العلمانية أنهكت نفسها ولم تعد قادرة على إلهام أنصارها


بسم الله الرحمن الرحيم

أثار المقال الذي نشره الدكتور أريك كاوفمان في مجلة "روسبيكت" البريطانية ثم في مجلة "نيوزويك" الأمريكية حول نهاية العلمانية في أوروباº الكثير من الجدل حول تفسيره المبنى على علم الديمغرافيا، والذي يركز على الدور الذي ستلعبه الصحوة الدينية، وعواقبها الديمغرافية من ميل المتدينين لإنجاب عدد أكبر من الأطفال في انحسار العلمانية في منتصف القرن الحادي والعشرين.

أهمية هذا المقال تكمن في مواكبتها لأحداث تشير بالفعل إلى نشاط اليمين الديني في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، مما يثير العديد من التساؤلات حول ظاهرة تراجع العلمانية في هذه المجتمعات، والتي كانت تحديداً المهد الذي نشأ فيه الفكر الليبرالي العلماني، وسوف تنشر القاهرة ترجمة المقال في العدد القادم.

حول هذا المقال وهذه التساؤلات التي أثارها أجرت جريدة القاهرة هذا الحديث مع الدكتور أريك كاوفمان:

 

· أنت محاضر في العلوم السياسية وعلم الاجتماع لماذا اخترت حصرياً التفسير الديمغرافي لما تسميه بظاهرة انحسار العلمانية؟

ـ أغلب نظريات الدين والعلمنة لا تعطي الاهتمام الكافي لعلم وصف السكان أو الديمغرافيا، ولكنني أعتقد أنه في غاية الأهمية خاصة الآن، ونحن نرى أن العلمانية تفقد بعض ديناميكيتها في العديد من الدول الغربية عندما تتوقف عملية التغير الاجتماعي تصبح الديمغرافيا أكثر أهمية.

 

· مقالك الذي نشر في مجلة "بروسبيكت" بعنوان التناسل من أجل الله، وفي مجلة نيوزويك بعنوان عودة الإيمان، وفي حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية بعنوان نهاية العلمانية يتحدث عن صحوة التدين لأسباب ديمغرافية، ما هو تعريفك للتدين والدين؟

ـ التدين تعريفه هنا هو الإيمان الخاص والمعتقدات الشخصية أكثر منه التدين بمفهوم ممارسة الطقوس الدينية السؤال الذي طرح في استطلاع الرأي الذي قمت به كان بالتحديد هل أنت إنسان متدين؟ وحصرت الإجابات بين "نعم"، "لا" أو أنا ملحد.

 

· هل تنطبق أطروحتك على المجتمعات غير الغربية والتي ما زالت تعمل من أجل التحديث وبها شريحة من المثقفين والمفكرين الذين يدعون إلى العلمانية؟

ـ إذا كانت العلمانية هنا تشير إلى علمنة المعتقدات الخاصة وليس فصل الدين عن الدولةº ففي هذه الحالة أعتقد أن أطروحتي تنطبق على المجتمعات غير الغربية، وبشكل ما أعتقد أن أطروحتي تنطبق أكثر على هذه المجتمعات، فعلى مدار فترة طويلة من الزمن كان الناس الأكثر ثراء، والأكثر حداثةº يكونون أسراً كبيرة نظراً لقدرتهم المادية والتي تؤهلهم للزواج في سن مبكرة، ونظراً لانخفاض معدل الوفيات بين أطفالهم، يبدو أن هذا الاتجاه انعكس تماماً في القرن العشرين عندما ينجب هؤلاء الناس الأكثر حداثة عدداً أقل من الأطفال، فإن عملية الحداثة بالتالي تواجه مأزقاً، وسيكون عليها أن تعمل جاهدة على تعويض هذه الخسارة الديمغرافية، ولذلك نرى أن هذه الظاهرة تؤدي إلى نمو المجتمعات السكانية التقليدية، والأكثر تديناً، ونرى هذا بالفعل يحدث في تركيا وإسرائيل ومصر.

 

العلمانية أنهكت نفسها:

·تحدثت عن الردة الدينية بين أبناء الشرائح المتدينة، وتوقعت أن تصل العلمانية إلى قمة نموها بين عامي 2035 و2045, ولكنك توقعت أن تكسب الصحوة الدينية المعركة في النهاية: لماذا تحديداً منتصف القرن الحادي والعشرين؟

ـ هذه التوقعات خاصة بفرنسا ومجتمعات أوروبا البروتستانتية، وهما المركز الذي بدأت منه العلمانية، وهما أيضاً الأكثر تقدماً بين الدول الغربية، سبب توقف عملية العلمنة سيكون 25% ديمغرافي، بمعنى أن الشرائح المتدينة ستستمر في إنجاب عدد أكبر من الأطفال عن الشرائح العلمانية، ولكنه سيكون 75% اجتماعي بمعنى أن عدد أقل من الناس المتدينين المنتمين لأجيال ما بعد 1945م ستختار اتجاه العلمانية، وحتى إن كان تدينهم تديناً في إطار عام وليس في إطار الممارسة الفعلية للشعائر الدينية فإنهم سينقلون هذا التدين إلى أولادهم، هذا وينبغي أن نلاحظ أن الديمغرافيا ستزداد أهميتها عندما نضيف عامل الهجرة، فالواقع يشير إلى أن عدد السكان في أوروبا الغربية ينخفض بالفعل بدون أن تأخذ في الاعتبار أعداد المهاجرين، وانخفاض عدد السكان سيزداد، حيث أن معدل الإنجاب انخفض في الثلاثين عاماً الأخيرة 2.1 إلى 1.5 طفل لكل امرأة.

عدد سكان أوروبا الغربية حالياً يحوي 5% من ذوي الأصول غير الأوروبية، ولكن هذه النسبة ستصل إلى ما بين 15 إلى 25% نحو عام 2050، وهذه الزيادة ستنعكس بشكل سكان أكثر تديناً من السكان الأصليين لأوروبا، وهو بالتالي الأمر الذي سيرفع نسبة التدين في أوروبا بشكل عام.

 

· البعض انتقد أطروحتك اعتقاداً منهم بأن التفسير الديمغرافي وحده لا يكفي لشرح انحسار العلمانية أنه لا بد من مراعاة عوامل أخرى، ما تعليقك؟

ـ أتفق على أن لديهم وجهة نظر جزء مما يحدث هو أن القوى الديمغرافية تغيرت في القرن العشرين لصالح الشرائح المتدينة، ولكن ما يحدث أيضاً هو أن العلمانية أنهكت نفسها، لقد أصبحت كفكرة قديمة يجب أن تبرر نفسها، ولا يبدو أنها لا تزال قادرة على إلهام متبعيها، إذا نظرنا إلى ما يكتبه المفكرون الليبراليون ستجد أن العديد منهم يوجهون النقد العلني للعلمانية لأنها أصبحت تمثل نسخة قديمة وعقيمة، وستجد أن هؤلاء يفضلون على سبيل المثال التعددية الثقافية والتي تتعامل بتسامح أكبر مع التنوع الديني، والتعدد الأخلاقيº لأن هذا التسامح أكثر حيوية.

قد يكون هناك أيضاً جزء خاص بوجود حدود سيكولوجية لدرجة العلمنة التي يمكن أن يتوصل إليها البشر، فالبشر في النهاية في حاجة إلى الاستمرارية والأمان الوجودي، والخلود وتحقيق معنى... إلخ.

 

· لقد أشرت إلى ظاهرة ازدياد عدد المورمون عن اليهود في الولايات المتحدة كمثال للخصوبة الدينية أو التناسل من أجل الله، هناك مثل مشابه في ازدياد عدد الفلسطينيين عن اليهود في الأراضي المحتلة، هل ترى أن هناك وجهاً للمقارنة بين الحالتين؟

ـ نعم ففي كلتا الحالتين تلعب القوى الديمغرافية دوراً سياسياً، حيث إن الأعداد لها وزنها وخاصة مع وجود الديمقراطية، هناك فرق واحد يجب أن أشير إليه وهو أن حافز الفلسطينيين لزيادة الخصوبة سياسي في المقام الأول، بينما أن حافز طائفة المورمون فهو حافز ديني.

 

الإسلام الأوروبي:

تلعب الهجرة دوراً مهماً في تفسيرك لانحسار العلمانية، ولكن يبدو لي أنها تلعب دوراً أقل أهمية من الصحوة الدينية لدى السكان البيض، ألا تخشى أن يساء فهم أطروحتك على أنها تدق ناقوس الخطر ضد نمو الإسلام الأوروبي؟

ـ التأثير الرئيسي على المدى البعيد سيكون للدور الذي سيلعبه السكان البيض، حيث سيعكس المسيحيون ارتفاعاً في معدلات إنجابهم لأسباب دينية، أعتقد أيضاً أن نمو الإسلام الأوروبي سيكون قوة لها وزنها وأهميتها، ما أريد أن أقوله هو أن القوتين معاً ستؤديان إلى زيادة تيار التدين، وأنه إذا انضم المسيحيون البيض إلى المسلمين المتدينين فإنه من الممكن أن يحدثوا تغيراً اجتماعياً مشابهاً لما حدث في الولايات المتحدة عندما انضم المسيحيون الإنجيليون البروتستانت مع الكاثوليك التقليديين، واليهود المحافظين، ووحدوا قواهم في الثمانينات والتسعينيات لزج أجندة دينية على طاولة الحزب الجمهوري لا يمكن أن ننسى أن هذه الطوائف كانت من القوى المعارضة السابقة، وبالتالي لم يكن عرضاً أن يشغل جون كينيدي منصب أول رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة عام 1960م بعد قرابة المائتي عام على تأسيسها.

 

· كيف ترى الدور الذي يلعبه الإسلام الأوروبي فيما يخص انحسار العلمانية؟ هل يمكن مقارنته بالدور الذي يقوم به المسيحيون الإنجيليون؟

ـ لا أعتقد أن الإسلام الأوروبي سيتزعم القوى المؤدية إلى انحسار العلمانية، ولكن المسلمين الأوروبيين من الممكن أن يكونوا حلفاء مؤثرين للمسيحيين المتدينين الذين يعملون لمجابهة المدى العلماني، وأتذكر أنني سمعت ذات مرة في مناظرة إسلامية في بريطانيا واحداً من المسيحيين الإنجيليين يطالب شباب بريطانيا المسلمين بالنهوض والإدلاء بأصواتهم لمن يعملون على مقاومة القوى العلمانية، لا ينبغي لنا أن نقلل من أهمية الحدة التي يرفض بها المسيحيون المتدينون العلمانيين إلى الدرجة التي تجعلهم مستعدين لضم قواهم السياسية مع الجماعات الإسلامية.

 

· هل ترى أن هناك صراعاً بين الدين والعلمانية أم أن انحسار العلمانية سيحدث تدريجياً بسبب التغيرات الديمغرافية؟

ـ أعتقد أن الديمغرافيا ستسبب أزمة للعلمانية الليبرالية، المجتمع الحالي الذي نعيشه والذي يجمع بين تسامح رسمي تجاه التنوع الديني والثقافي، وبين علمانية متضمنة سيظهر متناقضاته عما قريب، العلمانية ستضطر لإيجاد لغة مجتمع مشترك، ومعنى يمكن أن يلهم الناس بنفس الطريقة التي يلهمهم بها الدين، فيما مضى كانت الوطنية المنافس الرئيسي للدين، ولكن الليبرالية الآن تخلت عن مفهوم القومية، وتبنت التعددية الثقافية، لا أعتقد أن الأمور ستستمر كثيراً على هذا الحال.

 

فكر ثقافي محافظ:

· تحدثت عن التحالفات بين الطوائف المختلفة فيما يخص القيم والأفكار المحافظة هل ترى أي أمل لهذه التحالفات الآن في ظل الأزمات السياسية في الشرق الأوسط والحرب الشاملة على الإرهاب؟

ـ الإمكانية موجودة لأن المناخ العام اليوم يسمح بمناقشة الدين بشكل أوسع من مناقشة القوميات والعرقيات، الليبراليون لن يرحبوا بفكرة أن يقوم المحافظون ببناء تحالفات طائفية على أسس دينية، ولكنهم سيرون أنه هذه سياسة أكثر تقدمية من الحركات المحافظة المبنية على أسس قومية تعبئ المسيحيين والليبراليين ضد الآخر غير الأوروبي.

ولذلك أعتقد أن الضغط الاجتماعي سيؤدي إلى فكر ثقافي محافظ من أجل تعبئة المجتمع على أسس دينية، لقد حدث هذا في السياسية الأمريكية عندما اتحد اللاتينيون، والبروتستانت البيض، والكاثوليك البيض، واليهود في ائتلاف ديني على الرغم من الفروقات الواضحة بينهم، جزء من السبب يرجع إلى أن الأمريكيين الليبراليين كانوا غاية في الفعالية في وصف الحركات العلمانية القومية التي تتمركز حول البروتستانت البيض بالعنصرية، نرى هذا يحدث الآن من خلال الحزب الجمهوري، حيث إن نخبة الحزب تحاول أن تحافظ على رؤيتها الدينية، وعلى رغبتها في اجتذاب الأمريكيين من الأصول اللاتينية عن طريق تجاهلها للدعوات المنادية إلى الحد من الهجرات اللاتينية إلى الولايات المتحدة.

 

· كيف ترى مستقبل نظريات العلمانية السائدة والتي لها ثقلها الأكاديمي على مدى حقبة طويلة من الزمن؟

ـ أعتقد أن العلمنة ستستمر في الدول الأكثر تديناً مثل الولايات المتحدة، توجد زيادة في عدد السكان العلمانيين في نفس الوقت الذي يحدث فيه ازدياد في نمو الشرائح المتدينة مما يؤدي إلى تضاؤل الشريحة الوسطية، بالإضافة إلى ذلك سينتهي الحال بالشرائح العلمانية بالتضاؤل التدريجي بسبب الانخفاض الديمغرافي، مما يرجح كفة المتدينين على المدى البعيد.

في أوروبا الكاثوليكية ستستمر العلمنة بشكل يفوق النمو الديمغرافي للمتدينين لبعض الوقت، لكن هذا الاتجاه سيصل إلى منحدر في وقت ما من القرن الحادي والعشرين، يبدأ بعده في التراجع، في العالم غير الغربي أتوقع أن تستمر محاولات التنمية والتحديث، والنمو الحضري والتعليم، ولكن هذا لن يستطيع مواكبة النمو المتزايد للمجتمعات السكانية المتدينة، أراهن على أن عدد العلمانيين سيزداد، ولكن في الوقت نفسه سيزداد عدد المتدينين المناهضين للعلمنة التي سيتم وصفها كأحد واردات المجتمعات الغربية، ولذلك سيتحول القرن الحادي والعشرين إلى قرن يهد صحوة دينية أكبر مما شهده القرن العشرين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply