بعد اغتيال الرنتيسي .. من يكسر دائرة العجز المقفلة ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أصابت شظايا الصواريخ الإسرائيلية التي استهدفت طبيب الأطفال قائد حركة "حماس" عبد العزيز الرنتيسي في غزة، مساء السبت الماضي كل بيت عربي.

شعر الناس جميعاً، نساء ورجالاً، كهولاً وفتية، من المثفقين فكرياً وسياسياً مع "حماس" أو المختلفين معها بصدمة الفقد وفجيعة خسارة مجاهد عظيم.

بل لعلهم شعروا بأن دماء هذا القائد المجاهد الذي كانوا يرتاحون إلى نبرته الصادقة بقدر ما كانت تبهرهم شجاعته وهو يواجه الموت الإسرائيلي في عينيه مرات ومرات، قد انتثر رذاذها على وجوههم، سواء أكانوا في فلسطين أم خارجها على امتداد الوطن الكبير الذي باتت فلسطين عنوانه أما سيرته فعراقية.

 

كانوا يعرفون أنه كان يعرف أنه إنما كان يمشي إلى الشهادة بقدميه، وأنه حين تقدم الصفوف إلى موقع "القائد" في "حماس"، فقد حمل نعشه على كتفيه ومضى لإكمال الرسالة المقدسة التي تتطلب بحوراً من دماء المجاهدين.

كانوا ببساطة يصدقونه، كان صدقه يصلهم صافياً رقراقاً فوق وجهه الذي يصير طفولياً متى ابتسم، والذي يتحول إلى مجسم للإباء والصمود والاعتداد بأرضه وتاريخ ناسها فيها وهو يعلن مواصلة الجهاد حتى النصر الذي قد يبدو مستحيلاً، لكن الإيمان يجعله قريباً منك مثل أرضك التي منها البداية ولها وفيها الولادة الثانية والثالثة والرابعة والألف للهدف المقدس: التحرير.

إنه أكثر الاغتيالات السياسية علانية في التاريخ. إنه واحد من أفظع جرائم القتل العمد التي تحمل توقيع صاحب القرار ومنفذه بلا تهيب أو خوف من حساب أو مساءلة سياسية.

 

فأما الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي فقد كان يعرف بالقرار، بمصدره وأدواته، والموعد المحتمل للتنفيذ، ويعرف أيضاً ماذا سيقال بعد تنفيذه لتبرير الجريمة التي تجري أمام عيون العالم جميعاً.

وأما شعب فلسطين فكان يعرف أن "القائد" هي مرتبة المنذور للشهادة، وأن موعد التنفيذ يتصل بكفاءة هذا القائد ومدى نجاحه في التعبير عن إرادة شعبه.

وأما الولايات المتحدة الأمريكية، بإدارتها التي شطبت "العرب" من أي حساب، وذهبت في إهانة سلاطينهم إلى أقصى حد، فكانت تعرف، بل إن الترخيص بالقتل العلني صادر عنها، وتوقيع أرييل شارون عليه يقترن بتوقيع جورج بوش.

وأما الحكومات العربية عموماً فكانت تعرف وتتجمع على نفسها متحسبة من ردود الفعل عندها مع خشية محدودة من أن يفلت الأمر من يدها فتذهب إلى صدام مع شعبها لا تريدهº لأنه قد يفضحها ويعريها فيسقط أهليتها لدى السيد الأمريكي، ومن ثم لدى السيد الإسرائيلي.

وأما أوروبا بالدول المؤسسة لاتحادها، وتلك التي ضمت إليه حديثاً بقرار أمريكي، فكانت تعرف، وكانت بيانات التعبير عن الصدمة معطوفاً على ضرورة "مكافحة الإرهاب" معدة سلفاً، مع استثناءات محدودة لتصريحات قد تعبر عن مزيد من التعاطف مع "القائد" الذي صار "ضحية"، ومن دون إدانة لصاحب القرار بالاغتيال العلني والمتباهي بتنفيذه، وبالاستعداد لتكراره داخل فلسطين وخارجها.

وأما الأمم المتحدة فلا تستطيع الادعاء بأنها قد بوغتت بـ"إرهاب الدولة" الذي تمارسه إسرائيل جهاراً نهاراً وعبر قرارات علنية لحكومتها وتصريحات رسمية لرئيسها السفاح أرييل شارون، ولأطراف الحكم والمعارضة فيها باليمين واليسار و"حركة السلام الآن"!

إنه أكثر الاغتيالات علانية في التاريخ، بل إنها أول حرب إبادة معلنة ضد شعب بكامله، تشنها إسرائيل في وضح النهار من دون خشية أو تخوف من انتقاد ولو خافتاً، ناهيك بالاعتراض.

 

تحوم طائرات الاستطلاع على مدار الساعة، وتجوب الدبابات والآليات العسكرية جنبات مدينة غزة التي هي مجرد شارع يزدحم فيه أكثر من مليون بني آدم، حتى إذا تم تحديد مكان "الهدف" بدقة، أغارت حوامات "الأباتشي" التي تغطيها فتحميها طائرات "الأف 16" المقاتلة، فيتم التنفيذ بدقة لا مجال فيها للخطأ، إذ إن مسرح الجريمة مكشوف، ولا مجال لاحتماء "الهدف" أو "اختفائه" عن العيون التي ترصده من البحر والبر والجو، ومن ثم يتوالى السفاح شارون ووزراؤه ومعارضوه على الإعلان عن نجاح عملية "اصطياد" الضحية الأعزل إلا من إيمانه بأرضه وبحق شعبه فيها. وبعدها تقرظ حكومة السفاح جيشها الذي لا يقهر على هذا الانتصار العظيم، وتطلب له المزيد من الأسلحة الحديثة لضمان تفوقه وتلبي الإدارة الأمريكية المطلب بغير نقاش.

ولأن الإدارة الأمريكية قد أسقطت من حسابها "العرب"، وما كان يسمى "عملية السلام" التي أعجزهم ضعفهم وأعجزتهم فرقتهم، وتفرد بعضهم، بل وغدر بعضهم بالبعض الآخر، عن إنجازها، فهي قد أسقطت تحفظاتها (الشكلية) على إنجازات "جيش الدفاع الإسرائيلي" تنفيذاً لخطة حكومته بسحق الشعب الفلسطيني تمهيداً لطرد من تبقى منه داخل أرضه إلى غزة وبئس المصير، حيث يتم استئصال القيادات واستغلال البؤس واليأس والإفلاس السياسي لإشعال الحرب الأهلية بين الفلسطينيين المتروكين للريح.

بل إن الإدارة الأمريكية قد ذهبت إلى أبعد من ذلك فاندفعت تمارس النهج الإسرائيلي في التعامل مع شعب العراق المخضع الآن لاحتلالها: كل من سولت له نفسه الاعتراض يقتل علناً وبلا تبرير! من يحاسب "المحرر" الذي جاء من البعيد لينفذ هذه المهمة الإنسانية النبيلة؟! وماذا إذا تلذذ بعض قناصة المارينز باغتيال من لا يعجبهم شكله من العراقيين، الذين غدوا مثل الفلسطينيين بلا دولة، وبلا حماية عربية، وبلا رعاية دولية.

ليس اغتيال الدولة المحتلة إرهاباً، لا اغتيال القادة السياسيين ولا اغتيال القناصة للمواطنين العزل نساء ورجالاً وحتى الأطفال.. لا اغتيال البيوت ولا اغتيال المدارس ولا اغتيال حقول الزيتون أو البرتقال.

إن "إرهاب الدولة" مشروع، وقد يحظى بتوقيع الأمم المتحدة، وقد يغدو "تحريراً" لشعب من طاغيته، أو تحريراً لأرض من شعبها.

السؤال الذي يرن في فراغ العجز عن الفعل، في مثل هذه اللحظات هو: من التالي؟! من "القائد" الفلسطيني الذي سيسبق رفاقه، كما فعل عبد العزيز الرنتيسي إلى الشهادة؟

وتتفرع من السؤال "المركزي" تساؤلات هشة: من يكسر دائرة العجز المقفلة على هذه الملايين العربية تدور فيها وتدور حتى يهدها تعب اليأس من سلاطينها الأبديين ومن تنظيماتها العتيقة التي أشهرت إفلاسها؟!

لقد حوصرت "الشهادة" في قفص العجز.. وباتت الرحلة بتقاليدها المرعية الإجراء، قصيرة جداً: من شارع الاستشهاد إلى الجامع المسجد للصلاة على القائد الشهيد فإلى جبانة الشهداء التي بات عدد من اختارها بيتاً يوازي من هم في الطريق إليها.

والخوف الإسرائيلي من الشهيد، حتى بعد اغتياله، يظل أعظم بما لا يقاس من الخوف من رد الفعل في عشرين دولة عربية أو يزيد، ناهيك عن المسلمين الذين تجاوزوا المليار عدداً.

أما الخوف العربي الرسمي من "الشهيد" فيتجاوز كل الحدود المعروفة للفضيحة السياسية: إن السلاطين ينكرون الشهداء، فلا يقومون ولو بواجب التعزية حتى لا تحاسبهم إسرائيل عليها، وهم ينكرون صلاتهم القديمة "بأخوة الإيمان" هؤلاء الذين كانوا يتباهون فيما مضى بمساعداتهم لهم، انطلاقاً من أن الجهاد على المؤمن فرض عين.

من التالي؟ ذلك هو سؤال اليوم.. أما سؤال اليوم والغد وكل يوم فهو: إلى أين من هنا؟ ومن يوقف هذا التردي؟! وأين هم السلاطين لا يحمون عروشهم بعدما ذهبت الإهانات العلنية الأمريكية قبل الإسرائيلية، بكراماتهم الشخصية ومن ثم بأهليتهم لتمثيل شعوبهم؟

لقد أسقط الجهاد الفروق العقائدية بين العاملين من أجل تحرير الأرض واستعادة الحق فيها ومعه الكرامة، وها هو دم الشهداء يزكي "حماس" ويحلها في الصدارة بين المجاهدين من أجل التحرير، فالخلاف العقائدي الآن ترف لا تحتمله المرحلة، بل إنه هرب علني من الميدان.

ها هو عبد العزيز الرنتيسي يغادرنا قائداً عظيماً قدم النموذج الفذ للمجاهد الذي ارتدى كفنه عباءة للقيادة وتقدم الناس إلى واجبه، فأحبه الناس حياً، وبكوه شهيداً، ثم جعلوه في ضمائرهم نموذجاً وقدوة.

وداعاً أيها القائد الذي تولى القيادة أياماً، لكنه سيكون علامة مضيئة في طريق شعبه وأمته إلى التحرير.. سيكون في غدنا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply