ثم استوى على العرش


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

 إنّ من أصول أهل السنّة والجماعة: أنهم يؤمنون بأنّ الله تعالى مستوٍ على عرشه، كما أخبر تعالى عن ذلك في سبعة مواضع من كتابه الكريم: في سورتي الأعراف ويونس: ﴿ إنّ ربَّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش (الأعراف: 54)، (يونس: 40) وفي سورة الرعد: ﴿ الله الذي رفع السماوات بغير عمدٍ ترونها ثم استوى على العرش  (الرعد: 2)  وفي سورة طه: ﴿ الرحمن على العرش استوى  (طه: 5) وفي سورة الفرقان: ﴿ ثم استوى على العرش  (الفرقان: 59). وفي سورة السجدة: ﴿ الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش  (السجدة: 4). وفي سورة الحديد: ﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش  (الحديد: 4). ولقد جاء تعريف الاستواء في لغة العرب على أربعة معان، وهي: علا، وارتفع، وصعد، واستقرَّ .

وأمَّا استواء الله تعالى على عرشه: فيعتقد أهل السنّة والجماعة أنّ الله مستوٍ على عرشه استواءً حقيقيًّا يليق بجلاله وعظمته، دون تشبيهٍ أو تعطيل أو تمثيل، فمعنى الاستواء معلومٌ وكيفيته في حقّ الله تعالى فمجهولة.سُئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: ﴿ الرحمن على العرش استوى  كيف استوى؟ فأجاب رحمه الله تعالى بجواب مشهور تناقله أهلُ السنة، وهو قوله: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة [1]

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: «فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله وأخبروا أنه معلومٌ، لا يحتاج لفظه إلى تفسير، ونفَوا عنه الكيفية» انتهى كلامه.قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والقول الفاصل هو ما عليه الأمّة الوسَط: من أنّ الله مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختصُّ به، فكما أنه موصوفٌ بأنه بكلّ شيء عليم وعلى كلّ شيء قدير وأنه سميعٌ بصير ونحوه ذلك، ولا يجوز أن يُثبَت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي كعِلم المخلوقين وقُدراتهم؛ فكذلك هو سبحانه فوق العرش ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها».ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: «واعلم أن ليس في العقل الصريح ولا في النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلًا »[2]. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.ولقد جاءت تفاسير كثيرة لمعنى استواء الله تعالى تُخالف ما عليه سلف الأئمة، ويمكن إجمال تلك التفاسير الباطلة لمعنى الاستواء في مذهبين اثنين:الأول: مذهب المشبِّهة والمجسِّمة، وهم أولئك الذين يُشبِّهون الخالق بالمخلوق، فيجعلون استواء الخالق كاستواء المخلوق! تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.والمذهب الثاني: مذهب أهل التعطيل النفاة، أولئك الذي يزعمون أنه ليس هناك استواء حقيقيّ وينفون أن يوصف اللهُ بذلك، ويزعمون أنّ الله ليس فوق السماوات! تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.ومن تلك الأقوال الباطلة في تفسير استواء الله زعمُ بعض الناس أنه بمعنى العظمة والعزّة والقهر.. وغير ذلك.شاهد المقال: أنّ جميع المخالفين لأهل السنّة ينفون صفة الاستواء اللائقة بالله تعالى.وأمَّا العرش: فيعتقد أهل السنّة والجماعة أنه عرشٌ حقيقيّ كما أخبر الله تعالى عن ذلك في مواضع كثيرة من كتابه الكريم:﴿رفيع الدرجات ذو العرش﴾(غافر: 15). ﴿ثم استوى على العرش﴾ (السجدة: 4). ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ (طه: 5). ﴿لا إله إلّا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم﴾ (التوبة: 129). ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبِّحون بحمد ربِّهم﴾(غافر: 7).  ﴿ويحمل عرش ربِّك فوقهم يومئذ ثمانية﴾ (الحاقة: 17). ﴿وترى الملائكة حافِّين من حول العرش﴾ (الزمر: 75). وكذا جاءت نصوصٌ صحيحة صريحة في سنّة النبيِّج. وأمَّا معنى العرش في اللغة: فهو سرير الملك، كما أخبر الله تعالى عن ملكة اليمن: ﴿ولها عرشٌ عظيم﴾ (النمل: 23). وعليه فعرش الرحمن عرشٌ حقيقيّ، جاء في الكتاب والسنّة أوصافٌ له.فمن صفاته: أنّ له قوائم. وبُرهان ذلك قوله ج: »يُصعقون يوم القيامة، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش»  أخرجه البخاري عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه[3] . ومن صفات العرش أيضًا: أنه سقفُ المخلوقات جميعًا. قال ج: »إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنّة»  أخرجه البخاري وغيره  [4].والعرشُ محمولٌ تحمله الملائكة وتحُفُّ حوله، وتُسبِّح بحمد ربِّها، كما قال تعالى: ﴿ويحمل عرش ربِّك فوقهم يومئذ ثمانية﴾ (الحاقة: 17)، وقال: ﴿ وترى الملائكة حافِّين من حول العرش يُسبِّحون بحمد ربِّهم﴾ (الزمر: 75). ومن صفات عرش ربِّنا أيضًا: أنه عرشٌ مجيد، كما قال تعالى: ﴿ ذو العرش المجيد * فعَّالٌ لما يُريد﴾ (البروج: 15-16) على قراءة خفض «المجيدِ»، والمجيد هو: الرَّفيع العالي الشريف.ومن صفات عرش ربِّنا: أنه عرشٌ عظيم، كما قال تعالى: ﴿قل من ربُّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتّقون﴾ (المؤمنون: 86-87).قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فوصف العرشَ بأنه مجيد، وأنه عظيم».ومما يدُلّ على عِظَم خلق العرش: عِظَم حَمَلته. أخرج أبو داود والطبراني عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ج: «أُذِن لي أن أُحَدِّث عن ملَك من ملائكة الله تعالى من حَمَلة العرش، ما بين شحمة أذُنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة» [5] فلا إله إلّا الله، ما أعظمَ شأنَه وما أجلّ قدرَه.وعرشُ ربِّنا  على الماء،كما قال تعالى: ﴿وكان عرشه على الماء﴾ (هود: 7). وفي الصحيح أنّ النبيَّ ج قال: » كان ولم يكن شيءٌ قبله ـ وفي رواية: ولم يكن شيءٌ معه«، وفي رواية:  »ولم يكن شيءٌ غيرُه ـ وكان عرشه على الماء « [6].وفي صحيح مسلم: »لأنّ الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلُق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء« [7] . ومن صفات عرش ربِّنا تعالى: أنه ذو منظر حسَن جميل، كما قال تعالى: ﴿فتعالى الله الملك الحقّ لا إله إلّا هو ربُّ العرش الكريم﴾ (المؤمنون: 116). قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: «فذكر العرشَ لأنه سقفُ جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم، أي: حسنُ المنظر بهيُّ الشكل، كما قال تعالى: ﴿أنبتنا فيها من كلّ زوجٍ كريم﴾ (الشعراء: 7)» انتهى كلامه رحمه الله. ومن صفات العرش أيضًا: أنه أثقل الأوزان. أخرج الإمام مسلم في صحيحه أنّ النبيَّ ج قال: «سُبحان الله زِنةَ عرشه« [8]. قال شيخ الإسلام: «فهذا يُبيِّن أنّ زِنة العرش أثقل الأوزان« . قد استدلّ بعض أهل العلم على أنّ العرشَ مُقبَّب، يعني كهيئة القُبّة، والحُجّة في ذلك ما رواه أبو داود وغيرُه أنّ النبيَّ ج قال: «إنّ عرشَه على سماواته لهكذا« وقال بأصابعه مثل القبّة[9]  ثم إنّ أقوامًا قد ضلّوا فيما يتعلق بعرش الرحمن تعالى، وحرَّفوا الكلم عن مواضعه، فزعم بعضهم أنّ العرش فلَك مستدير، سمَّاه بعضهم: الفلك الأطلس! وسمَّاه آخرون: الفلك التاسع. وزعم آخرون أنّ المراد بعرش الله تعالى: ملك الله، وليس هناك عرشٌ حقيقيّ!وهذه أقوالٌ مخالفة لكتاب الله تعالى ولسُنّة رسوله ج ولإجماع أهل السنّة. وممَّا يدُلّ على بطلان تلك الأقوال: ما ثبت في النصوص وقرَّره أهل السنّة في معتقَدهم من أنّ العرش عرشٌ حقيقيّ له صفات معلومة، فهو عرشٌ عظيم مجيد، بهيّ المنظَر، حسن الشكل، كهيئة القُبّة، له قوائم، تحمله ملائكة عظام ما بين شحمة أذُن أحدِهم وعاتقه مسيرة سبعمائة عام، وهذا العرش العظيم سقف المخلوقات وأثقل الموزونات. وثمرات الإيمان بالعرش كثيرة، فمن ذلك: التصديق بما أخبر الله تعالى به، وبما أخبر عنه رسوله ج. ومن الثمرات أيضًا: موافقة سلف الأمة في اعتقادهم في العرش بأنه عرشٌ حقيقيّ، كما أخبر الله عنه ووَصَفه، لا كما يقول المؤوِّلة والمحرِّفة بأنه عبارة عن ملك الله! أو فلَك من أفلاك الكون!ومن الثمرات أيضًا: زيادة إيمان العبد بربِّه، فإذا آمنَ العبدُ بالمغيَّبات التي أخبر الله بها، زاد ذلك في إيمانه وثباته.فاللهَ نسأل أن يُظلّنا في ظلّ عرشه يومَ لا ظلّ إلّا ظلّه.اللهمَّ زدنا بك علمًا، وزدنا بك إيمانًا، وزدنا لكَ حُبًّا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

([1]) انظر: «تذكرة الحفاظ» (1/209).

([2]) الفتوى الحموية (ص275-276).

([3]) البخاري كتاب التوحيد، باب (وكان عرشه على الماء)   (7427)

([4]) البخاري كتاب التوحيد، باب (وكان عرشه على الماء)   (7423)

([5]) أبو داود كتاب السنة، باب في الجهمية (4727)، والطبراني (6503).

([6]) البخاري كتاب التوحيد، باب (وكان عرشه على الماء) (7418 ، 3190).

([7]) مسلم كتاب القدر، باب حجاج آدم  وموسى عليهما السلام (6690).

([8]) مسلم الذكر والدعاء، باب التسبيح أولَ النهار وعند النوم (6852).

([9]) أبو داود كتاب السنّة، باب في الجهمية (4726). 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply