نظرة في الواقع السياسي العربي الداخلي


 بسم الله الرحمن الرحيم

إن المتأمل في الواقع السياسي العربي الداخلي يجد اضطراباً شديداً على كافة الأصعدة, وعلى الرغم من حالة الحراك المشاهَدة في بعض الدولº إلاّ أنها ما زالت لم تتبلور بعد, ولم تُفصح عن نفسها بشكل واضح.

إن العالم العربي على مدى سنين طويلة ظل واقعه السياسي خامداًº حتى قُتل الوعي عند قطاع عريض من الجماهير.

ففي البداية رسخ الاحتلال على أنفاسه بظلمه وجبروته لعشرات السنين, ثم جاءت أنظمة دان معظمها بالولاء للمحتل السابق, حيث جاءت للحكم نتيجةً لصفقات مشبوهة, أو سرقةً لكفاح المجاهدين الحقيقيين لأسباب قد لا يتسع المقام لذكرها هنا.

وإذا كان من الطبيعي أن يحاول المحتل قتل الوعي والنخوة في نفوس الناس, فقد كان من الغريب أن تسير كثير من الأنظمة 'الوطنية' على نهج المحتل, بل زاد بعضها في شدته وبطشهº إن البطش والاستبداد الذي مارسته العديد من الأنظمة أصاب الجماهير بالتبلد وعدم المبالاة, أضف إلى ذلك التدهور الاقتصادي الذي شهدته معظم البلدان العربية نتيجةً لسياسات اقتصادية رعناء ومتقلبة, وانتشار للفساد والمحسوبية, بل إن المدقق يجد أن الأنظمة استخدمت هذه السياسات متعمدة في بعض الأحيانº لشغل المواطن بقوت يومه وقوت أولاده عن التفكير فيما يجري حوله من أوضاع سياسية واجتماعية متردية.

لقد أفلح المحتل بعد جلائه عن كثير من البلاد العربية في ترك أذناب له يفكرون بنفس طريقته, ويعتقدون أنهم ورثوا الشعوب مع الحكمº ما أدى إلى عزل الشعوب عن الحياة السياسية, وتحكم نخبة قليلة ترتبط بمصالح مع الأنظمة على مجريات الأمور, وأصبحت في أيدي هذه النخبة السلطة والثروة والسيطرة.

واستخدمت تلك الأنظمة القبضة الأمنية الشرسة لقهر الجماهير, وأجهزة الإعلام الموجهة لغسل عقولهم, وأوهمتهم أن المعارضة شرذمة فاسدة تبغي الوصول للحكم وكأنها سُبة, في حين أن جميع الأحزاب في الدول الغربية تهدف برامجها صراحةً للوصول إلى الحكم دون تجريم!

بجانب ذلك وضع المحتل أسباب الفرقة بين جميع البلدان بعد تقطيعها إرباً, ووضع في كل بلد بذوراً للفتن الطائفية والعرقية, يقوم بتأجيجها واستثمارها في الوقت المطلوب, كما يحدث في لبنان والسودان، والعراق وسوريا ومصر وغيرها، ومن ثم فإن هذا التاريخ المرير أورث المنطقة ظروفاً سياسية متقلبة، وأنظمة حاكمة لها حساباتها الخاصة, تنظر بقلق لأي بادرة للتغيير، حتى بدأ الغرب نفسه يتململ من استمرار الأنظمة العربية 'الصديقة' بعد أحداث سبتمبر, الذي حاول حصر تبريرها بغياب الديمقراطية في العالم العربي, وهو ما أدى وفقاً لنظرته إلى تنامي ما أسماه الاتجاهات الإسلامية 'المتطرفة', في حين تجاهل تماماً سياساته المجحفة تجاه العديد من قضايا العالم العربي كقضية فلسطين.

وهذا التعارض في المصالح بين الأنظمة 'الصديقة' والغرب مؤخراً أفرز انعكاسات سياسية جديدة على الواقع السياسي من أمثلتها:

1-  تنامي دور منظمات المجتمع المدني في الكثير من الدول.

2-  تنامي ظاهرة الاعتصامات والاحتجاجات في قطاعات عديدةº للتعبير عن غضبها من الوضع الراهن.

3-  ظهور بعض الحرية في المجال الإعلامي المقروء والمسموع والمرئي.

4-  الشعور بأهمية الإرادة الشعبية لحدوث التغيير المنشود بعد طول ركود.

5-  الكشف عن العديد من قضايا الفساد الاقتصادي، وارتباط ذلك بالفساد السياسي.

إلاّ أن الناظر إلى هذه المتغيرات رغم مؤشراتها الإيجابية يجد أنها لا تلبي الطموحات المنشودة للتغيير لعدة أسباب من أهمها:

1-  أنها جاءت في مجملها نتيجةً لضغوط غربية لها مصالح مع هذه الأنظمة, ولا يهمها التغيير الحقيقي إلا بما يفيد مخططاتها, فإذا أثبتت هذه الأنظمة بشكل أو بآخر أنها قادرة على تحقيق هذه المخططات بدون تحولات حقيقية سترفع ضغطها، وتُخلي بين الأنظمة وشعوبها المغلوبة على أمرها, كما فعلت طوال السنين الماضية, فالعقلية الغربية النفعية، والنظرة الدونية للعرب, والخوف من قيام المارد الإسلامي بما يحمله من قيم حضارية و'نهضوية' مغايرة لما عليه الغربº تصب لصالح هذا الخيار.

2- إن قطاعات عريضة من الشعب ما زالت غائبة عن الساحة، منغمسة في همومها اليومية, تسير بجانب الحائطº حفاظاً على أمنها الشخصي, وهذه الجماهير هي الرهان الحقيقي, وهي في نفس الوقت صاحبة المصلحة الرئيسة, فالنخبة وحدها يسهل حصارها، والتضييق عليها، وترويج الشائعات حولها للتقليل من شأنها أمام الناس, حيث لا زالت الكثير من الأنظمة تتحكم في وسائل الإعلام الرئيسة والمؤثرة على الرغم من غياب مصداقيتها عند قطاع عريض من المثقفين وبعض البسطاء.

3- مراوغة الأنظمة وتصديق بعض التيارات الداعية للتغيير للمبادرات التي تدعو إليها بين الحين والآخر في محاولة لكسب الوقت, وللتقليل من الضغوط الخارجية الواقعة عليها, بل إن بعض هذه التيارات تعقد صفقات مع الأنظمة تأتي غالباً في صالح الأخيرة, وتُقلل من حجم الزخم التي اكتسبته التيارات الداعية للتغيير.

4- التناحر بين تيارات التغيير المختلفة، ومحاولة كل واحدة منها الانفراد بالساحة على حساب الأخرى, وعدم اليقظة لأذناب السلطة في محاولاتها للوقيعة بينها.

5- محاولة بعض اتجاهات التغيير استبعاد التيار الإسلامي من الساحة, رغم إمكانياته الضخمة، وثقة الجماهير فيه, بل ومشاركة هذه الاتجاهات للأنظمة في تشويه سمعته, كما حصل من بعض الاتجاهات اليسارية عقب فوز التيار الإسلامي في مصر بعدد كبير من مقاعد البرلمان.

6- غياب الالتحام الحقيقي مع الجماهير لإشعارها بالمسئولية نحو وطنها ومستقبلها، ونشر الوعي في القطاعات الغائبة بشتى الوسائل الممكنة.

7- عدم اتفاق تيارات التغيير على برنامج موحد للتحرك, وتعاملها مع الأنظمة من خلال رد الفعل, فيزداد نشاطها عند وقوع ضغط ما عليها, ويقل نشاطها بزوال المؤثر الوقتي.

إن الخوف كل الخوف من رضى التيارات الداعية للتغيير في العالم العربي عما وصلت إلية من مكتسبات قليلة خلال الفترة الماضية مقارنةً بحالة الموات السابقة, وعدم السعي إلى تطوير آليات عملها لتحقيق التغيير المنشود.

والمطلوب الآن حشد الجهود جميعاً للاتفاق على برنامج موحد للتغيير, وعدم الثقة في الأنظمة ومراوغتها, والتأكيد على الهوية الإسلامية للأمة, فقد جربت الأمة عبر تاريخها القريب العديد من 'الأيديولوجيات' التي أثبتت فشلها الذريع, كما ينبغي التأكيد على أهمية توسيع قاعدة المطالبين بالتغيير لضم القطاعات العريضة الصامتة التي يُعوّل عليها دعاة الأنظمة بحجة أنها تقف على الحياد, بينما هي تقف مكتوفة الأيدي خوفاً من بطش السلطة.

إن الأمة التي تريد النهوض الحقيقي لا تفكر في حجم الخسائر، ولكنها تفكر في نبل الغايات, والعجيب أن أمماً لا تمتلك الميراث الثقافي والحضاري للعالم العربي قدمت التضحيات من أجل تغيير واقعها السياسي, بينما ترزح حكومات عربية على أنفاس شعوبها منذ عقود رغم فسادها، ولا تجد أي محاولة للتغيير!!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply