العلمانية وثقافة السلام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ولكن الأمر المستغرب في عصر الغرائب أن الضحية التي تُذبح وتُخنق هي التي توصم بالعنف والإرهاب والعدوان، أما الجاني فهو داعية الحرية والديمقراطية ورافع لواء التحضر، وراعي السلام! أرأيت لو أن شخصاً قام يخنق شخصاً آخر، وبالطبع فإن المخنوق سوف يدافع عن نفسه بأظافره وأسنانه، وربما يتسبب في بعض الخدوش التي تلحق خانقه، أرأيت لو أن الجاني قام بعد أن يفرغ من ضحيته وعقد مؤتمراً رام فيه أن يقنع الناس بأن الضحية كان إرهابياً عنيفاً عدوانياً ، لماذا؟ بسبب هذه الخدوش والجروح التي لحقت به!.

 

في الوقت الذي كان فيه الإنكليز يحتلون البلاد العربية والإسلامية، ويرتكبون الفظائع من قتل وتدمير وإبادة وتجويع وتجهيل في العراق، والهند، ومصر، كان سلامة موسى يتغزل بالإنجليز فهم "النظاف الأذكياء". وهم "أرقى أمة موجودة في العالم، والخلق الإنجليز يمتاز عن سائر الأخلاق، والإنسان الإنجليزي هـو أرقى إنسان من حيث الجسم والعقل والخلق"، ثم دعا إلى التعاون معهم وهم يحتلون البلاد، ويقتلون العباد فقال: "فنحن إذا أخلصنا النية مع الإنجليز فقد نتفق معهم إذا ضمنا لهم مصالحهم، وهم في الوقت نفسه إذا أخلصوا النية لنا، فإننا نقضي على مراكز الرجعية في مصر، وننتهي منها، فلنول وجوهنا شطر أوربا".

 

هذا هو ثمن السلام بنظر سلامة موسى أن نتعاون مع الإنجليز، ونضمن لهم مصالحَهم، ومصالحُهم أن يظلوا جاثمين على صدر مصر، ينهبون خيراتها ويستـذلون أهلها، ويدوسون كرامتها، ولكن هذا لا يشكل خطراً على سلامة موسى لأنه سيظل هو والنخبة الربيبة ينعمون بالرفاهية، ويتمتعون بالخيرات ما دام أسيادهم راضين عنهم، آمنين لجانبهم. والربح الذي يحققه سلامة موسى من التعاون مع الإنجليز هو القضاء على الرجعية، والرجعية المقصودة عنده والتي يحلم بالقضاء عليها هي الأزهر الذي يبث فينا ثقافة القرون المظلمة، وشيوخ الأزهر المأفونين، الذين لا يكفون عن التوضؤ على قوارع الطرق. أليس هذا هو "الفاشيست" الذي يتحدثون عنه؟!.

 

واليوم يدعونا طارق حجي إلى الإيمان بحتمية الوصول إلى السلام مع إسرائيل، وعلينا أن نكافح لترسيخ ثقافة السلام بدلاً من ثقافة العدوان وأن نسير على خطا السادات لكي تتجنب المنطقة السقوط في العنف والماضوية والتخلف والفقر، وعلينا أن نقبل قيام دولة ديمقراطية لا دينية على كامل تراب فلسطين يتساوى فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون.

ويعني هذا أن يتنازل الفلسطينيون عن مقدساتهم، وعن حق العودة للمشردين من أبنائهم ويرضخوا لما يفرضه منطق القوة الإسرائيلي والأمريكي. إنها دعوة للاستسلام تحت عنوان: "الإيمان بحتمية السلام".

 

أما مراد وهبة فالعلمانية بنظره هي الحل لمشكلة الشرق الأوسط في فلسطين ذلك أنه يعرف العلمانية بأنها "النظر إلى النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق"، ويعني بذلك سيادة النسبية على كافة المستويات، وإقصاء المطلقات من الوجود، لأنه لا وجود لحقيقة مطلقة، والقول بها مجرد خرافة، وسيادة المطلق يهدد السلام العالمي، لأنها ستدخل في صراع كما هو الحال بين المطلقات الثلاثة الإسلامي اليهودي والمسيحي، وليس من وسيلة لحل هذا الصراع إلا بالقضاء على المطلقات، ويتم ذلك بنفي "الدوجماطيقية"، أي نفي علم العقيدة، لأن مفهوم الحرب كامن في هذا العلم.

لأن هذا العلم قائم على اليقين "واليقين لا يمكن أن يكون إلا مغلقاً، ولهذا فهو يؤول في المنتهى إلى الدوغمائية التي تُترجَم تعصباً وتحزباً وربما عنفاً وإرهاباً"، ومع أن هذا الكلام لا يرضي الناطقين باسم الغائب والمدافعين عن العقائد وحراس النصوص كما يقول الخطاب العلماني، إلا أنه يقرر ذلك ليؤكد على أن الصراع العربي الإسرائيلي في النهاية هو صراع مطلقات، والحل الوحيد في العلمانية لأنها المضاد الحيوي للأصوليات الدينية التي تغذي المطلقات وتتغذى منها، وعلى ذلك بدلاً من شعار "الإسلام هو الحل"  تصبح "العلمانية هي الحل".

 

ولكن تجاهل مراد وهبة هنا أن العلمانية تصالحت مع الصهيونية واليهودية وبررت لهم وجودهم في فلسطين، وشرّعت لاستمرارهم فيها على حساب العرب والمسلمين الذين لم يربحوا شيئاً، ولم يحصلوا على شيء من علمانية مراد وهبة، إلا إذا كان مراد وهبة وأمثاله سيجيبون بأن الربح العربي يتمثل في النجاة من القنابل النووية الإسرائيلية، وهذا ما لا يحسب الأصوليون المسلمون حسابه، لأن الخوف من الموت لا يردعهم عن المطالبة بحقوقهم ولديهم من الآليات والوسائل "الإرهابية" ما يجعل إسرائيل تفقد صوابها.

 

بقي أن نتساءل: ألم تتحول علمانية مراد وهبة إلى مطلق هي أيضاً ينفي المطلقات الأخرى؟ فإذا قرر هو وشيعته أن "العلمانية هي الحل"، وقرر المسلمون بشكل مطلق أن "الإسلام هو الحل"، وقررت إسرائيل أن "التلمود هو الحل"، أفلا تدخل العلمانية هنا طرفاً جديداً فيما يسميه "صراع المطلقات"، وبالتالي فإن أية رؤية تُطرح على أنها الحل هي بنظر أصحابها مطلق على الآخرين أن يرضخوا لها، وهكذا فإنه لا خلاص من المطلق، ولا بد من مطلق واحد تذعن له كل الأطراف المعارضة.

 

ونتساءل مرة أخرى: هل حربنا مع إسرائيل هي حرب مطلقات؟ في الواقع لا، لأننا نحن لا نحارب إسرائيل لندخلها في مطلقنا الإسلامي، وإسرائيل لا تحاربنا لتدخلنا في مطلقها اليهودي، نحن نريد أن نستعيد أراضينا المغتصبة في إطار وعود ومؤامرات دبرت على مرأى ومسمع من كل العالم، ونريد أن يعود الشعب المشرد الطريد في كل بقاع العالم إلى أرضه ودياره، ويريد الشعب المضطهد المقموع أن يتخلص من الاضطهاد والقمع، ويتمتع بحريته وكرامته واستقلاله، فأين المطلقات في هذا الصراع؟ وإذا كانت حربنا مع إسرائيل حرب مطلقات، فإن هذا يعني أنه لا يوجد خلاف بين شخصين في محكمة إلا ويمكن تسميته أيضاً "صراع مطلقات"، وأن الإنسان الذي يأتي ليغتصب منزل مراد وهبة أو يعتدي على أسرته أو حتى على حياته، على مراد وهبة ألا يدافع عن نفسه -طبقاً لعلمانيته أو لنسبيته- حتى لا يدخل في صراع المطلقات.

 

ولكن الأمر المستغرب في هذا العصر عصر الغرائب أن الضحية التي تُذبح وتُخنق هي التي توصم بالعنف والإرهاب والعدوان، أما الجاني فهو داعية الحرية والديمقراطية ورافع لواء التحضر، وراعي السلام! أرأيت لو أن شخصاً قام يخنق شخصاً آخر، وبالطبع فإن المخنوق سوف يدافع عن نفسه بأظافره وأسنانه، وربما يتسبب في بعض الخدوش التي تلحق خانقه، أرأيت لو أن الجاني قام بعد أن يفرغ من ضحيته وعقد مؤتمراً رام فيه أن يقنع الناس بأن الضحية كان إرهابياً عنيفاً عدوانياً، لماذا؟ بسبب هذه الخدوش والجروح التي لحقت به!. أليست هذه مهزلة؟

 

إن هذا ما يحدث اليوم في غابة البشر، ولكن لا عليك فنحن في عصر المهازل!.نحن أمة تُذبح وتُباد وتُخنق وبدلاً من أن يتصايح أبناؤها للجهاد، وينفروا خفافاً وثقالاً بأموالهم وأنفسهم، تجد دور النشر ومؤتمرات الحوار ورهط كبير من الباحثين يدعون إلى اللاعنف، واللاإرهاب، واللاعدوان!!.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply