أنفسهم، تحدث عنهم جرير:

ما للفـــــــــرزدق من عز يلوذ به                   إلاّ بنو العم في أيديهم الخشب

سيروا بني العم فالأحواز منزلكم                  ونهر تيري فلم تعرفكم العــــرب

لكن الجامعة العربية تضن عليهم بالمدح أو بالهجاء، فقط صدام حسين وبعض المراجع الشيعية العراقية العربية - ككاشف الغطاء - اهتموا بقدر بقضية احتلال بلادهم، أما البقية فليست في وارد الاهتمامº فالغالبية من العرب لا يعلمون أن "قلب إيران الاقتصادي النابض" - بحسب (الرئيس الإيراني) خاتمي - هو تلك الأرض الممتدة بطول شاطئ الخليج الشرقي التي تبلغ مساحتها 375 كيلو متراً مربعاً، وتقطنها أغلبية شيعية، وتتنوع مصادر ثرواتها ما بين النفط والغاز الطبيعي والثروات الطبيعية والزراعة، وتفصلها عن هضبة إيران الحقيقية جبال زاغروس الشاهقة، وتعاملها إيران الملالي تماماً مثلما عوملت إبان حكم الشاه، إذ العسف لم يتغير، والاعتقال الذي طال نحو 500 من مناضليها العروبيين في الماضي، والإعدامات لم تتوقف، لا بل تكاثرت خلال الانتفاضة التي اشتعلت حممها منذ نحو أسبوع لتشمل 72 قتيلاً و802 جريحاً و1200 معتقلاً بحسب موقع عربستان الأحوازي في تلك المدة فقط.

وهي تلك الأرض المتاخمة لحدود العرب الخليجية، والتي برغم تماثلها معها في وفرة الناتج النفطي لها فهي تغايرها من حيث المستوى المعيشي الذي هو الأحواز متدنياً، متخلفاً عن سياسة التمييز العرقي المتبعة هناك، والمتمثلة بالبطالة والأمية، وذيوع تناول المخدرات والاتجار بها.

الأحواز إذن (أو الأهواز كما يحلو لبعض الفرس نطقها، أو عربستان مثلما أطلق عليها الصفويون آنفاً، أو خوزستان كما قرر رضا شاه بهلوي دعوتها به) هي دولة عربية ممتدة الجذور بأصول عربية سبقت البعثة المحمدية، دخلها الإسلام في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكانت تسمى "بوابة الإسلام" في القرن الأول الهجري، لم يطرأ عليها تغيير منذ احتلالها سوى بمحاولات تغيير التركيب الديمجرافي لها إبان حكم الشاه، وما تلاه بتسكين كثير من الأسر الفارسية بها، وإخراج بعض من أهلها منها إلى شمال إيران، الاستراتيجيا الدولية تدرك أهميتها العسكرية المتميزة لذا تفسر بسهولة انقلاب بريطانيا على حليفها الشيخ خزعل لحاجتها أن تصبح في يد ليست عربية.

أحوازنا بالقطع عربية، لكن هل نطمع يوماً أن نراها تحتل مقعدها الذي تستحق في جامعة الدول العربية، أو حتى مقعد المراقب!! قد يكون، لكن ريثما يكون هل سيذر النظام الإيراني في الأحواز حينها شيئاً من سكانها، أو من لغتها، أو من ثرواتها؟ نطمع، أو نطمع أن نطمع ألا يحدث ذلك.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply