الانحياز الفكري


 

بسم الله الرحمن الرحيم  

(الانحياز الفكري) عبارة تشير إلى مفكر يضع في ذهنه مسلّمات مسبقة لا تقبل النقاش، وبالتالي فهو ينطلق من خلالها، ويبني عليها، ونجد في مقابلها عبارة أخرى هي (التجرد الفكري) التي تشير إلى مفكر آخر خالي الذهن، كالطفل الصغير حين يولد ولا فكرة لديه عن أيّ شيء من عالم الأفكار، يشاهد ويراقب بحيادية تامة ليبحث عن الحقيقة، هكذا تبدو العبارتان كلوحة فنان رسمها بريشة محترف، تمتلك إعجاب الرائي فيهتف دون شعور: لا للانحياز نعم للتجرد، لكن حنانيك، فليست الأمور كما ترى، فاللوحة تخفي عنك مالا تبديه، ودعنا نتساءل: هل يوجد مفكر يخلو من انحياز؟

ديكارت الفرنسي الذي يعدّ فكره أساس الفلسفة الحديثة، أراد أن يقدّم منهجاً فلسفياً قائماً على قاعدة صلبة، فلكي يصل إلى الحقائق بدأ بالشك في كلّ شيء، ونفى وجود المسلّمات واليقينيّات وأُسس الفطرة، فالإنسان عنده حين يولد يكون مجرداً من أفكار الحياة..لكن ديكارت نفسه لم يستطع (التجرد) الكامل الذي دعا إليه، فلو أنه كان خالي الذهن من كل شيء فمن أي النقاط سيبتدئ وعلى أي عتبة سيضع قدميه! لذلك لجأ إلى القول بأن الإنسان يولد ومعه بعض الأفكار الفطرية، مثل وجود الخالق الكامل والمخلوق المفكّر والعالم الخارجي، وجعل هذه مسلّمات لا تخضع للتشكيك، وآخر هو جون لوك الإنجليزي، يرى أن جميع الأفكار التي نظنها مسلّمات أو فطرة أو دلالة عقلية هي في الحقيقة ليست كذلك، فالإنسان حين يولد يكون كلوحة فارغة نحن نملؤها بالكتابات، ودعا إلى منهج متشدد في التحقق من صدق الأفكار وهو ما عرف بالمنهج التجريبي، لكن السؤال مازال يتكرر: هل حقق لوك (التجرّد) الكامل؟ فمن أين ستبدأ هذه اللوحة الفارغة؟ لجأ إلى القول بأن فكرة وجود الله - عز وجل - قضية مركوزة في الفطرة الإنسانية ولا تقبل النقاش.

إذن فكرة التجرد الكامل التي دعا إليها كثيرٌ من الفلاسفة والمفكرين لغرض تنقية العقل من تراكمات الخرافة وسلبية الأساطير، ولفتح المجال أمام الإبداع الإنساني، ولأجل الوصول إلى حقائق فكرية تقوم على قاعدة صلبة، هذه الفكرة غير ممكنة التطبيق، ذلك أن طبيعة العقل البشري بقصوره كمخلوق- يحتاج إلى قاعدة من الأفكار يبني عليها وينطلق من خلالها، وهذا نوع من الانحياز الفكري بلا شك، فأنا مسلم أؤمن بالمرجعية الإسلامية وأنحاز إلى ذلك، وأؤمن بمرجعية القرآن وصلاحيته لكل زمان ومكان وأنحاز إلى ذلك، وأؤمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنحاز إليه، وأؤمن بالقيم الإسلامية وأنحاز إليها، وهذا الانحياز لا يعني العجز عن اختبار هذه القضايا، والبقاء داخل الصندوق، بل هو اليقين أنه متى توفرت السبل الصحيحة لقياسها فإنها ستثبت صدقها، ولكن الإيمان هو الذي نبّه العقل إليها.

والسؤال هنا: إلى أيّ مدى ستتسع دائرة الانحياز الفكري؟ هذا ما يجب أن نمعن النظر فيه كثيراً، فكلما اتسعت دائرة الانحياز ضاقت دائرة التجرد، وبالتالي ضاق مجال الحرية وتقلص الإبداع، وإذا كنّا نفسّر الانحياز بالإيمان الذي لا يخالطه الشك، فالإيمان يكون بما يتسامى عن الفعل البشري أي الوحي، أما أفكار الرجال أيّا كانت منزلتهم وقدراتهم فهم في دائرة الشك طالما أنهم يخطئون ويصيبون، ونحن مطالبون بتقليص الانحياز قدر الإمكان، والمراجعة المستمرة للتفاعلات الفكرية للتأكد من عدم اتساع الدائرة، فحين أقول مثلاً إني أؤمن بـ(مرجعية القرآن الكريم)، أستطيع أن أوسع دائرة الانحياز وأقول (إن الفهم القرآني هو الفهم المستمد من أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقواعد اللغة العربية)، فهذا انحياز فكري لا أساوم عليه ومع ذلك فهو يُبقي دائرة الإبداع والحرية الفكرية واسعة رحبة، وقد يأتي آخر فيدخل في معنى (مرجعية القرآن الكريم) أقوالَ الصحابة، وآخر يضيف أقوالَ التابعين، وآخر يجعل كلَّ رأيٍ, سالف ضمن هذه المرجعية، وهكذا تتسع الدائرة حتى لا تبقي للإبداع والاجتهاد متنفساً، وقس على ذلك سائر العلوم.

 

وكلّ حركة أو دعوة أيدلوجية معنية بهذا السؤال؟ وعليها أن تبيّن دائرة الانحياز ودائرة التجرد لأبنائها، فهل تستطيع هذه الحركة أو تلك الدعوة أن تُخرج فهمها من دائرة الانحياز إلى دائرة التجرد؟ ثم تنظر وتتأمل هل هذا الفهم البشري صالح للاستمرار؟ وما برهان ذلك؟ وما الذي تشير إليه تجاربها السابقة؟ نعم، قد تقول لنا إنها تنحاز إلى فكرها، وفكر مؤسسها، أو فكر قادتها الحاليين، كل ذلك من حقها، لكن عليها أن تعلم أنها بذلك قتلت التعلم الذي هو مادة روحها، وعصب حياتها.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply