بأيِّ ذنبٍ يُقتلُ هَؤلاءِ الأبرياءُ؟!


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

فَفِي يومنا الحَاضرِ، يُرَوَّعُ الجميعُ بِعملياتٍ تفجيريةٍ إجراميةٍ تَجري أحداثها الدَّاميةُ في مختلفِ البلادِ الإسلاميةِ، وبخاصَّةٍ العربية منها، ويَكونُ من ورائِها مقتلُ الأبرياءِ الذينَ لا ذنب لهم، ولا جريرةَ عليهم.

 ونحنُ إزاءَ هذه الإعمالِ الإجراميةِ، لَنتساءلُ بكلِّ حرقةٍ وألمٍ: بأيِّ ذنبٍ يُقتلُ هؤلاءِ الأبرياءُ؟!! ولا يهمنا في هذا المقامِ أنْ نعرفَ الجهةَ الفاعلةَ لهذه الأعمالِ، فهذا من شأنِ الجهاتِ الأمنية المختصَّةِ بهذا الأمرِ، وإنما المهم لَدَيْنا أنْ نُدركَ شَناعةَ هذه الأعمالِ وجسيمَ آثارِها على الفردِ والجماعةِ والأُمَّةِ.

إِنَّ أُولئكَ الأبرياءَ ذهبوا إلى ربِّهم، وهم  يَشكونَ غدرَ الغادرينَ وخيانةَ الخائنينَ.

أَمَّا أولئكَ النَّفرُ الَّذِينَ كانوا وراء تلكَ الأعمالِ البشعةِ الغادرةِ، فحقيقٌ بنا أنْ نُعْلِنَها صَريحةً مُدوِّيةً في وجهِ كُلِّ واحدٍ منهم بلا تَلجلجٍ ولامواربةٍ -إنْ كانَ مُنتسباً للإسلامِ-: إِنَّكَ يا غُدرُ أبعدُ ما تكونُ عنْ تعاليمِ الإسلامِ السَّمحةِ، وإنْ تَمسَّحتَ بها زوراً وبهتاناً.

وإنَّكم واقفونَ في يومٍ عظيمٍ مُفزعٍ مَهيبٍ أمامَ محكمةِ العدلِ الإلهيةِ، الحَاكمُ فيها: (ربُّ العالمينَ)، و(ملكُ السمواتِ والأرضينَ)، القائلُ في كتابهِ المبينِ:

{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء: 47].

وعَنْ جَابِرٍ-رضيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ، قَالَ: ((أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟  قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا، فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟))(1).

وما نَدري-والأيام حُبلى بالأعاجيب- إلى أيِّ هُوَّةٍ عميقةٍ يسقطُ هؤلاءِ، وإلى أيِّ دركٍ سحيقٍ يَنْكَبُّ أُولئكَ!!

إِنَّ هؤلاءِ المجرمونَ، العابثونَ بأرواحِ الأبرياء ودمائهم، قد ارتكبوا أعمالاً في غايةِ القُبحِ والشَّناعةِ، تشمئزُ منْها أصحابُ الفطرِ السليمةِ، وتضيقُ بسببها صدورُ ذوي المروءةِ والشهامةِ، وقد ورَّطوا أنفسهم-عياذاً بالله- في موبقاتٍ مهلكةٍ، ومنْ هذه الموبقاتِ ما يلي:

1-سفكُ الدَّمِ الحرامِ المعصومِ، وقد جاءَ الإسلامُ في تشريعاتهِ المحكمةِ بحفظِ هذه الكُلِّيِّةِ العظيمةِ، والتَّشديدِ في شأنها، وفي ذلكَ يقولُ الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}[النساء: 93].

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا قَالَ: {جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيماً} قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَزَلَ وَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ وَأَنَّى لَهُ بِالتَّوْبَةِ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا قَاتِلَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِيَسَارِهِ وَآخِذًا رَأْسَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا فِي قُبُلِ الْعَرْشِ يَقُولُ : يَا رَبِّ سَلْ عَبْدَكَ فِيمَ قَتَلَنِي))(2).

وفي خطبةِ حَجَّةِ الوداعِ يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما رواهُ عَنْهُ جابرٌ-رضي اللهُ عنهُ- : ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا)) (3).

وفي ضوءِ هذا النَّصِّ النَّبوِيِّ المحكمِ، يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ-رحمه الله: ((وَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) (4) .

2-الظلمُ والبغيُ والعدوانُ، فلا يرتابُ عاقلٌ أَنَّ إزهاقَ الأنفسِ البريئةِ منْ أَشدِّ أنواعِ الظلمِ والبغيِ والعدوانِ، وقد حَفلتْ نصوصُ الكتبِ والسُّنَّةِ بتحريمِ ذلكَ، وتوضيحِ العاقبةِ الأليمةِ لصاحبهِ، كما في البيانِ الآتي:

أ-يقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل: 90].

ب-ويقول سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33].

جـ- ويقول عَزَّ مِنْ قائل:{... وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }[آل عمران: 57].

د-ويقولُ جَلَّ في علاه:{...وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}[الشعراء: 227].

هـ-وعَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا))(5) .

3-الغدرُ والخيانةُ، وهذا منَ المقطوعِ بتحريمهِ في الشريعةِ الإلهيةِ، ولا أدلَّ على ذلكَ مِنْ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كانَ يَنْهَى عَنْهُ إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ، إذْ يقولُ: ((اخْرُجُوا بِسْمِ اللهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ لَا تَغْدِرُوا ...))(6).

فهذا يقولهُ نَبِيُّ الرَّحمةِ و رسولُ الهدايةِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وصيةً للجيشِ المسلمِ في ساحاتِ الوغى مع أعدائهِ الحربيينَ، فقلْ لي -ناشدتُكَ اللهَ- كيفَ يكونُ الحالُ آنذاكَ مع مسلمٍ مسالمٍ، أو مستأمنٍ  دخلَ بأمانِ أحدٍ منَ المسلمينَ؟!!!

 وقد أخرجَ الإمامُ أحمدُ في:"مسنده" بسندهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَقَالَ: أَقْتُلُ لَكَ عَلِيًّا؟ قَالَ لَا، وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ وَمَعَهُ الْجُنُودُ؟ قَالَ أَلْحَقُ بِهِ فَأَفْتِكُ بِهِ قَالَ لَا. إِنَّ رَسُولَ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ الْإِيمَانَ قَيْدُ الْفَتْكِ لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ))(7). والفتْكُ هو الغدرُ(8).

يقولُ حافظُ المغربِ، الإمامُ ابنُ عبد البر-رحمه اللهُ-: ((والغدرُ أنْ يُؤمِّنَ، ثُمَّ يقتلَ، وهذا حرامٌ بإجماعِ، والغدرُ والقتلُ سواءٌ. قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((الإيمانُ قيدُ الفتكِ لا يفتكُ مؤمنٌ))(9).

وقالَ أيضاً: ((إذا كانَ دَمُ الحربيِّ الكافرِ يَحرمُ بالأمانِ، فما ظَنُّك بالمؤمنِ الَّذِي يُصبحُ ويُمسي في ذِمَّة اللهِ! كيف تَرى في الغدرِ بهِ والقتلِ وقد قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((الإيمانُ قيدُ الفتكِ لا يَفتِكُ مؤمنٌ))(10).

أي أنَّ الإيمانَ الحقَّ يُقيِّدُ صاحِبَهُ أنْ يتردَّى في هُوَّةِ الغدرِ والخيانةِ، فإنْ فعلْ كانَ ذلكَ بُرهاناً على خللٍ في إيمانهِ.

واللهَ أسألُ أَنْ يُعيذنا من الفتنِ ما ظهر منها وما بطنَ، وأنْ يَهديَ مَنْ ضَلَّ مِنْ عبادهِ إلى الهُدى وسواءِ السَّبيلِ.

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(1)-إسناده قوي. أخرجه ابن ماجه في"سننه" برقم4010.

(2)-إسناده صحيحٌ .أخرجه أحمد في :"مسنده" 2142.

(3)-أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم 3009.

(4)-"مجموع الفتاوى": (3/283).

(5)-أَخرجه مسلم في"صحيحه" برقم 6737.

(6)-إسناده صحيحٌ. أَخرجَهُ الأمام أحمد في:"مسنده": (1/390/ح3708).

(7)- إسناده صحيحٌ.أخرجه أحمدُ في مسنده 2728.

(8)-نصَّ على ذلك ابنُ فارسٍ في:"معجم مقاييس اللغة": (4/471)، مادة: (فتك).

(9)، (10)-"الاستذكار": (5/33).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply