مِنْ " ذكرياتِ " الشيخِ علي الطنطاوي - رحمهُ الله - . . . فوائد وفرائد


بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

مِنْ " ذكرياتِ " الشيخِ علي الطنطاوي - رحمهُ الله - . . . فوائد وفرائد


عليٌّ الطنطاوي - رحمهُ اللهُ - ارتبط اسمهُ في أذهاننا منذ الصغرِ من خلالِ برنامجهِ الذي كان يقدمهُ في الرائي بعنوان : " نور وهداية " ، وكان لهُ برنامجٌ بعد الإفطارِ في رمضان ، وكان من المعمرين ، فمات - رحمهُ اللهُ - وقد تجاوز التسعين .

قال الشيخُ سليمان الخراشي في " الطنطاوي في الميزان " ( ص 5 ) : " هذا الشيخُ قد عرفناهُ ونحن صغارٌ بأحاديثهِ الممتعةِ عبر الإذاعةِ ومن خلالِ الرائي ، وقد ارتبط اسمهُ لدينا بشهرِ رمضان حيث كان يقدمُ البرامجَ المميزةَ خلال الشهرِ الكريمِ ، وكان يجمعُ في برامجهِ بين الإصلاحِ الاجتماعي والحديثِ الشجي الجذابِ .

هذا الشيخُ هو عليٌّ الطنطاوي الذي يعرفهُ الصغارُ والكبارُ في بلادنا ، حيث حلَّ ضيفاً علينا منذ عشراتِ السنين ، مستقراً في أم القرى ، ناشراً دعوتهُ عبر القنواتِ والوسائلِ التي تيسرت له منذ قدومهِ إلى اليوم " .ا.هـ.

ترك الشيخُ عليٌّ الطنطاوي مؤلفاتٍ كثيرةً من أشهرها : " ذكريات " ، وهي سلسلةٌ في ثمانية مجلداتٍ ، كتب فيها ذكرياتهُ في أسلوبٍ أدبيٍّ بسيطٍ ، إلى جانبِ السرد التاريخي لحياتهِ - رحمهُ اللهُ - ، حوت جملةً كبيرةً من الفوائدِ الأدبيةِ ، والتاريخيةِ ، واللغويةِ ، والفقيةِ ، وغيرِ ذلك مما يحسنُ جمعهُ في مجلدٍ لطيفٍ .

وقد رأيتُ أن أضع بين أيديكم ما جمعتهُ من تلك الفوائدِ للاستفادة منها ، وبدأتُ بالمجلدِ الثامنِ ثم ننزل بالتدرج إلى الأول إن شاء اللهُ تعالى ، نسألُ اللهَ الإعانةَ والسداد .

فائدةٌ :
نقل الشيخُ محمدٌ المجذوب عن الطنطاوي أنه قال : " إنهُ نشأ أول أمرهِ في وسطٍ صوفي ، إذ كان والدهُ نقشبندياً مثل أكثرِ المشايخِ ، فتعلم منه كره ابنَ تيميةَ والوهابيةَ ، حتى إذا شخص إلى مصر ، وصحب خالهُ المرحوم الأستاذ محب الدين الخطيب ، بدأ ينظرُ إلى ذلك الموضوعِ بروحٍ جديدةٍ دفعتهُ إلى إعادةِ النظرِ في أمرِ القومِ . . . بيد أنه لم ينتهِ إلى الاستقرارِ إلا بعد اتصالهِ بالشيخِ بهجةٍ البيطار ، فمن هناك بدأت استقامتهُ على الطريقةِ والتزامِ الجادةِ ، وكان من أثرِ ذلك كتاباهُ اللذان أخرجهما عن حياةِ الشيخِ محمدِ بنِ عبد الوهاب [ قال الشيخُ سليمان الخراشي في الحاشية : وعليهما ملاحظات ] . . . إلا أن هذا الاستقرار لم يأتِ بالمجانِ بل كلفهُ وأخاهُ عبد الغني - كما يقولُ - طويلاً من النقاشِ مع الشيخِ بهجة ، غفر اللهُ لنا ولهُ ، فقد دخلا معه في معركةِ جدالٍ حادةٍ ، بلغت بهما حدَّ إغضابهِ ، وهو المعروفُ بوقارِ العلمِ وسعةِ الصدرِ ، والبعد عن التعصب ، حتى لم يعد لهما حجةٌ يصح الاعتدادُ بها بعد أن اتضحت معالمُ الحقِّ في أجلى بيانٍ . . " .ا.هـ.

سبحان الله ! فقد أراد اللهُ للشيخِ عليٍّ الطنطاوي أن يبحثَ عن الحقِّ فهداهُ اللهُ إليهِ .

والآن مع الفوائدِ . . .

حمى الدينِ مستباحٌ لكلِّ أحدٍ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/8) : " وللطبِّ حُماتهُ ، والذائذون عنهُ ، فإن انتحل صفةَ الطبيبِ من ليس من أهلهِ ، ففتح عيادةً ، أو كتب وصفةً لاحقوهُ قضائياً فعاقبوهُ ، وكذلك من ادعى أنهُ مهندسٌ وما هو بمهندسٍ ، فرسم خريطةً حاكموهُ وجازوهُ ، فما لنا نرى بابينِ مفتوحين لا حارس عليهما ، ولا بواب ، يدخلهما من شاء ، وهما أخطرُ من الطب ومن الهندسةِ ، هما : " الدينُ والسياسيةُ " .
فمن أراد تكلم في الدينِ ، ولو خالف الأئمةَ الأولين والآخرين ، أو أفتى ولو جاء بما لم يقل به أحدٌ من المفتين ...

فما للدينِ لا يجدُ من يحميهِ ؟ لقد كانوا يقولون قديماً :

لقدْ هزلتْ حتى بدا من هُزالها * * * * سلاها وحتى سامها كلُّ مفلسِ

فماذا نقولُ وقد زاد بها الهزالُ حتى لم يبق منها إلا العظام ، وحتى أقدمت عليها السباعُ والضباعُ والهوامُ " .ا.هـ.
وصدقَ - رحمهُ اللهُ - .

فائدةٌ لغويةٌ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/9) : " حتى أنّ مديرَ مدرستنا الابتدائية التي كنتُ أدرّسُ فيها في أوائلِ العشرينيات " لا العشرينات " من هذا القرنِ " .ا.هـ.

تصحيحٌ لمفهومٍ خاطىءٍ عن النعامةِ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/10) : " ... فهل نصيرُ كالنعامةِ التي كذبوا عليها فزعموا أنها تدفنُ رأسها في الرملِ تظنُ أنها إن لم ترَ عدوها فإنه لا يراها ، وهي لا تفعلُ ذلك ولكنها فريةٌ افتروها عليها ، وهي لا تملكُ لساناً تردُّ به عن نفسها ، أما أنا فإني أملكُ بحمدِ اللهِ لساني وقلمي " .ا.هـ.

مناظرةٌ مع نصراني :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي - رحمهُ اللهُ - (8/11 - 12) : " ذلك أنهُ كان من عادةِ رؤساءِ الجمهوريةِ في دمشق أنهم يدعون القضاةَ والعلماءَ ، ومن يسمونهم برجالِ الدينِ إلى مائدةِ الإفطارِ في رمضان ، وقد ذهبتُ مرتين فقط إلى دعوتين من الرئيسينِ هاشم بك الأناسي وشكري بك القوتلي رحمةُ اللهِ عليهما ، فجمع أحدهما بيننا نحن قضاة الشرعِ والمشايخِ ورجالِ الدين من النصارى ، وكانت أحاديث مما يُتحدثُ به في أمثالِ تلك المجالسِ ، أحاديث تمسُ المشكلاتِ ولا تخترقها ، وتطيفُ بها ولا تداخلها ، ففاجأنا مرةً واحدٌ من كبارهم يعتبُ علينا ، إننا ندعوهم كفاراً .

فجزع الحاضرون ووجموا ، وعرتِ المجلسُ سكتةً مفاجأةً ، فقلتُ للرئيسِ : تسمح لي أن أتولى أنا الجواب ؟ وسألتهُ : هل أنت مؤمنٌ بدينك ؟ قال : نعم ، قلتُ : ومن هم الذين تدعونهم مؤمنين بهِ : أليسوا هم الذين يعتقدون بما تعتقد ؟ قال : بلى ، قلتُ : وماذا تسمي من لا يعتقدُ بذلك ؟ ألا تدعوه كافراً ؟ فسكت . قلتُ إن الكافرَ عندك هو الذي يرفضُ أن يأخذَ بما تراهُ أنت من أسس الدينِ ، وأصولِ العقائدِ ، وكذلك نحنُ فالناسُ عندنا بين مسلمٍ يؤمنُ بما نؤمنُ به من رسالةِ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وسلم - ، وإن القرآن أنزلهُ اللهُ عليهِ ، وآخرُ لا يؤمنُ بذلك فنسميه كافراً فهل أنت مسلم ٌ ؟ فضحك وقال : لا ، طبعاً ، قلتُ : وهل أنا في نظرك وبمقاييس دينك مؤمنٌ بما لدى النصارى أو كافرٌ به ؟ فسكت وسكتوا ، قلتُ : أنا أسألك ، فإن لم تجب أجبتُ عنك ، أنا عندك كافرٌ لأني لا أعتقدُ بأن المسيحَ ابنُ اللهِ ، ولا بأنهم ثلاثةٌ الأبُ والابنُ وروحُ القدسِ ، والثلاثةُ واحدٌ ، ولا بمسألةِ الفداءِ ، ولا بامثالِ ذلك مما هو من أصولِ عقائدِ النصارى . وأنت عندي كافرٌ لأنك تقولُ بها ، فلماذا تنكرُ عليّ ما تراهُ حقاً لك ؟ إن ديننا ظاهرٌ معلنٌ ، ليس فيه خبايا ولا خفايا ولا أسرار ، والقرآنُ يتلى في كلِّ إذاعةٍ في الدنيا ، حتى أنني سمعتهُ مرةً في إذاعةِ إسرائيل ، والقرآنُ يقول : " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ " [ المائدة : 17 ] ، ويقولُ في الآيةِ الثانيةِ : " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " [ المائدة : 73 ] ، فالكفرُ والإيمانُ إذن مسألةٌ نسبيةٌ ، ما تسميه أنت كفراً أسميه أنا إيماناً ، وما أسميه أنا كفراً تسميه أنت إيماناً ، واللهُ هو الذي يفصلُ بيننا يومَ القيامةِ ، فسكتوا " .ا.هـ.

نسيانُ الأمةِ لعظمائها :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/36) : " وكان الرئيسُ هو الأستاذُ مصباح محرم ، وهو قاض كبير نسيهُ الناسُ كما نسوا من أمثالهِ الكثير ، لأن مكانهم في أذهانهم امتلأ بأسماءِ المغنين والممثلين ولاعبي الكرة في الملعبِ واللاعبين بمصالحِ الأممِ من السياسين في المجالسِ والأحزابِ " .ا.هـ.

عاقبةُ التفرقِ والانفرادِ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/38 - 39) : " ... حتى ظهر مصطفى كمال فألقى القناعَ الأبيضَ المزورَ ، فظهر من ورائهِ الوجهُ الأسودُ القبيحُ ، لما بدأت تظهرُ نوايا الاتحاديين ألفت أحزابٌ ، وتجمعت جماعاتٌ لمقاومةِ دعوتهم إلى تتريكِ العناصرِ العثمانيةِ ، فكان منها ) الجمعية المحمدية ( ومنها ) حزب الحرية والائتلاف الذي كان الشيخُ مسعودٌ من أكبر العاملين له ، والساعين لإنشائهِ .

تنبه العربُ لمكايدِ الاتحاديين ، ولكنهم على عادتهم يخالفون دائماً أمرَ ربهم ، فيعمدون إلى التفرقِ والانفرادِ ، بدل التجمعِ والاتحادِ ، فيعملُ كلٌ وحدهُ وفق اجتهادهِ ولا يعملون معاً ، لذلك لم تفلح واحدةٌ من هذه الجماعاتِ وهذه الأحزابِ وبقي حزبُ " الاتحادِ والترقي " هو الحاكمُ ، حتى أدخلنا بسوءِ رأيهِ ، وفسادِ طويتهِ في الحربِ العالميةِ الأولى ، وجعلنا في الجانبِ الخاسرِ ، فكان السبب في انهيارِ هذا الصرحِ العظيمِ الذي ظل يقارعُ الأحداثَ ويثبتُ على الزلازلِ والهزاتِ خمسةَ قرونٍ : صرحُ الدولةِ العثمانيةِ على ما كان منها " .ا.هـ.

خطبةٌ في مكانٍ أسفله وأعلاه بنكٌ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/49) : " وكان إلى جنبِ المشيريةِ مسجدٌ ( هو مسجدُ عيسى باشا )وأمامها مسجدٌ . أما الذي إلى جنبها فقد أقيمت في مكانهِ عمارةٌ كبيرةٌ جعلوا للمسجدِ طبقةً منها ، وفي الطبقةِ التي تحتها مصرفٌ ( بنك ) وفي الطبقةِ التي فوقها مصرفٌ ( بنك ) . خطبتُ فيه مرةً خطبةَ الجمعةِ ، فقلتُ للناسِ : " إني أقومُ على هذا المنبرِ أقولُ إن اللهَ حرم الربا ، فيقولُ لي من هو تحتي : " كذابٌ " ، ويقولُ الذين هم فوقي : " كذابٌ " .

وجعلُ المساجد طبقة في عمارةٍ كبيرةٍ بدعة لم أعرفها في غير الشام وبيروت ، وهي حرامٌ ، لأن أرضَ المسجدِ وسماءهُ له فلا يجوزُ أن يملك تحته ولا ما فوقه " .ا.هـ.

وصفٌ غالبٌ في السِّمَانِ :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/51) : " والسِّمانُ عادةً يكونون خفافَ الروحِ ويكونون من أظرفِ الناسِ ، كأن الذي زاد في شحمهم ولحمهم خفف من دمهم . هذا هو الغالبُ عليهم فإن وجدتم فيهم من ثقُل دمهُ كما ثقُل جسمهُ فتلك هي المصيبةُ الكبرى . ولحملُ صخرةٍ تصعدُ بها الجبل ، أهونُ من مجالسةِ سمينٍ ثقيل الدم " .ا.هـ.

هِمَّةُ الشيخِ عليًّ الطنطاوي في القراءةِ :
قال الشيخُ عليًّ الطنطاوي (8/58) : " قلتُ : ومن يقرأُ أكثر مني ؟ أنا من سبعين سنةِ إلى الآن ، من يوم كنتُ صبياً ، أقرأُ كلَّ يومٍ مئةَ صفحة على الأقل ،وأقرأُ أحياناً ثلاث مئة أو أكثر ، ما لي عمل إلا القراءة ، لا أقطعها إلا أن أكون مريضاً أو على سفرٍ ، فاحسبوا كم صفحة قرأتُ في عمري . لقد قرأتُ أكثرَ من نصفِ مليون صفحة وأعرفُ من قرأ أكثر مني كالأستاذ العقاد والأمير شكيب أرسلان ومحمد كرد علي ومحب الدين الخطيب رحمهم الله " .ا.هـ.

موقفٌ طريفٌ في مصر :
قال الشيخُ عليٌّ الطنطاوي (8/67) : " ذهبتُ في إحدى سفراتي أزورُ الأستاذَ الزيات ، وكان قد انتقل إلى ( المنيل ) إلى شارعٍ سماه لي شارع ( مسجد السلطان قايتباي ) فأخذتُ سيارةً وذهبتُ المنيل أسألُ عن هذا الشارع فلم يعرفهُ أحدٌّ ممن سألتهُ عنهُ ، وطُفتُ في المكانِ خمسةَ أشواطٍ وأنا لا أعرفُ أين يقعُ هذا الشارع حتى كانت مصادفةٌ من أعجب المصادفاتِ ، أرويها لكم على حقيقتها وأحسبكم ستشكون فيها ، هي أنني وقفتُ على بابِ محلٍ تجاريٍّ أسألُ صاحبهُ عن الشارعِ فاهتم بي ، ولكن ما عرفهُ ، فرفعتُ رأسي وغذا لوحةٌ باسم الشارعِ على الجدارِ فوق هذا المحلِ فلما نبهتهُ إليها عجب كثيراً وضحك طويلاً وأقسم أنه لم ير اللوحةَ إلا الآن " ا.هـ.

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply