وذا النون


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

ها هي قصة يونس عليه السلام تعطي درساً غاية في الأهمية وغاية في العمق لابد لكل ذي دعوة ولابد لكل سائر في الطريق أن يأخذ العبرة منها ويجعلها نبراساً في دعوته ومؤشراً في طريقه.

إذ أرسل الله يونس عليه السلام إلى قومه داعياً إلى الله ومرشداً في طريق التغيير فاستعصوا عليه وكذبوه كحال أي قوم مع أي نبي أو رسول فالأقوام قد تراكمت على قلوبها وعقولها آثار السنين من الجهالة والعادات والتقاليد التي يصعب على أي قوم تغييرها والإنتقال إلى وضع جديد ما عهدوه وما جربوه.

فما كان من يونس عليه السلام إلا أن هجر قومه منذراً إياهم بالعذاب المحيط بهم ورحل يضرب في الأرض الوسيعة وداعياً في أقوام آخرين ظناً منه أن الأرض واسعة و يمكنه الدعوة في أي قوم غير الذي أرسل إليهم فأودته قدماه إلى البحر فركبه مع قوم آخرين وبينما كانوا في لجة البحر ثقل القارب واستهموا لإلقاء واحد منهم لتخفيف الحمل فكان السهم على يونس عليه السلام.

فألقي أو ألقى نفسه فأخذه الحوت بأمر ربه فلم يأكل له لحماً ولم يكسر عظماً فدخل في ظلمة من فوقها ظلمة وظلمة (ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل) وضاق عليه الأمر فدعى ربه أني قد ظلمت نفسي فاستجاب له ربه ونجاه فلفظه الحوت على الساحل. حيث يقول الله تعالى:

(وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ * فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ) الأنبياء 87 – 88.

ولكن الله تعالى علم من يونس عليه السلام الإيمان وصدق التوجه وأنه ما ترك الطريق عمداً ولا تنكراً للدعوة وإنما تركه غضباً وسهواً منه فكانت الإجابة والنجاة ومصداق ذلك قوله تعالى (وكذلك ننجي المؤمنين).

إن طريق الدعوة ليس معبداً إنه طريق طويل وشاق ولابد أن يتعرض السائرون فيه للقذف بالحجارة ولوضع الصخور في طريقهم وربما تكون العثرات طبيعية المنشأ لأن الطريق لم يسلكه أحد منذ زمن طويل فتراكمت عليه الأتربة والحجارة نتيجة ما تعرض إليه من رياح وهزات وانجرافات.

وهنا دور السائر في الطريق أن يصبر على الأذى ويحتسب كل ذلك عند الله فإن غضب كظم وإن أوذي صبر فليس المهم الشخص وإنما المهم الدعوة المهم أن نصل إلى نهاية الطريق.

ربما تحاول مرة وعشرة ومئة مرة وفي كل مرة تتعرض للتكذيب أو الإنكار ولكن عساها تكون في المرة الواحدة بعد المئة وربما تكون في المرة الواحدة بعد الألف.

إن المهمة كبيرة فربما تكون العثرات التي تكونت بفعل الزمن أعتى من غيرها فإن تراكمات كبيرة من الجهالة والعادات والتقاليد ترسخت على مر السنين فأصبحت جزءً من الطريق يصعب إقتلاعه.

فلابد من المحاولة والصبر وعدم اليأس والبحث عن المناطق الحساسة التي يمكن طرق بابها فتكون هي المدخل للقلوب والضمائر النائمة فتصحو ولا تنام.

قد يكون من السهل هجر الناس وترك الدعوة بسبب التعرض للتكذيب أو الإنكار وهذا مما لاشك فيه راحة للسائر في الطريق و زوال لهمه و لكن ماذا استفادت الدعوة من ذلك الهجر؟ وهل سيحدث تقدم في السير في الطريق؟ ليس المهم أبداً من يسير في الطريق ولكن المهم أن يصل الطريق إلى نهايته.

فالرسول صلى الله عليه سلم مات ولم تتوقف الدعوة وها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول للناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).

وهذه هي دعوتنا وهذا هو سبيلنا لا دعوة أشخاص ولا أسماء إنها دعوة خالصة لله لرب الأشخاص والمسميات.

فلا يأس مع الدعوة وما عليك إلا الدعوة والتبيان للناس بخطى ثابتة واثقة وسبيل بين ولا تتبع أهواء الناس البعيدة عن هدى الله فيضلوك بضلالهم وتتيه الدعوة في لجج الجهل والأهواء. حيث يقول الله تعالى:

(فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ  وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) الشورى 15.

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ  فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ  وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) المائدة 49.

حيث أن أكثر الناس لا يعلمون وبعيدون عن جادة الصواب حيث وردت في مواقع كثيرة في القرآن (... ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فإن أنت مشيت وراء خطاهم الضالة السبيل المتبعة أهواء النفس فإنك ستضل لا محالة وتضل الأمة من وراءك وتتقاذف الدعوة أمواج الأهواء يمنة ويسرة حتى تتساقط أركانها ركناً تلو الآخر وتنهدم فتصبح أثراً بعد عين.

وإن إنهدام الدعوة لن يكون بمعزل عن السائرين في الطريق ولا المتبعين لها وإنما ستهدم على رؤوسهم وسينالهم العذاب المقيم بما كسبت أيديهم.

فما عليك إلا الدعوة بعيداً عن الأهواء فإن هم تولوا فاعلم أن الله ليس بغافل عنهم وإنما أراد أن يصيبهم شيئاً مما كسبت أيديهم وما عليك من الإثم من شيء إنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم ويوم القيامة تردون إلى الله فيحكم بينكم بميزان للقسط يوضع.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply