بين فرض وفضل


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

عندما تغيب عنا حقائق الدين تدخل الأعراف والعادات الإجتماعية لتحل محلها، فإن لم تكن ما ألفناه من الإلف الإجتماعي يتدخل الهوى فتميع الحقائق وتضيع الحقوق ومما ألفناه في مجتمعاتنا العربية أننا نأخذ بجانب واحد من رأي الفقهاء وقد يكونوا قلة وننحي جوانب فقهية لجمهور الفقهاء لأن رأي القلة هذا يوافق هوانا، أضرب مثالاً واضحاً لهذا الأمر بالإجابة عن هذا السؤال:

ما هو حكم خدمة المرأة في بيت زوجها؟

سوف تكون الإجابة من الجميع أنه لا محل للإعراب في هذا السؤال لأنه يجب عليها أن تخدمه، لكن هذا رأي الذكور العرب، لكن هذا ملخص آراء الرجال من الفقهاء اللذين يستنبطون الأحكام الشرعية وفق الكتاب والسنة :

أولاً: ذهب الجمهور إلي أنه لا يجب علي المرأة أن تخدم زوجها في بيته.!

قال ابن القيم: (منعت طائفة وجوب خدمتها عليه في شئ). وممن ذهب إلي ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر.

فبالنسبة للحنفية فإنهم أوجبوا علي الرجل أن يوفر لزوجته من يخدمها. قال أبو جعفر الطحاوي: (علي الزوج النفقة على زوجته فيما لا غنى بها عنه من طعام ومن شراب ومن خدمة بالمعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره. وعلى الزوج أن ينفق لزوجته على خادمها وليس عليه أن ينفق لها على أكثر منها من الخدم بعد أن تكون تلك الخادمة متفرغة لخدمتها لا شغل لها غيره).

لكن هذا مقَيَّد عندهم بما إذا كانت الزوجة من أهل الإخدام وإلا فقد جاء في حاشية ابن عابدين أن المرأة  إذا كانت ممن يخدم نفسها وتقدر على ذلك لا يجب عليه إخدامها ولا يجوز أخذ الأجرة على ذلك لوجوبه عليها ديانة ولو شريفة، لأنه عليه الصلاة والسلام قسم الأعمال بين علي وفاطمة فجعل أعمال الخارج على علي (كرم الله وجهه) والداخل علي فاطمة (رضي الله عنها) مع أنها سيدة نساء العالمين.

وبالنسبة للمالكية فإنهم نظروا إلي المسألة من جانبين:

أحدهما حال المرأة بحيث فرقوا بين التي هي من أهل الإخدام فهذه معفاة عندهم من خدمة البيت ويتكلف الزوج بتوفير من يخدمها وبين التي هي ليست من أهل الإخدام فتلزمها خدمة البيت .

والجانب الثاني: حال الزوج من حيث اليسرو العسر، فيلزم الموسر وحده عندهم توفير خادم لزوجته. وفي هذا قال الباجي: (عليه إخدامها إن كانت ممن لا تخدم نفسها لمالها و غني زوجها و ليس من الخدمة الباطنة في بيتها شئ و إن كانت من أهل الضعة و ليس في صداقها ما تشتري به خادماً، فليس علي الزوج أن يخدمها وعليها الخدمة الباطنة، وإن كان الزوج معسراً فليس عليه إخدامها وإن كانت ذات قدر وشرف).

ولم يقبل ابن القيم الجوزية وهو من القائلين بوجوب خدمة الزوجة في بيتها التمييز بين النساء في هذه المسألة، فذكر أنه (لا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة وفقيرة وغنية).

وبالنسبة للشافعية فإن الإمام الشافعي ذهب إلي قول المالكية في المسألة، غير أنه لم يراع حال الزوج المادية كما راعاها المالكية فألزمه بتوفير من يخدم زوجته إن كانت من أهل الإخدام في حالة يسره وعسره معاً فقال: (وإن كان مثلها لا يخدم نفسها، وجبت عليه نفقة خادم لها) ، و قال عند حديثه عن قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا ﴿النساء: ٣﴾ يحتمل أن يكون عليه لخادمها نفقة إذا كانت ممن يُعرَف أنها لا تخدم نفسها، وهو مذهب غير واحد من أهل العلم .

واحتج لهذا الرأي أبو الحسن الماوردي بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّـهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴿النساء: ١٩﴾ فجعل الخدمة من المعتاد المعروف، وبقوله (صلى الله عليه وسلم) لهند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: (خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف). فعد الخادم من المعروف وهو خاص بالمرأة التي يكون لمثلها خدم .

وبالنسبة للحنابلة فرأيهم في المسألة:

أن الزوجة لا تلزم بخدمة زوجها في بيته، اللهم إلا أن يكون العرف جري علي أن تقوم المرأة بخدمة البيت فيكون الأولي أن تقوم بها، وهذا ظاهر قول ابن قدامة: (وليس علي المرأة خدمة زوجها من العجن والخبز والطحن وأشباهه، نص عليه أحمد،  لنا أن المعقود عليه من جهتها الإستمتاع فلا يلزمها غيره كسقي دوابه وحصاد زرعه ولكن الأولي لها فعل ما جرت عليه العادة بقيامها به لأنه العادة ولا تصلح الحال إلا به ولا تنتظم المعيشة بدونه).

وأيضاً هو ظاهر ما جاء في كشاف القناع: (فإن احتاجت الزوجة إلي من يخدمها لكون مثلها لا يخدم نفسها أو لموضعها ولا خادم لها، لزمه لها خادم لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّـهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴿النساء: ١٩﴾ ولأنه لا يحتاج إليه علي الدوام.

ظاهر هذه النصوص أن مذهب الحنابلة يوافق مذهب المالكية في هذه المسألة بنظرهم فيها إلي حال الزوجة هل هي من أهل الإخدام أم لا، ويوافق قول الحنفية في القول الآخر ليس علي الزوجة خدمة البيت، وهو معلل عندهم بأن المعقود عليه من جهتها الإستمتاع مع أنه حق مشترك بينهما .

وبالنسبة لابن حزم فإنه نفي أن يكون من الواجب علي الزوجة شريفة كانت أو وضيعة أن تخدم زوجها في شئ من أعمال البيت، ويري استحباب قيامها بالخدمة الباطنة متطوعة فأعلن أنه (لا يلزم المرأة أن تخدم زوجها في شئ أصلاً لا في العجن ولا في الطبخ ولا فرش ولا كنس ولا غزل ولا غير ذلك أصلاً ولو أنها فعلت لكان أفضل لها وعلي الزوج أن يأتيها بكسوتها مخيطة تامة وبالطعام مطبوخاً تاماً) وحصر ما يجب علي المرأة نحو زوجها في (أن تحسن معاشرته ولا تصوم تطوعاً وهو حاضر إلا بإذنه، ولا تدخل بيته من يكره وأن لا تمنعه نفسها متي أراد وأن تحفظ ما جعل عندها من ماله) ورأيه هذا مبني علي عدم وجود نص في الشرع يلزم المرأة بالخدمة الباطنة، وإن ما ورد من أحاديث مثل حديث فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي اشتكت فيه إلي أبيها ما تلقاه من تعب مصالح البيت وعدم استجابته لطلبها بتوفير خادم لها، وكذا حديث أسماء بنت أبي بكر الذي وصفت فيه ما كانت تقوم به في خدمة زوجها الزبير، فلم ير فيهما حجة للقول بوجوب ذلك عليهما، لأنه (ليس في شئ منها ولا من غيرها أنه (صلى الله عليه وسلم) أمرهما بذلك إنما كانتا متبرعتين وهما أهل الفضل والمبرة رضي الله عنهما. ونخن لا نمنع من ذلك إن تطوعت المرأة به إنما نتكلم علي سر الحق الذي تجب فيه الفتيا والقضاء بإلزامه). وقد جعلهما متبرعتين بها أيضاً الإمام النووي .

 

وللأمانة العلمية والفقهية هناك رأي آخر يري وجوب خدمة المرأة في بيت زوجها يراه ابن تيمية وابن القيم، فيري ابن تيمية أن خدمتها في بيت زوجها تدخل ضمن المعاشرة بالمعروف بين الطرفين، ويري كذلك ابن القيم رأي شيخه ابن تيمية .

ومن الفقهاء المعاصرين اللذين يرون وجوب الخدمة من المرأة في بيت زوجها: الشيخ محمد عبده والشيخ محمود شلتوت والشيخ أبو زهرة والشيخ يوسف القرضاوي، مع إرشادهم أن يوفر الزوج لزوجته من يعينها علي أعمال البيت إذا توفرت قدرته .

وكان الشيخ محمد عبده يقول: إن المماثلة في توزيع الأعمال بين الزوجين علي المرأة تدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه وعلي الرجل السعي والكسب خارجه وهو لا ينافي استعانة كا منهما بالخدم عند الحاجة أي ذلك مع القدرة عليه، وهذا هو التقسيم الفطري الذي تقوم به مصلحة الناس. (الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده ج4).

 ويري الشيخ أبو زهرة أنه: (ليس من الشرع الإسلامي في شئ قول من يقول إن المرأة ليس عليها خدمة بيتها أو القيام علي شؤونه و هو بعيد عن الإسلام بعده عن المألوف الموروث و هو حق جري به العرف في كل العصور). ويري البعض الآخر اعتماد الفقه علي ما جري من العرف في إلزام المرأة بأشغال البيت .

هل رأيتم أنه لا داعي أن نصدر أحكاماً سريعة في مسائل فقهية ولا نعود لنسمع رأي علماؤنا وفقهاؤنا، فإن أجرأكم علي الفتيا أجرأكم علي النار.

نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل .

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply