رفقة القرآن..وأثر الجفاء!


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

يتساءل كثيرون عن الطريق إلى التلذذ بكتاب الله، وحضور القلب عند قراءته، ويتساءلون عن اللذة التي يجدها أهل القرآن.. كيف يجدونها، وبعضهم يتحدث بكلمات تَقَاطر دمعاً أنه يفتح المصحف ويقرأ لمجرد تحلة القسم؛ إذ إنه لا يجد من تلك اللذة شيئاً، ثم ينفطر قلبه إذا رأى من يتكلم عن الشعور الجارف الذي يجده في الحياة مع القرآن.. لأنه يراه يتحدث عن شيء يفتقده. 

في الحقيقة.. الجواب عن هذا السؤال شاق، ومشقته راجعة إلى أنه يُشعر القارئ بأن المتحدث بلغ منزلة في هذا الباب تخوله للحديث عنه، وترجع أيضاً إلى كون الجواب ليس يتلخص إلى كلمة واحدة، تؤخذ وتضمد بها الجراحات ثم تبرأ، بل هو راجع إلى عدة عوامل متفرقة، والواقع أن مثل هذه الإشكاليات هي نتاج تراكمات سابقة، وليست حديثة الولادة، فمن كان آخر عهده بكتاب الله هو رمضان العام الماضي فلا يستغرب أن يدخل رمضان هذا فيحاول أن يعيد ذكرياته الرمضانية السابقة فيتناول المصحف فيبحث عن قلبه فلا يجده، لا يستغرب هذا؛ فإن القلب جَسور على الهرب، وإذا لم يُتعاهد فإنه سرعان ما يتفلت، والعارفون بشأنه يذكرون من تأثره وتفلته أشياء هي أهون من هذا بمراحل. 

دعونا نأخذ مثالاً نعتبر به إلى حالتنا هذه، لو أن شخصاً كان له صديق يألفه ويطوي معه الليالي الكثيرة بلا أدنى ملل، يسامره ويجالسه ويبثه أساريره ومواجيده، لو أن أحد هذين الصديقين ابتعد عن صديقه الآخر مدة من الزمان ولنقل: عشرة أشهر مثلاً، لا يراه، ولا يراسله وليس بينهما أي نوع من التفاعل، تُرى؟ إذا لقيه مرة أخرى -بعد هذه المدة من الانقطاع- هل سيستعيدان من التبسط والعفوية ما كانا ألفاه بمجرد مرور الدقيقة الأولى من لقائهما؟! الواقع أن هذا الاحتمال بعيد؛ إذ إن للبعد تأثيراً ما على العلاقات لابد أن تظهر آثاره، ولو في مظاهر الرسميات لدى اللحظات اللقاء الأولى، وأذكر أن الأستاذ أحمد أمين كان يتكلم عن مثل هذا المعنى فقال حينئذ: (الصداقة ككل حي إذا لم تُغذ بالمقابلة والمكاتبة أسرع إليها الذبول، فالفناء) فهو يرى أنها قد تصل إلى الفناء أيضاً بما أنها كائن حي. 

حسن، لعله اتضح الآن وجه الربط بين الموضوع الذي نتحدث عنه وهذا المثال.. إن هذا الذي كان آخر عهده بكتاب الله هو العام الماضي يستبعد تماماً فيما جرت به عادات القلوب أن يعود إلى حالته الماضية بسهولة، وبطبيعة الحال: إذا كان ثمة حالة.. وهنا وقفة أيضاً؛ فإن الصداقة التي وصفناها هي صداقة وثيقة العرى، أما إذا كانت الصداقة ليست بالعميقة أصلاً فمن البعيد جداً أن تعود كما كانت، والواقع هنا أن علاقة من يهجر القرآن منا مدةً طويلة تكون علاقته ليست بذاك أصلاً، ثم إذا لقيه لقاءً عابراً فارقه المدة الطويلة.. 

أرأيت لو لقيك شخص في مكان معين لقاءً عابراً، ثم لقيك بعد سنة فلم تعرفه، ولم تكتشف من هو، فأخذ يستنكر عليك أنك لم تعرفه.. ألا تعجب؟! لا شك أنك ستعجب؛ لأنه لم يقم من العلاقة بينكما ما يوجب تعجبه هذا، فكذلك حالنا مع القرآن -مع الفارق العظيم طبعاً- ليس لنا أن نتعجب من كوننا لم نتأثر به، وأنه لم يسمح لنا بأسراره مع أننا لا نلتقيه -إذا التقيناه- إلا دقائق، ثم ننقطع عنه المدة الطويلة، فكيف -بالله عليك- ستنكشف لنا معانيه، وكيف سنتأثر به ونحن لا نراه إلا قليلاً ! أدع الجواب للقلوب، وللقلوب فقط؛ إذ إنها هي المصدقة إذا تكلمت.

جيد، إذا كان الأمر كذلك.. فما الحل؟ في رأيي أن أفضل من يتحدث عن الحل هو من نتحدث عن هنا في هذا المقام، هو كتاب الله العظيم.. فإن الله يعلم ما سيعرض لعلاقة عباده بكتابه هذا، فأودع فيه ما يشفي صدورهم في الجواب عن هذه الإشكاليات، دعونا نأخذ مثالاً واحداً من المعالجات القرآنية لهذه الإشكالية.. إشكالية هروب القلوب عند قراءة القرآن، بطبيعة الحال.. بعض الإشكاليات التي تعرض في هذا الباب هي راجعة لعدم فهم النص القرآني بالشكل الكافي، وفي هذا نستعين بكتب التفسير، وهي كثيرة، ولكن ثمة إشكاليات أخرى ليس تتعلق بالتفسير -إذ إن الكلام قد يكون واضحاً- وإنما مرجعها إلى فرار القلب الذي تحدثنا عنه قبل قليل، فكيف نتعامل معها؟ 

بعد أن تحدث الله في سورة (ق) عن بعض العظات التي فيها تذكرة للعباد؛ قال: (إنفي ذلك لذكرى لمن كان لقلب أو ألقى السمع وهو شهيد) وأياً ما كان المشار إليه في الآية.. هل هو ما اقتصه الله من شأن القيامة، أو ما ذكره من أخبار الأمم في كتابه، أو أن الإشارة متجهة إلى الآيات السابقة، أو إلى كل القرآن.. أياً ما كان ذلك.. فإن الآية تتحدث عن سبيل الاعتبار والتذكر، فالآية اختطت خطين في سبيل ذلك: فإما أن يكون للإنسان قلبٌ به يقبل على العظة والتدبر وتتعمق المعاني في قلبه من الوهلة الأولى، وإما أن يلقي السمع وهو شهيد، ولا يخفى ما في قوله تعالى: (ألقى السمع) من دلالة على الإقبال بكل السمع وعدم الانشغال بأي مشغل آخر حتى لكأن السامع ألقى سمعه، وقوله: (وهو شهيد) يؤكد هذا المعنى، فمن لم يجد نفسه في القسم الأول فليبحث عنها في القسم الثاني ويستمر على ذلك حتى يدخل في زمرة أرباب القلوب..

 فحاصل جواب الآية -مربوطاً بموضوعنا-: أن الناس على قسمين: قسم دربوا بمعاني القرآن ونعموا بالحياة معه وصحبته.. حتى صار لدى قلوبهم القابلية السريعة للحضور؛ فهؤلاء يكفيهم مجرد مرور العظة على قلوبهم لينتفعوا، وقسم آخر عليهم أن يلقوا السمع ويبتعدوا عن المشغلات حتى يتفهموا ويتعظوا، نعم.. لابد من الاجتهاد أولاً، لابد من الاستمرار واستدامة النظر في كتاب الله، حتى ولو جد المرء في نفسه مشقة، والذي يحدث أن الواحد منا يأخذ بالمصحف وفي قلبه ألف شغل وشغل، وفي يده هاتفه، وكلما نظر في كتاب الله نظرة؛ ألحقها بعدة نظرات في هاتفه، قل لي -بربك- أيجتمع مثل هذا التشعث في القلب، وتفرق الاهتمام، والنوازع الكثيرة.. أيجتمع مع التلذذ بكتاب الله، والغوص في معانيه؟! ألا إن القلب لا يمكن أن يكون هارباً حاضراً في الوقت نفسه! 

لابد أولاً من المجاهدة -ونحن نعلم بدلالة كتاب الله لنا- أن من جاهد نفسه وبذل لن يحرمه الله الثمار، فهو سبحانه يستحيي إذا رفع الرجل يديه إليه أن يردهما صفراً، وهو يقول في كتابه: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)، ولن تعدم من رب لا يزال يصف نفسه بالرحمة خيراً، بدايات الأمور وحدها هي التي قد تصعب، ثم تلين شيئاً فشيئاً، ودوماً ما يلفت انتباهي في كتاب الله آيات نحو: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم..) (أم حسبتم أن تتركوا..) دوماً ما تلفت انتباهي هي وقريناتها من الآيات التي تدل على أن دون منطقة الفوز مفازة من الابتلاء يمحص فيها الصادقون، وقد رأيت هذا المعنى كثيف الحضور في القرآن . 

رفقتنا مع القرآن حياة، ما لم تُتعاهد.. يسرع إليها الذبول..!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply