الإسلام وانهيار الكنيسة تحدي البابا الجديد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
البابا الجديد جوزيف راتسينجر

يبدو أن اختيار كرادلة الكنيسة لبابا أوربي جديد وليس إفريقياً أو لاتينياً- هو الألماني "جوزيف راتسينجر" (بنيدكت السادس عشر) يعكس ما أشار إليه بعض الكرادلة ومراكز دراسات دولية قبل انتخاب البابا رقم 265 من أن البابا الجديد سيواجه ثلاثة تحديات كبيرة، أولها: صعود الإسلام وانتشاره في العالم وفي الغرب خصوصا في مقابل التعاون معه في ذات الوقت ضد موجات الإلحاد العالمي وتفشي انهيار القيم الأخلاقية على المستوى العالمي، والتحدي الثاني هو مواجهة انهيار الكنيسة الكاثوليكية وتقلص أتباعها خصوصا في الغرب. ويتصل بالنقطة الثانية التحدي الثالث، وهو مواكبة الكنيسة للتطور التكنولوجي العالمي الهائل وقدرتها على التوفيق بين آرائها الكهنوتية وهذا التقدم العلمي كي لا تتحول العلاقة مع العلماء إلى سابق عهدها في العصور الوسطى وعهود الهرطقة الدينية، بحيث لو نجحت الكنيسة في هذا فستكون أكثر تقارباً مع الغربيين والعكس صحيح.

وهناك العديد من الإشارات التي ربما تثبت صحة ذلك، ففيما يتعلق بالتحدي الأول، يبدو أن البابا الجديد غير متوافق إلى حد ما مع الإسلام، إذ سبق له أن اعترض لأسباب دينية على انضمام تركيا للاتحاد الأوربي ووصف ذلك بأنه "خطأ فادح" و"قرار مخالف للتاريخ"، كما أنه طالب البابا السابق يوحنا بولس الثاني بأن ينص الدستور الأوربي الموحد على مسألة الجذور المسيحية لأوربا، يضاف إلى ذلك أن البابا الجديد الذي نشر عنه انضمامه في صباه للشبيبة النازية قد أظهر في السابق تقارباً مع اليهود، حيث كان أول من ألقى كلمة ندد فيها بكراهية اليهود في العام الماضي أثناء منتدى عقد في نيويورك حول معاداة السامية، لذا ليس غريباً أن يصفه كبير حاخامات تل أبيب "مائير لاو" بأنه صديق للشعب اليهودي، غير أنه بالنظر إلى خلفيته النازية يتوقع أن يتعرض البابا الجديد لابتزاز سياسي إسرائيلي.

وفيما يختص بالتحدي الثاني، فإن البابا يعد من أشد المدافعين عن العقيدة المناهضة لانحراف الكنيسة عن ثوابتها الأخلاقية، حيث كان يرأس "مجمع العقيدة والإيمان" الذي يحظى بنفوذ واسع، وهو وريث مجمع "المحاكم الدينية" التي اشتهرت بأحكام الإعدام عبر الحرق في نهاية القرون الوسطى، ومن جانب آخر، فإن هذا الاختيار يعني التركيز على أوربا معقل الكاثوليكية الذي يتهاوى مع عزوف الغربيين عن الكنيسة أكثر من التركيز على المناطق الجديدة المكتسبة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا، ولو كان الكرادلة قد اختاروا بابا لاتينيا أو إفريقيا مثل الكاردينال النيجيري "فرنسيس أرينزي" لكان التصور هو أن الكنيسة ستسعى للتركيز على رعاياها المكتسبين الجدد في هذه المناطق.

أما شواهد التحدي الثالث، تتضح من حقيقة أن البابا الجديد أكثر دفاعاً عن جماعات المسيحيين المحافظين والإنجيليين المتشددين، وسبق له القول قبل اختياره رئيسا للفاتيكان: "إن الحركات المسيحية الجديدة مثل الإنجيليين أو الكنائس الحرة في ألمانيا تزدهرº لأنها تدافع بضراوة عن القيم الأخلاقية الكبرى ضد تطور الذهنيات"، وأضاف "هذه المجموعات كانت تعتبرها الكنيسة قبل فترة خلت بأنها أصولية، وكانت منافسة كبرى للكنيسة الكاثوليكية، لكنها بدأت في التقارب لأنها أدركت أن الكنيسة وحدها تدافع عن القيم الأخلاقية وأننا نتقبل بفرح هذا التقارب"، وفي مقابل ذلك، فهو من أشد معارضي الخروج على تعاليم الكنيسة والرافضين للتوجهات العلمية الحديثة المخالفة للعقيدة المسيحية، وقد انتهز فرصة صلاة قداس قبل الاجتماع السري لمجمع الكرادلة ليصدر تحذيراً قاسياً من "أن الاتجاهات الحديثة غير الإلهية يجب أن ترفض"، ما اعتبر دليلا على تشدده وعلى صدامه المتوقع مع العلم الحديث ودعاة تطوير الكنيسة الكاثوليكية لتجذب أتباعها الشاردين أو الخارجين منها ودعاة العلمانية.

على أن أبرز ما يحوز الاهتمام هو ما يتصل مباشرة بالعالم الإسلامي للوقوف على درجة التعاون أو الصدام بين البابا وبين الإسلام وموقفه من حوار الأديان الذي طالما شجعه البابا "يوحنا بوليس الثاني".

مع حوار الأديان أم ضده؟

يلاحظ أن أغلب الدراسات والأبحاث الغربية والأمريكية ركزت على قضية حوار الأديان وتحدي انتشار الإسلام في العالم خصوصاً في ظل العزوف عن الكنيسة وتزايد موجات الإلحاد في العالم الغربي، وكان السؤال الأكثر إلحاحاً هو كيف سيتعامل البابا الجديد مع ملف تحدي الإسلام؟ بالحوار..أم بدونه..ومن ثم الصدام.

وتعد دراسة "سكوت أبليبي " Scott Appleby أستاذ التاريخ ومدير "معهد كروك للدراسات حول السلام العالمي" التابع لجامعة نوتردام الأمريكية والمنشورة بمجلة "فورين بوليسي" الدورية العلمية الأمريكية، رغم أن تاريخها يرجع إلى فبراير عام 2004 إحدى أهم الدراسات التي أشارت مبكراً إلى التحديات التي على البابا الجديد مواجهتها، ويبدو أنها قد أخذت في الاعتبار عند اختيار البابا الجديد، فهي تتناول ثلاث تحديات رئيسية هي:

1 - تحدي العلمنة الغربية: بمعنى تصاعد المادية وتزايد الإلحاد والبعد عن الدين في الغرب، مع تزايد العداء من جانب هؤلاء العلمانيين (اللادينيين) للمعتقدات الدينية والسخرية منها وخصوصا الكاثوليكية، وهو ما انعكس في رفض الاتحاد الأوربي طلب البابا النص على الجذور المسيحية لأوربا في دستورها الموحد، وجانب من هذه الأسباب متعلق بانهيار الكنيسة في أمريكا وأوربا وانتشار فضائح القساوسة الجنسية في النمسا وأيرلندا وأمريكا.

2 - تحدي الإسلام، فالانتشار المستمر للإسلام كديانة كبرى أصبح يشكل تحدياً للكنيسة الكاثوليكية الغربية ومستقبلها، ما يتطلب نوعاً من المنافسة لجذب الأتباع، ومع ذلك، تنصح الدراسة بالبحث عن نقاط الالتقاء بين الكنيسة والبابا الجديد من جهة، والإسلام من جهة ثانية لتشكيل تحالف لمواجهة موجة الإلحاد والمادية التي طغت على العالم.

3 - الأمر الأخير هو التطور العلمي التكنولوجي الهائل خصوصا في مجالات علمية دقيقة تحتاج رأي الدين فيها، مثل الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية، وهنا الأمر يحتاج تطوراً مماثلاً في نظرة الكنيسة لهذا التطور العلمي ومواكبته كي لا يحدث ما حدث أيام العصور الوسطى من انفصال بين العلم والكنيسة وازدياد الهوة بين الطرفين (قضية جاليليو)، ولهذا يقول بعض القساوسة أن التحدي الرئيسي الذي يواجه الكنيسة هو عرض رسالة الدين بطريقة يمكن أن تكون مؤثرة على الناس ومقنعة لهم".

وبناء على ذلك، تحدد الدراسات المقدمة للفاتيكان عدة نصائح يجب اتباعها عند اختيار البابا الجديد أبرزها أن يكون ملماً بحقائق العلاقة بين الإسلام والمسيحية، وقادرا على التعامل مع تحدي انتشار الإسلام والتعاون معه (في إطار حوار الأديان) ضد العلمانيين الجدد اللادينيين، وأن يبحث نقاط الالتقاء مع المسلمين، كما حدث من تعاون في مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994 عندما جرى التنسيق بين الطرفين لوأد مقررات مؤتمر المرأة بشأن تحديد النسل والإجهاض. ويجب أيضاً أن يكون على دراية كافية بالمعارف والعلوم الحديثة النظري منها والتطبيقي، إذ توجه دراسة "أبليبي" نداءً إلى مجمع الكرادلة يقول: "يجب عليكم أن تختاروا بابا بإمكانه أن يعلن الإنجيل للقادة السياسيين العلمانيين، لعلماء الاقتصاد، لمسئولي البنك الدولي، لمهندسي الوراثة ولعلماء الأخلاق الذين يوصون بقرارات تهم الحياة والموت.. عليكم أن تختاروا بابا بمقدوره الحفاظ على الاستقلالية السياسية للكنيسة الكاثوليكية، ومقاومة إغراء إقامة تحالفات مع القوى العلمانية.. عليكم أن تختاروا بابا يعترف بالصلات بين الكاثوليكية والإسلام من أجل مقاومة المتطرفين، وفي نفس الوقت بناء تحالف عملي مع المعتدلين الذين يريدون -مثل الكنيسة الكاثوليكية- التأثير على الثقافة والتعليم على المدى البعيد".

مع الإسلام أم ضده؟

الخوف من انتشار الإسلام والتعاون معه في آنٍ, معاً يضع جملة من التساؤلات حول معتقدات وأفكار البابا الجديد، فهو سيقبل بالتعاون معه لصالح هزيمة العلمانية والإلحاد من جانب، كما قد يكون متشدداً تجاهه إلى درجة قد تصل لصدام حضاري ديني جديد تباركه الكنيسة من جانب آخر بعدما بدأته قوى غربية بالفعل في الولايات المتحدة عقب تفجيرات 11 سبتمبر 2001، حين أعلن بوش عن "حملة صليبية سياسية".

ولا يخفى أن البابا "يوحنا بولس الثاني" قاد في العقدين الماضيين حملة ساعدت في تحويل الصراع إلى تعاون بين 1. 1 مليار كاثوليكي و1. 2 مليار مسلم، وربما ساعدت مواقفه المعلنة في إدانة حرب العراق وأفغانستان في تجنب "صدام حضارات" خشي كثيرون أن يتفجر بعد تلويح الرئيس "بوش" بحملة صليبية، واندلاع حرب دينية حقيقية ضد المسلمين في العالم الغربي.

أيضا كانت خطوة البابا "بولس الثاني" عام 1986 بدعوة المسلمين وأتباع الديانات الأخرى للصلاة معاً كي يحل السلام في العالم تحركاً لافتاً في سعيه لخلق مناطق للتفاهم مع العالم الإسلامي، ثم جاءت زياراته لأول مرة في تاريخ البابوية لمسجد وهو المسجد الأموي الذي زاره بدمشق في مايو 2001، وقال وهو على بعد خطوات من قبر القائد صلاح الدين الأيوبي الذي هزم وطرد الصليبيين من الشرق: "نحن بحاجة إلى أن نسعى لعفو من العلي القدير، وأن نقدم الصفح المتبادل عن كل العصور التي آذى فيها المسلمون والمسيحيون بعضهم البعض".

ويبقى السؤال: كيف سيتعامل البابا الجديد مع العالم الإسلامي؟ هل يتعاون أم يتحارب معه؟ هل يتبنى خطا متشددا يواكب الحملة الصليبية السياسية التي تقودها أمريكا وأوربا حاليا؟.. وهل ينعكس تصاعد العداء من جانب الأحزاب اليمينية الإيطالية المناهضة للإسلام على مواقفه؟.

وهل يعتذر نيابةً عن الفاتيكان والعالم المسيحي للعالم العربي والإسلامي عن فترة الحروب الصليبية، خاصةً في ظل ما جرى من اعتذار مماثل لليهود بحيث يضمن توافر أرضية لحوار ديني قوي بين المسيحية والإسلام يواجهان به موجة الإلحاد الجديدة في العالم، أم تتغلب روح التنافس مع الإسلام على روح التعاون؟.

وكيف سيكون تعامل الكنيسة الكاثوليكية مع الوضع في القدس المحتلة، خاصة أن الفاتيكان عقد في فبراير 2000 اتفاقا مع السلطة الفلسطينية يعترف لها بحقها في المدينة كسلطة تنفيذية، وبحقها في الحفاظ على التراث الروحي في المدينة؟ هل سيواصل البابا الجديد قيادة الفاتيكان نحو رفض ضم المدينة للدولة العبرية، أم أن صك البراءة الذي أعطاه الفاتيكان لليهود عام 1964 من "دم المسيح" سيؤثر على موقفه من هذه القضية؟.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply