المكيال الأمريكي بين دار فور ورفح


بسم الله الرحمن الرحيم

 

في الوقت الذي يمارس فيه الإسرائيليون وظيفتهم في التخريب بكل إخلاص، فلا يبالون بهدم المنازل وإن كان فيها من فيها، وبينما يُنقل ذلك جهاراً نهاراً على شاشات التلفزة، ويعج ببثه على رؤوس الأشهاد أثير السماء، وعلى الرغم من أن قطاع غزة منطقة مستقلة عن تل أبيب، وعلى الرغم من أن العالم أدان واستنكر، وشجب وندد، مع ذلك كله يظل القرد الأمريكي فاقد الإحساس: لا يرى.. لا يسمع.. لا يتكلم.

وفجأة وفي عملية تطور سريعة، يتحول القرد إلى جسد كله إنسانية يفيض شاعرية ورقة، فلا يتحمل رؤية التشريد الذي أرسل مبعوثيه للتنقيب عن صوره في دارفور غربي السودان!

فهل هذه مفارقة؟ وهل يعد هذا كيل بمكيالين حقاً ؟ لا أظن ذلك..!

لنحاول النظر إلى المسألة بعين أمريكية، ولنفكر بعقل شيخ من شيوخهم وبصوت عال: أمريكا دولة الحرية وبلد الحضارة.. تسعى لنشر الديمقراطية وحرب الإرهاب، وسنت في سبيل ذلك الضربات الوقائية، والقوانين التي تمكن أجهزتها من حرب الإرهاب، وجاءت ثمرة ذلك احتلال أفغانستان باسم حرب الإرهاب، ثم جاء احتلال العراق باسم الديمقراطية، فدمرت في سبيل أهدافها المعلنة ما دمرت، وصنعت ما صنعت.

وعليه فلا تذبذب ولا تغيير للمكايل يوم سكتت عن إسرائيل، التي تفعل المثل فهي تسعى لحماية ديمقراطيتها، ومنع تهديدات الإرهابيين بسبل ارتضت بعضها الإدارة الأمريكية بل مارستها، وهذا لا يتعارض مع بعض التصريحات السياسية ذات الغرض التكتيكي الذي يرمي للحفاظ على حلفها العربي المؤقت.

أما الحكومة السودانية فلا تقاتل من أجل الأهداف التي ارتضتها أمريكا، فهي لن تنشر ديمقراطية، ولن تقمع إرهاباً، فأي مبرر لحرب طائفة ترفض الخضوع لسلطانها، وتسعى لنيل شيء من حقوقها.

ربما فكر كثيرون بهذا المنطق، غير أن هذا التفكير - رغم اطراده - قد أسقط اعتبارات عدة، وأغفل أموراً من أهمها:

- إذا كانت الأديان السماوية لا تُفرض على الخلق في نظرهم، فكيف يجوز فرض ديمقراطيات أو إصلاحات ارتضتها دولة غربية على سائر الدول العربية، وكيف يردد أتباعهم: "لا إكراه في الدين" ويرضون بإكراه الديمقراطية الغربية.

- إن من حق الدول أن تحافظ على مصالحها وتسعى لتنميتها، ولكن ليس على حساب الآخرين، فأهدافك ليس شرطاً أن تكون أهداف غيرك، وأمنك ليس أولى من أمن غيرك، وحياتك ليست أغلى من حياة الآخرين، ولو عقل الناس قتلك لغيرك في سبيل بقائك، فلن يعقلوا أو يقبلوا أبداً أن يكون توسعك واستقرارك ورخاؤك، على حساب جثث وأشلاء وديار وضروريات الآمنين.

- هذه الرؤية قائمة على إيمان عميق بصحة طريق ومنهج من ارتآها، ولاشك أن هناك اعتبارات وظروف أسهمت في ترسيخ هذا الإيمان، وقد يكون هذا معقولاً، ولكن الإشكال أنها في نفس الوقت مبنية على ازدراء ما يؤمن به الآخرون طالما كان مخالفاً.

لقد كانت النازية الهتلرية العنصرية مؤمنة بمبادئها، مقتنعة بصلاحيتها، محررة لأهدافها، ومن ثم شرعت في التوسع على حساب الآخرين، وفرض منهجها على المخالفين لاغية أهدافهم غير معتبرة لها، ولهذا طالما ازدرتهم ومقتتهم، فمضت الأيام وتفكك ذلك النظام، أما رجالها وروادها فـ:

مضوا وألسنة الأجيال تلعنـــــــهم                  واتبعوا في الليالي السود تبكيتا

أسماؤهم في رؤى التاريخ مظلمة                كم مجرم كان في الإفساد خريتا

واليوم تسير النازية الديمقراطية الأمريكية على نفس طريق سلفها.

وإلاّ فما الذي جعل ضرب الحكومة السودانية لمن تمرد عليها وهدد وحدتها وأمنها واستقرارها، وخالف دساتيرها وقوانينها محرماً، وأجاز ذلك للإدارة الأمريكية ضد دولة أخرى، وكذلك إدارة شارون.

وما الذي جعل تشريد أهالي رفح من ديارهم، وهدم مساكنهم، وقتل أطفالهم فضلاً عن مقاتلتهم أمراً سائغاً لدى الإدارة الأمريكية لا تهدد برفعه إلى مجلس الأمن لاتخاذ قرار حازم كما فعلت مع الخرطوم!

أليس الجميع يسعون إلى أهداف ارتضوها وهي مشروعة عند كل واحد منهم على حدة، بل ربما كانت أهداف الحكومة السودانية المتمثلة في حفظ الأمن والاستقرار وسيادة الدستور مقبولة عند قطاع عريض في الداخل والخارج، خاصة وأن عمل إسرائيل طال دولة احتلتها أما عمل الحكومة السودانية فقد طال أناساً تحت حكمها حاولوا الخروج عليها، فهو لا يعدو كونه مشكلة داخلية بين أبناء بلد واحد.

إن الأيام تبدي حيناً بعد حين أن السياسة الأمريكية لا تكيل بمكيالين! نعم إن لديها ميزاناً واحداً ترفض أن تكيل به لمن لا ترتضيه، إذ هو غير معتبر عندها ما لم يحقق أهدافها، ولو كان الأمر مزِيد حماسٍ, في نصرة رأي الإدارة اليهودية على نصرة القضايا العربية، أو كانت القضية مزيد تأثر بحال المشردين جراء التمرد غربي السودان، مع ضعف التأثر بحال أهل رفح، لحق أن يقال: لماذا تغيرت المكاييل، ولأضحى لنقد سياسة المكيالين وجه وجيه.

ولكن المشكلة الراهنة في السياسة الأمريكية وهو وجود مكيال واحد لا تكيل به إلاّ لمن وافق هواها، أما من خالفه فهو لغو غير معتبر، لا كيل له ولا وزن، وتلك هي مشكلة الأمة الإسلامية مع الإدارة الأمريكية.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply