حضارة الرعب وثقافة الخوف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لا أتصور أن يُوجد الرعب حضارة، ولا أعلم أن الخوف يزكي العقل أو ينشئ ثقافة، وحضارة الوحوش التي تسود هذه الأيام ستكون عواقبها وخيمة على الإنسانية بلا شك، لأن الوحوش دائماً تبحث عن فرائس ولا تهدأ حتى بعد أن تحصل عليها، وإنما تظل تبحث عن أخرى وأخرى.

وماذا ستفعل الفرائس أمام هذه الوحوش؟ لا بد أن تدافع عن نفسها وتقاوم ما يقع عليها وتعمل بالمثل القائل: "من لم يتذأب تأكله الذئاب".

وهذا المثل صحيح إذا كان التذؤب دفاعاً عن النفس ورداً للبغي والعدوان، بل قد يصبح واجباً، ومن الخطأ تركهº لقوله - تعالى -: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) (الأنفال: 60).

أما الاستضعاف أمام الوحوش فإنه لا يجلب الشفقة أو الرحمة، بل يغري بالافتراس والإذلال والضياع. والغريب اليوم أن تجد لثقافة الاستضعاف هذه أناساً يعضدونها وينتصرون لفكرتها، رغم الدروس والعبر والحوادث التي تقرعهم كل يوم وتطؤهم كل حين، وهذا بلا شك خلل في الذاكرة وخطأ في التقدير، ولا يصح أن يعيش الإنسان مغلوباً خوف الألم، أو ارتياد الصعاب، فخصمك والمعتدي عليك يألم هو الآخر، وصدق الله: ( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) (النساء: 104)، ومغالبة المعتدي وردع الظالم والدفاع عن النفس، قانون إنساني ينبغي أن تعيه الأمم وتُدرَّب عليه الشعوب وإن كان فيه من الآلام ما فيه، وصدق أبوالقاسم الشابي حين قال: ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر

فيستحيل أن يرتدع معتد أو طامع إلا إذا وجد أمامه قوة، أو شعر بأنه لا قبل له بتحمل صعاب العدوان أو نتائجه. هذا أمر أصبح اليوم من البدهيات، فمثلاً في فلسطين ظل العرب يفاوضون الصهاينة نحو نصف قرن، ولا يزيد هذا التفاوض، الصهاينة إلا عتواً وطمعاً وتوسعاً. وجاءت الانتفاضة فغيرت المعادلة وقلبت الموازين، وبدأ العدو في التقهقهر والتنازل، وشعر بالندية، وذاق من نفس الكأس التي يذيقها للناس، وعرف أنه لا قبل له بالديمومة على هذا الحال البئيس، نفسياً واجتماعياً ومادياً وحربياً، وتناقل كل ذلك الإعلام المقروء والمنظور، وسار بذلك الركبان، وأصبحت إسرائيل"" لا تصلح للإقامة كما قالت صحيفة "جيروساليم بوست" يوم 18 نوفمبر 2001 في الانتفاضة الأخيرة حينما عرضت الجريدة قصة مستوطن إسرائيلي مع زوجته حيث طالب زوجته الأرجنتينية بأن تلحق به هي وأولادها في "إسرائيل"، حيث يقيم، فامتنعت الزوجة، فقام الرجل باختطاف أولاده، فرفعت الزوجة قضية على زوجها تطالب باسترداد أولادها، فحكمت المحاكم الأرجنتينية لها برد أولادها، وقالت في حيثيات حكمها إن "إسرائيل" بلد غير آمن، ومن ثم غير صالح لتنشئة الأطفال.

وقال الرجل معترفاً ومقراً بذلك: إنني أخاف من الموت بلا سبب كالأبله على الرمال النتنة المسماة قطاع غزة، ومن حرب العصابات، لا أعرف أن أطير عندما يطلقون عليَّ النار، ولا أؤمن بالمعجزات، أنا خائف ولا أخرج من البيت منذ أربعة أشهر، وأرى الصمت الذي يلف المدينةº لا سيارات، لا مطاعم، لا ملاهي، أصبحت الملاهي كأنها مكان للأشباح، الناس لا يسمحون لأولادهم بالخروج من البيت، ولا إلى أي نزهة، وإذا خرجت لا أركب سيارة، بل أمشي على قدمي، قولوا لي أي حياة أعيشها! ليس هناك ملاذ في هذه البلاد، والأعصاب متوترة، وصلت عند بعض الناس إلى الانفجار، وسيطر على الناس الكثير من الخوف الذي عقد ألسنتهم وشل حركتهم.

ولا تختلف الصورة كثيراً عما نشرته جريدة "يديعوت أحرونوت"، حينما نشرت تقول: "هذه أيام مجنونة اضطرت الناس إلى استخدام بيوتهم حصوناً، إنها غرفة عمليات، مع الهواتف والتلفزيون وسماع الأخبار المؤلمة في كل وقت وحين، أصبحنا لا نرى إلا الدماء والأشلاء، وسائد الناس أكياس من الرمال، والغطاءات حصون الإسمنت، رائحة الربيع والبنفسج انقلبت إلى رائحة البارود والانفجارات، أنام على أخبار مزعجة، وأصحو على مستقبل مجهول، لقد نشأ في "إسرائيل" حضارة الرعب، ولا حصانة لنا إلا أن نبقى في منازلنا".

وقد أكد يوئيل ماركوس في صحيفة "هآرتس" الحقيقة التي لا مفر منها حين قال: "لن ننجح في تصفية الإرهاب، وحين تصورنا تصفيته بالقوة كان العكس تماماً، فقد نجح الفلسطينيون في زرع الرعب في صفوفنا، وفشلنا في إخافتهم، وأكبر دليل على ذلك أن الوزير داني نفسه وأبناء عائلته أخلوا بيوتهم خوفاً على أمنهم بناءً على نصيحة جهاز الشاباك".

فحضارة الرعب هذه، وثقافة التوحش، لابد أن تنقلب على أصحابها إذا وجدت الرجال الذين يدافعون بشرف عن بلادهم وأوطانهم، وقد ضربت المقاومة المثل في ذلك، فهل يرتدع الخونة والعملاء؟ نسأل الله ذلك.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply