التطاول على عظماء الأمّة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بعثه رحمةً للعالمين ومعلماً للأميين بلسان عربي مبين، ووعده يوم القيامة مقاماً محموداً وحوضاً موروداً وشرفاً مشهوداً؛ فصلوات الله وملائكتِه وأنبيائِه والصالحين من عباده وسلامهم عليه ، ورضي الله عن أصحابه الكرام أهلِ المواقف العظام وهداةِ الأنام رضي الله عنهم أجمعين.

أمّا بعد فيا أيّها المؤمنون الكرام، إن الله جلّ وعلا اختار لهذا النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم، أنصاراً عدولاً وصحابةً كراماً؛ عزّروه ونصروه وأيّدوه عليه الصلاة والسلام، وبذلوا مهجهم وأنفاسهم وأموالهَم في سبيل نصرته ونصرة دينه صلى الله عليه وسلم؛ ففازوا بكل فضيلة، وسبقوا الأمة في الخيرة، وفازوا برضوان الله؛ قال عز من قائل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾(التوبة100).

وفي أيامنا هذه أساء بعض النّاس فهم الحرية ، وظنّوا أنّ حرّيةَ الصغير تجعله في صفّ الكبير... وأنّ الثورةَ على الحكّام المستبدين معناها التعدّي على مقام العظماء، ولذلك جعلوا نصوصَ القرآن التي ترفعُ من شأن الصحابة وتثمّن بلاءهم من أجل نُصرة الدين، جعلوها وراءهم ظهريا، وراحوا يتطاولون على عظماء الإسلام من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخاصة ، سيّدي أهل الجنة إطلاقاً بعد النبيين والمرسلين، أبي بكر وعمر ويتهمونهما  بأنهما قدّما مصالحهما الشخصيةَ على مصالح عموم المسلمين لحرصهما على الخلافة وحسمِ أمرها قبل أن يُدفن الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وهما اللذان دبّرا بإضمار مسبق، وبتخطيط محكم تقاسمَ السلطة بينهما، بمبادرة عمرَ بمبايعة أبي بكر ليستخلفه هذا الأخير فيما بعدُ ولذلك سيكون الحديث في حلقتنا هذه عن الخليفتين مجتمعين.

فهل صحيح أنّهما استعجلا أمرَ الخلافة فهرعا إلى سقيفة بني ساعدة لحسمها والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لم يُدفن بعدُ؟ وهل يُعتبر إسراعهُما إلى السقيفة أمرا مَعِيبا يؤاخذان عليه؟ وهل ثمّتَ في القرآن ما دفع أبا بكر وعمرَ للتعجيل بحفظ مؤسّسة الدولة وضمانِ استمرارها ودون انتظار دفن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم؟ وهل بالإمكان القولُ بأنّ ما سلّمه عمرُ  لأبي بكر بيد يوم وثب فأخذ بيده، فتواثب الجميعُ من عَليَة الصّحابةِ يبتدرون البيعةَ، أخذه منه بيد أخرى يوم استخلف أبو بكر عمرَ، فيكون عهدُ الصديق للفاروق بالخلافة هو من باب ردّ جميله يوم بادر بمبايعته في السقيفة؟

أيها المؤمنون الكرام، اضطربت حال المسلمين بالإعلان عن وفاة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم .. فكان موتُه قاصمةَ الظهر، ومصيبةَ العمر، فأمَّا عليٌّ فاستخفى في بيت فاطمة، وأما عثمانُ فسكت، وأما عمرُ فقال: ما مات رسولُ الله وإنما واعده ربُّه كما واعد موسى، وليَرْجِعَنَّ رسولُ الله، فليقطعن أيديَ رجال وأرجلَهم. ولما سمع أبو بكر الخبرَ، أقبل فدخل المسجد، فلم يكلّم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمّم رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مُغشّى بثوب ، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبَّلَه وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لايَجمعُ الله عليك موتتين، أما الموتةُ التي عليك فقد متّها. وخرج أبو بكر وعمرُ يتكلم فقال: اجلس يا عمر، وهو ماض في كلامه، وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في الناس خطيباً بعد أن حَمِدَ الله وأثنى عليه:

أما بعد: فإن من كان يعبد محمدا فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾(آل عمران144). فجعل الناس يبكون قال عمر: فوالله ما إن سمعت أبا بكر تلاها فهويت إلى الأرض ماتحملني قدماي، وعلمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد مات. نسيَ عمر الآيةَ فذكّره بها أبو بكر رضي الله عنه ليخرجه وبقيةَ المسلمين من حالة الذهول والحيرة، وليتحوّلَ معهم للنظر في مسألة الخلافة ضمانا لاستمرار الدولة ودرءا لحصول فراغ  سياسي، تنفلت معه الأمور وتعود حالةُ المسلمين إلى ما كانت عليه في الجاهلية، خاصة وقد علم أنّ الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده ولحق بهم المهاجرون، وتحاور الأنصار والمهاجرون واختلفوا في من يكون له الحقّ في الخلافة، واحتدّ الاختلاف، وأراد عمرُ أن يتكلّم، فقال له أبو بكر: على رسلك. قال عمر فكرهت أن أُغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلمُ مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلَها أو أفضلَ منها حتى سَكت. فقال في الأنصار: ما ذكرت فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرفَ هذا الأمر إلا لهذا الحيِّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً.

إنّ المبادرة بحسم الخلافة لم يكن من باب الاستعجال كما يدّعي البعض، وإنّما من باب المصلحة، والمصلحة هي الحفاظ على استمرار مؤسسة الدولة لوظيفتها، ودرء فتنة الانقسام والانفلات والعودة إلى حالة الجاهليّة.

فهل خطّط عمر وأبو بكر لتقسيم السلطة بينهما، ونجحا في مخطّطِهما وحقّقا مآرِبَهُما وهما من هما في القيمة والشأن عند الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهما القدوة للمسلمين من بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصريح حديثه ؟  نتعرف إلى الإجابة في الخطبة الثانية بإذن الله تعالى.وأقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله

 

الخطبة الثانية:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾آل عمران:102 ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾النساء:1 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾الأحزاب:70

أمّا بعد فيا أيّها المؤمنون الكرام، بعد أن استطاع أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يَدخل إلى نفوس الأنصار فيقنعهم بما رآه هو الحق من غير أن يُعرِّض المسلمين للفتنة، قال: رضيت لكم أحدَ هذين الرجلين فبايِعوا أيَّهما شئتم .قال عمرُ: فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بنِ الجراح وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرَها. كان والله أن أتقدم فتضربُ عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحبَّ إلي من أن أَتَأَمَّرَ على قوم فيهم أبو بكر" البخاري

وبهذه القناعة من عمرَ رضي الله عنه بأحقية أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة قال له: ابسط يدك نبايعُ لك. قال عمر: أنت أفضلُ منّي. قال أبو بكر: أنت أقوى منّي. قال عمرُ: إنّ قوّتي لك مع فضلك. لا ينبغي لأحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون فوقك يا أبا بكر. أنت صاحبُ الغار مع رسول الله، وثاني اثنين، وأمرَكَ رسولُ الله حين اشتكى فصلّيت بالنّاس، فأنت أحقُّ بالنّاس بهذا الأمر.

ووثب عمر فأخذ بيد أبي بكر، فتواثب الجميع من أعيان الصحابة يبتدرون البيعةَ. وفي الغد كانت البيعة العامة في المسجد والتي تكلّم فيها عمر فقال للمسلمين: إنّ الله قد جمع أمركم على خيركم صاحبِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأولى النّاس بأموركم فقوموا فبايعوا" ألا تعبّر موافقةُ الصحابة لموقف عمر من مبايعة أبي بكر عن حسن ظنّهم فيه وتقديرهم له، ومكانتِه في قلوبهم؟ ألا تغني شهادةُ السرائر فيه عن شهادة كلّ كلام؟ أكان الصحابةُ في المسجد يساندونه لو رأوا في كلامه أمرا معيبا؟

أيّها الأحبة الكرام، ألا تلاحظون في تبادل الخليفتين العبارات الموجزةَ ما يفنّد أباطيلَ المغرضين.

يقول عمرُ للصدّيق: إنّك أفضلُ منّي. فيردّ عليه أبو بكر: إنّك أقوى منّي. فيقول عمرُ: إنّ قوّتي لك مع فضلك.

إذن تصّرف كلٌّ منهما في قضية خلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يمليه الشرع وتقتضيه المصلحة. فكانت خلافة أبي بكر برضا المسلمين. والشيء ذاته حصل في خلافة عمر فقد عرضها عليه أبو بكر فقال: لا حاجة لي فيها.  فقال أبو بكر: ولكن لها بك حاجة يا ابن الخطّاب. واستشار الصديقُ خيرة أصحابه فقال له عبد الرحمان بنُ عوف: هو والله أفضلُ من رأيك فيه.وقال عثمانُ بن عفان: إنّ سريرتَه خيرٌ من علانيته، وإنه ليس فينا مثلُه.

وسأل أُسَيْد بنَ الحُضيْر، فقال: يرضى للرضى ويسخط للسخط، والّذي يُسِرُّ خير من الذي يُعْلن، ولن يَلِيَ هذا الأمرَ أحدٌ أقوى عليه منه".

وأجمع المسلمون بالمهاجرين والأنصار على تزكية عمر رضي الله عنه، وتصويبِ أبي بكر في ترشيحه.

فكيف يظهر في هذه الأيام من يقدح في الشيخين رضي الله عنهما، ويشكّك في العباقرة، ويحكم على نواياهم؟ وما الغرض من مثل هذه الجرأة على العظماء في هذا الظرف الّذي تحتاج فيه مجتمعاتنا إلى هدايتهم؟ وهل تأتي هذه الحملة المركّزة على الإسلام ورجاله لتُشيع القول بأنّ الثقافة الأوروبية برجالها يمكن أن تكون بديلا عن الثقافة الإسلامية برجالها؟ وهل ثمّت فتنة يمكن أن تنتشر بين المسلمين أكبرُ من فتنة الطعن في الإسلام وأحكامه وتشريعاته ورجال دولته؟

عباد الله إن هذا اليوم يوم عظيم خيراته موفورة وأعلام بركاته عليكم منشورة. وحسبكم أن فيه ساعة يستجيب الله فيها دعاء من دعاه. وصح في مسلم أنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة.فابتهلوا إلى الله تعالى بإنابة وخشوع فعسى أن يكون دعاؤكم في هذه الساعة من الدعاء المسموع. اللهم يا ملاذ اللائذين ياغياث المستغيثين يا خير من رفعت إليه أكف السائلين. صلّ وسلّم على سيّد الخلق أجمعين، سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زادا لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عن من سواك اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك. اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عونا لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغا لنا فيما تحب. اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين، يا أكرم الأكرمين اللهم لا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، ومكّن لإخواننا المسلمين في ليبيا واليمن البحرين وسائر بلاد المسلمين. اللهم اشف مرضانا وارحم بفضلك موتانا وعافنا وعاف مبتلانا، اللهم نجح أبناءنا وبناتنا في امتحاناتهم ولا تخيبهم يا رحمان يا رحيم يا ربّ العلمين، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه واجعلهم من الصالحين، واهدهم إلى صراطك المستقيم. إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply