ماذا سيخسر العالم بعد رحيلك؟!


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

هذه المقالَة هي أشبه بالخاطِرة العابرة، وهي سؤال يراوِد الكثيرَ من النَّاس الباحثين عن معرفة قِيمَتهم الحقيقيَّة في الحياة الدنيا، وربَّما هي دعوة للنَّفس والذَّات للمراجعة والتصحيح والإقبال على العمل الجادِّ المنتج قبل فوات الأوان.

قرأتُ مقالةً للأديب الأريب مصطفى صادق الرافعي بعنوان: "بعد الموت... ماذا أريد أن يقال عنِّي؟"، وأنقل هنا بعضَ عباراتها؛ لجمالها ورقَّتها وسلاستها؛ حيث يقول مؤكِّدًا أنَّ الناس تقول بعد الموت ما يعشش في قلوبها؛ لأنَّه قد ذهب الطَّمع والحسد بهذا الحدَث الكبير، فيقول: "وبعد الموت يقول النَّاسُ أقوالَ ضمائرهم، لا أقوال ألسِنتِهم؛ إذ تَنقطع مادَّة العداوة بذهاب من كان عدوًّا، وتخلص معاني الصَّداقة بفقد الصَّديق، ويرتفع الحسَد بموت المحسود، وتبطل المجاملَة باختفاء مَن يجاملونه، وتبقى الأعمال تنبه إلى قيمة عاملها".

ثمَّ يتذكَّر ما ألبسه النَّاس من الأوصاف والألقاب، فيرجو بعد ذلك كله أن تَذهب كلُّ هذه الأوسمة، وتبقى كلمات للترحُّم عليه والدعاء له، فيقول: "وماذا يقولون اليوم عن هذا الضعيف؟ وماذا تَكتب الصُّحف؟! هذه كلمات من أقوالهم: حجَّة العرب، مؤيد الدِّين، حارس اللغة العربية، صدر البيان العربي، الأديب الإمام، معجزة الأدب! أما أنا، فماذا ترى روحي وهي في الغمام؟! سترى روحي أنَّ هؤلاء الناس جميعًا كالأشجار المنبعِثة من التراب عالية فوقه، وثابتة فيه، وستبحث منهم لا عن الجذوع والأغصان والأوراق، والظَّاهر والباطن، بل عن شيء واحد هو هذه الثمرةالسماويَّة المسماة القلب، وكل كلمةِ دعاء، وكلمةِ ترحُّم، وكلمة خير، ذلك هو ما تذوقه الروحُ من حلاوة هذه الثمرة".

ولم يكن الرافعي بِدعًا من الناس؛ فكثير ممَّن سبَق ولحق يتلو هذا السؤال؛ ليعرف حقًّا مكانتَه في هذا العالم، ويَخترع أساليب متنوعة من الإجابة ليرى مقعدَه في الدنيا، كان بعضهم يدعو إلى كتابة تَرجمة ذاتيَّة وسيرة شخصيَّة على غرار كتب التراجم، ليكتب فيها إنجازاته التي يَعرفها ومشاريعه التي ابتدأها، لا أحلامه ولا أمانيه وطموحاته، فليس هناك تَرجمة للخيالات؛ وإنما للمنجزات.

وقد لا تكون ذَا أهمِّية وشأن لمن هو في الصِّين أو أمريكا اللاتينية أو القطب المتجمد الشمالي، ولكنك في دائرة أهلك وأقاربك وأصدقائك وزملائك قد تكون الدنيا لأحدهم أو كلهم، وقد يُنعم اللهُ عليك فيكون أثرك على مستوًى أو دائرةٍ أكبر في بيئتك المحيطة علميًّا أو عمليًّا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها، إنَّ كلمة (العالَم) في عنوان المقال تشمل أي عالم تعيش فيه، ولا يلزم منه الكون أو الكرة الأرضيَّة بكبرها.

ومن العوالم التي لا تَخطر ببالنا عالم النباتات والجمادات، فهل مرَّ عليكم أنَّه جاء في الأثر أنَّ العبد الصالح إذا مات بكَت عليه الأرض، بكى عليه موضِعُ سجوده، وبكى عليه موضع قَدمه الذي كان يَمشي به على الأرض، وهذا القرآن الكريم عندما حكى عن هلاك قوم فرعون قال: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾[الدخان: 29]، فلا يذهبنَّ خيالُك إلى عوالِم صغيرة محصورة تتحكَّم فيها المشاعر والأفكار، وانطلِق في عالَمٍ فسيح مليء بالجمال والجلال.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply