أسقف كانتربري من زوايا حادة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

"كبير أساقفة كانتربري البريطاني روان ويليامز يريد استلهام بعض أحكام الشريعة الإسلامية والاستعانة بها في سن قوانين عادلة للعمل بها داخل حدود بريطانيا" خبر هز أوساط المتدينين المسيحيين والعلمانيين في بريطانيا على حد سواءº فالتصريحات التي أطلقها رأس الكنيسة الإنجليكانية فجرت قنبلة تناثرت شظاياها في اتجاهات مختلفة، جعلت لها تداعيات وافرة الدلالة، كثيرة المعاني، وهي على بساطتها وتلقائيتها تمس حروف المفاهيم، وأطراف النظريات.

"من الممكن إيجاد ما يسمى تسوية بناءة مع بعض أوجه الشريعة الإسلامية على غرار ما نقوم به مع قوانين دينية أخرى" هكذا فاجأ ويليامز الدوائر العلمانية والمسيحية في بريطانيا وخارجها، والمفاجأة ثقلت على بعض هذه الأوساط حتى قالت صحيفة صن البريطانية الجمعة "من السهل عزل كبير أساقفة كانتربري روان وليامز، إنه في الحقيقة تهديد خطير لأمتنا"!!

ببساطة يمكن لبعض الناس أن ينظر للأسقف من زاوية تجسيده لآخرين عنتهم الآية ((أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض))، وبالتالي لا يحفلون بهذه التصريحات استناداً إلى أنها غير هامة كونها صادرة بغرض اجتزاء الشرائع، ووضعها موضع الاختيار، غير أن الأمر بالتأكيد يتعدى هذه النظرة إلى قضايا كثيرة تتعلق بعلاقة الدين بالحياة في حس الأساقفة والساسة في بريطانيا، ورجع صدى ذلك في البلدان العربية والإسلاميةº فالإشارات الصادرة من هذه التصريحات تلمس جوانب مختلفة، يرى بعضها من خلال هذه الزوايا:

الأسقف لم يكسر جرة التدين المسيحي حين يتطلع إلى "قوانين دينية" أخرىº فالمسيحية ذاتها - بحسب المعتقد المسيحي - لا تقدم قوانين وأحكاماً وتشريعاً بل تعاليم وعظات، وبالتالي فلا غرو أن تأخذ من قرائح البشر من قوانين مختلفة، فضلاً عن أن تكون القوانين المقتبسة شريعة إسلامية، ولو لم يؤمنوا بها، وجادلوا أنها بشرية مفتراة؟!

هذا الكلام قد يكون منطقياً ومفهوماً، لكن المعنى عند صن البريطانية وأخواتها ذو عمق أغورº فالاهتداء بهدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يؤمن الناس به، ولو في بعض أوجه الشريعة على حد قول ويليامز فقط هو سلم نحو الإسلام لا يرضى المتعصبون للناس أن يرتقوه، ودرب من دروب الإنصاف يأنفون أن يسلكه الناس.

فحيث كانت الدعوة للإسلام خلعت ربقة الحرية، حرية الرأي والاعتقاد، وحتى حرية "الاقتراح" والتفكير، ولو ظل هذا مألوفاً من القومº فإنه يوجه لوماً لاذعاً لمناهضي التدين في البلدان العربية، واحترام الشريعة وأحكامها، فالطريف أن يطالب أسقف كانتربري بتطبيق بعض "أوجه" الشريعة الإسلامية، فيما لا يشاطره الرأي البعض من ذوي الجلود السميكة في ديارنا!!

ثم ألا يحسد بعض "الشيوخ" هذا الأسقف على شجاعته في طرح رأيه وإن خالف السياق العام في بلد يستنكف أن يمنح أقلية دينية كبيرة في بلاده حقوقهم في التقاضي وفق عقيدتهم وشرائعهم، في وقت لا يجرؤ ممثلو الأغلبية أحياناً في اتخاذ الموقف ذاته!

أيضاً من المؤسف في الحقيقة أن يولي ويليامز ديننا هذا التبجيل، ويقابله فتور ومعاندة من مدعي الإبداع الثقافي في بلاد العرب ما يحرمهم من عزة وفخار يضنون به على أنفسهم حين يرفضون ما ينادي به رموز "الدين" في قلاع "الحريات" التي يدعون التطلع إلى تمثلها وتقليدها، فأي شرف يزيحونه عن ذواتهم، وبهاء تأباه وجوههم.

كذلكº فإن من الغريب أن يملك الأسقف البوح بقول لا يقبله رئيس الحكومة البريطاني جوردن براون الذي عقب متحدث باسمه على تصريحات ويليامز بالقول: "موقفنا العام أن الشريعة لا تبرر انتهاك القانون البريطاني، وأنه لا يمكن الاعتراف بمبادئ الشريعة أمام محكمة مدنية لمعالجة خلافات ناجمة عن عقد"، ثم يظل الأسقف مستمسكاً برأيه المستقل في وجه ناقديه، ويمتلك البعض في بلاد بني يعرب من "الكياسة" ما لا يجعل فتاواهم تحيد قيد أنملة عن خطوط الطول ودوائر العرض الحمراء.

إن كلام رئيس الكنيسة الإنجليكانية الذي يتبع له 77 مليون مسيحي يومئ ولو من بعيد إلى أولئك الذين أغرقوا في انجذابهم إلى "قيم الحضارة" الغربية، أن دينهم كان وسيظل براقاً يخطف الأبصار إليه ولو في قلعة "الحرية" البريطانية، وفي أعرق البلاد الديمقراطية، ما يحدو رمزاً كبيراً من رموز الدين والمجتمع البريطاني أن يتحدث عن ضرورة تحكيم بعض أحكام الشريعة، ولو اعتبر بعضها جائراً مثلما ورد في تصريحات له موازنة لثورة الغضب التي كانت تنتظره في الغرب حين قال: "لا أحد عاقلاً سيكون راغباً في أن يرى في وطنه تلك اللاإنسانية المرتبطة أحياناً بتطبيق الشريعة في بعض الدول الإسلامية كالحدود، وكذلك الموقف من المرأة"، إذ ليس مهماً - كما تقدم - أن نهلل لنظرة الرجل لهذا الدين العظيم، وإنما المهم أن نتلمس هذا الشعور بفقدان الكمال القيمي والأخلاقي والقانوني الذي يقدمه المجتمع - كل المجتمع - لبلد يظل مشدوداً دوماً إلى تعديلات تشريعية جذرية مهما تعالت في نظرات البعضº فإنها تتطامن لدى العقلاء منهم إذا ما قورنت بقيم تثبت باستمرار أنها عصية على الاندثار، وأنها على عراقتها أكثر جدة وصلاحية من نسيج ينسجه الغرب لمجتمعه ثم يكتشف خروقاً تتناثر فيه، تحيله خَلِقاً وإن ادعى الجدة والتقدمية.

نعم صحيح أن ويليامز لم يقل ذلك صراحة لكنه لم يتمكن من أن يزيل هذا الانطباع عن تصريحاته وأقوالهº فلقد أكد دون أن يقصد على أن شريعتنا الغراء آصرة بوسعها أن تربط جنبات المجتمع البريطاني ولو من خلال تطبيقها بين المسلمين وحدهم، الذين - ولو بعد بعضهم عن الجادة - سيظلون مشدودين إلى العدالة الحقيقية لا الزائفة، وسيظلون أوفياء لدينهم ولو في قلب الديمقراطيات وأعرقها.

لسنا في الحقيقة لشهادة تجري على ألسن الآخرين لتزداد قناعتنا بكنوز تضمها قلوبنا، غير أننا نرصد حدثاً غنياً في دلالته، ربما ليس إلا لمن لا يتنسمون عطراً على أناملهم إلا إذا هبت عليه ريح شمالية غربية!!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply