سلسلة أحسن الحديث -3-


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

قَال تَعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران:79-80].

 

هاتَانِ الآيَتانِ فيهما مَسائلُ، ومنهما فَوائِدُ:

1.    النَّفيُ القَاطِعُ الجَازِمُ بِأنْ تَكونَ العبادةُ حَقًّا لأَيِّ بشرٍ كائِناً منْ كانَ، مَهْما عَلتْ مَكانتُهُ وَسَمتْ مَنْزلتُهُ، ولو كَانَ نَبِيًّا يُوحى إِليهِ، فَإِنَّهُ لا يَزالُ في دائرةِ البَشرِيَّةِ، وَلَمْ يَنْخَلِعْ عَنْ طَوقِ الآدَمِيَّةِ، اللَّتينِ فيهما غَايةُ الفقرِ والذُّلِ للهِ الغَنِيِّ الحميدِ، وَمِنْ ثَمَّ يكونُ هَذَا النَّفْيُ عَمَّنْ دونَ الأنبياءِ-عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ-مِنَ الأولياءِ والصَّالحينَ، مِنْ بابِ الأَوْلى والأَحْرى.

وفي المقابلِ: يَكونُ إثباتُ هذا الحقِّ العظيمِ، للهِ الملكِ العَليمِ وحدهُ لا شَريكَ له؛وهَذِه هِيَ حقيقةُ الإسلامِ الَّذي مِنْ أَجْلهِ بُعِثتِ الرُّسلُ، وَأُنْزِلتِ الكُتبُ، وَضِدُّهُ هُوَ (الكُفْرُ) النَّاقضُ لهذا الإسلامِ، الهادمُ لَهُ بالكُلِّيَّةِ.

 

2.    الرَّدُّ الحَاسِمُ على النَّصاري واليهودِ الَّذينَ بَالُغوا في تعظيمِ أحبارهم ورهبانهم إلى درجةِ أَنَّهم جعلوهم أرباباً وآلهةً مِنْ دونِ اللهِ سُبْحانهُ وبحمدهِ، وفيهِ الرَّدُّ أيضاً على مَنْ اتِّبعَ سَنَنَهُم، وَدارَ في فَلكِ الضَّلالةِ مِثْلَهُمْ مِنَ الرَّافضةِ المجوسِ الَّذينَ اتَّخذُوا علِيًّا-رضِيَ اللهُ عَنْهُ-وأَئِمَّةَ آلِ البيتِ مِنْ بعدهِ أرباباً مِنْ دونِ اللهِ عَزَّ وجلَّ، حتى قالَ قائِلُهم وهو (عبد الحسين العاملي)، كُفْراً وزندقةً، كما في: (( ديوان الحسين)): (1/48):

أَبَا حَسَنٍ أنت عينُ الإلهِ* وعنوانُ قُدْرتهِ السَّاميةِ

وَأَنتَ المُحِيطُ بِعلمِ الغُيوبِ* فَهَلْ عِنْدكَ تَعْزبُ مِنْ خَافية

وَأَنتَ مُدَبِّرُ رَحَى الكَائناتِ* وَعِلَّةُ إِيجادِها البَاقية

لَكَ الأمرُ إنْ شِئتَ تُنْجِي غَدَاً* وإنْ شِئتَ تَسفعُ بالنَّاصيةِ

كَمَا أَنَّ فيهِ رَدًّا على الصُّوفيةِ الَّذينَ جَاوزوا الحدَّ في مشايخهم، حتى جعلوهم أرباباً مِنْ دونِ اللهِ جلَّ في عُلاه، وهذا ما تَراه مَاثلاً في اعتقادِ أَنَّ الشَّيخَ الوليَّ قادرٌ على أَنْ يَخلُقَ الجنينَ في بطنِ أُمِّهِ، وأَنَّهُ قادرٌ-نعوذُ باللهِ مِنْ كفرهم وضلالهم- عَلى مَسْخِ مَنْ شاءَ مِنَ البشرِ، وتحويلِ صُورتهِ مِنْ شكلٍ لآخرَ، وأَنَّهُ يَعْلمُ الغيبَ، ويَعْلمُ ما في اللَّوحِ المحفوظِ، عِلاوةً على ما يُصْرفُ إليهِ مِنْ ألوانِ العباداتِ مِنْ دعاءٍ، واستغاثةٍ، وطلبٍ للمددِ في تفريجِ الكرباتِ وقضاءِ الحاجاتِ، وذبحٍ، ونَذْرٍ، وطاعةٍ مطلقةٍ في تشريعِ ما لم يأذنْ بهِ اللهُ، واتِّباعٍ أَعْمى في تحليلِ ما حَرَّمَ اللهُ، وتحريمِ ما أحلَّ اللهُ ؛فكَأَنَّما هو المَيِّتُ بين يَدَيْ مُغسِّلهِ يُقَلِّبهُ كيفما شاءُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ الكبيرِ المتعالِ.

وَخُذْ مثالاً لهذا الضَّلالِ المبينِ على لسانِ أحدِ مشايخهم وهو (عبدالرحيم البرعي) إذْ يقولُ في قَصيدتِه: (( مهبط الوحي)): (ص/19):

إِليكَ رَسولَ اللهِ أَشْكُو مَصَائِباً* فَأَنتَ رَجائِي في الخُطوب وَعُمْدَتي

وَأنْتَ لَنا غَوْثٌ وعَوْنٌ وَمَلْجَأٌ*وَأَنْتَ لِمرضَانَا شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ.

 

3.    دَعْوةُ الأنبياءِ -عَليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ- تَهْدِفُ إلى تَحقيقِ الرَّبانِيَّةِ في العبادِ، وَذلكَ  بِإخلاصِ العبادةِ للهِ تَباركَ وَتَعَالى، وَأَنْ يكونَ الخَلائِقُ كُلُّهُمْ مَرْبُوبينَ للهِ سبحانهُ، لا أَرْباباً، وَمُنْطلقُ ذَلكَ وقَاعِدتُهُ: (العِلْمُ النَّافعُ الصَّحيحُ)، الجامعُ للحكمةِ والبصيرةِ، المؤَصِّلُ لتوحيدِ اللهِ عَزَّ وجلَّ في دَائرةِ النَّظرِ والمعارفِ والتَّصوُّراتِ، المقَرِّرُ لَهُ في ميدانِ السُّلوكِ والتَّربيةِ والعَمَلِيَّاتِ، فهذهِ هِيَ بركةُ تَحصيلِ العِلمِ النَّافعِ وتَعْليمهِ ونَشْرهِ في النَّاسِ، وثَمَرتُهُ العُظمْى الَّتي لا نظيرَ لها ولا مثيلَ في عَالمِ الأشياءِ والموجوداتِ.

 

4.    فِيهِ الكَشفُ عَنْ مَصْدرِ العَقائدِ المُحرَّفةِ لَدَى اليهودِ والنَّصارى، المُضَادَّةِ لتوحيدِ اللهِ عَزَّ وجلَّ وإسلامِ الوجهِ له سبحانهُ، ومَا شَابَههَا مِنْ عقائدِ الرافضةِ والصُّوفيةِ، وَأَنَّهُ مصدرٌ بَشريٌّ مِنْ وحيِ الشَّياطينِ، تَوالدَ عبرَ الأزمنةِ والعصورِ، أَداتُهُ: (الكَذبُ والتَّحريفُ)، وبَاعِثُهُ: (الهوى والإخلادُ إلى الأرضِ)، وعاقبةُ أَمْرهِ: (الغَيُّ والضَّلالُ)، في انسلاخٍ شديدٍ عَنْ هَدْي اللهِ وآياتهِ البَيِّناتِ.

 

5.    جَعْلُ الْمَلَائِكَةِ، أوِ الْأَنْبِيَاءِ، أوِ الصَّالحينَ، أَوْ غَيرِهم مِنْ خَلْقِ اللهِ أجمعينَ، وَسَائِطَ يَدْعُوهم العبدُ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ، وَيَسْأَلُهُمْ جَلْبَ الْمَنَافِعِ، وَدَفْعَ الْمَضَارِّ مِثْلَ: أَنْ يَسْأَلَهُمْ غُفْرَانَ الذَّنْبِ، وَهِدَايَةَ الْقُلُوبِ، وَتَفْرِيجَ الْكُرُوبِ، وَسَدَّ الفاقاتِ:كُلُّ ذلكَ كُفْرٌ بإجماعِ المسلمينَ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(1)             انظر: ((جامع البيان)): (5/523-535) للطبري، طـ.هجر، و((الجامع في أحكام القرآن)): (7/321-322) للقرطبي، و((مجموع الفتاوى)): (1/124و27/283)، و((منهاج السنة)): (1/48)، و((الجواب الصحيح)): (2/357و4/57) لابن تيمية، و((زاد المعاد)): (4/145) لابن قيم الجوزية، و((تفسير القرآن العظيم)): (2/66-67) لابن كثير، و((محاسن التأويل)): (2/341) للقاسمي، و((أضواء البيان)): (7/408) للشنقيطي، و((التحرير والتنوير)): (3/293-295) لابن عاشور، و((موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور)): (1/430) لحكمت بن بشير بن ياسين ـ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply