جهود الغرب في تحجيم.. البذل التّطوّعيّ الإسلاميّ.. لماذا؟


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

1-              في تحليل ألبرت آينشتاين لأزمة الرّجل المعاصر اللادينيّ قال: "إنّ محور الأزمة  يتعلّق بالصّلة بين الفرد والجماعة. إنّ موقف الفرد من الجماعة يحمله على تضخيم دوافعه الفرديّة، في حين أنّ دوافعه الاجتماعيّة - وهي بالطّبع أضعف -  تتدهور شيئًا فشيئًا ... إنّ النّاس يحّسون وهم سجناء أنانيّتهم من حيث لا يعلمون -  أنّهم يعيشون في قلق وعزلة محرومين من الاستمتاع بالحياة الاجتماعيّة... والواقع أنّ الإنسان لا يستطيع أن يجد لحياته -  على الرّغم من قصرها -  معنًى إلاّ إذا أعطى من نفسه للمجتمع"(1).

2-              عندما أسّس فكتور فرانكل مدرسة فينا الثّالثة للعلاج النّفسيّ، بعد مدرستي فرويد وأدلر، قامت هذه المدرسة على أساس نظريّة فرانكل في الدّافع الأساسي للسّلوك البشريّ، هذا الدّافع عند فرانكل يختلف عن الدّافع عند فرويد (الرّغبة في اللّذة) أو عند أدلر (الرّغبة في القوّة)؛ فهو عند فرانكل ( الرّغبة في أن يكون للحياة معنى To find a meaning of life ) فهو لا يرى (اللّذة) الهدف الدّافع للسّلوك بل نتيجة تحقيقه، كما لا يرى (القوّة) الغاية من السّلوك بل الوسيلة إليه، ويرى أنّ المجتمع يتحوّل إلى الحالة المرضيّة حينما تكون للّذة والقوّة الغلبة، فيصل المجتمع إلى حالة (الفراغ الوجوديّ Existential Vacuum )، ويرى أنّ للإنسان أبعادًا ثلاثة: الجسم والعقل والوجدان (مبعث النزوع الخلقيّSpirit )، وأنّ البعد الأخير هو الذي يجعل الإنسان قادرًا على امتلاك معنى الحياة، ومن ثم يمكنه من تجاوز الرّغبات الغريزيّة إلى مرحلة (التّسامي النّفسيّSelf-transcendence )، وأنّ وجود الشّخص معنى للحياة يتطلّب لا محالة تجاوز الانحباس في ذاته إلى الانعتاق خارجها، وبقدر ما يبذل من نفسه ويعطي منها لغيره أو لقضيّة ما بقدر ما يحقّق ذاته.

وكما يقول أحد علماء النفس: "إنّ الفرد يمكن أن يحقّق Actualize العوامل الخلاّقة في شخصيّته فقط من خلال العالم الخارجيّ، أي من خلال أن يبذل شيئًا ما من نفسه للنّاس".

إنّ أهميّة نظريّة فرانكل تظهر في قوّة المنطق الذي تستند إليه، وفي سهولة الاستدلال عليها من واقع الحياة، وفي استعصائها على النّقد الموجّه لنظريّات التّحليل النّفسيّ الأخرى.

3-              ما فتئ الخبراء منذ العقود الماضية يبدون عدم اقتناعهم بكفاية "دخل الفرد" معيارًا للتقدّم الحضاريّ، ولذلك راحوا يبحثون عن معايير أكثر دقّة وصدقًا؛ فاتّجهوا   إلى المعيار "الإنسانيّ" الذي يعني أنّه كلّما كانت البلد أنصع سجلاًّ في حماية حقوق الإنسان، وأكثر اهتمامًا بالمصلحة العامّة "والبذل التّطوّعيّ" وجب اعتبارها أكثر تقدّمًا في السلّم الحضاريّ، ولذا اعتبروا السويد البلد الأكثر تقدّمًا و رُقِيًّا في أوروبا.

ومصداق هذا المعيار، لو أخذنا الولايات المتّحدة الأمريكيّة أنموذجًا لوجدنا الإحصاءات تشير إلى أنّ نصيب كلّ (200) فرد من السّكان مؤسّسة واحدة غير ربحيّة(2)، وأنّه وفق التّقديرات الأمريكيّة الرّسميّة(3) لعام 2010 فإنّ من بين كلّ أربعة من السّكان في الولايات المتّحدة يبذل واحد منهم فترة من عمره في البذل التّطوعيّ، وأنّ مجموع ساعات العمل التّطوعيّ للمواطنين الأمريكيّين تزيد على (8) بلايين ساعة عمل، وتظهر بعض الإحصاءات الأخرى(4) أنّ دخل منظّمات النّفع العام في أمريكا لعام 2010 بلغ (1.5) تريليون دولار؛ أي ما يعادل 10% من الدّخل القوميّ لأمريكا، وأنّ المنظمّات الدّينيّة تحصل على ما يزيد على 35% من مساهمة المواطنين لمنظمّات النّفع العام(5)، وجزء كبير من هذه المبالغ تُصرف على الدّعوة في الخارج (التّنصير).

مغزى ما تقدّم أنّ "البذل التّطوّعيّ" بوصفه حاجة أساسيّة للإنسان ليس فقط فكرة فلسفيّة بل هو حقيقة علميّة Scientific تتجلّى في السّلوك الإنسانيّ في كلّ زمان ومكان، هذا يعني أنّ "البذل التّطوعيّ" ليس فقط من حقوق الإنسان بل من أولويّات هذه الحقوق، وذلك يعني أنّ أيّ تحديد لحريّة الإنسان في ممارسة هذا الحقّ، وأيّ حدٍّ من إمكانيّاته في تحقيق ذلك لا يشكّل مجرّد انتهاك لحريّة الإنسان الشّخصيّة، بل انتهاكًا لحقّ أساسيّ من حقوقه.

4-              وفيما يتعلّق بالإنسان المسلم، فليس الأمر قاصرًا على ذلك، بل نعرف أنّه عندما يريد العالم المسلم أن يعبّر في كلمات موجزة عن "الإسلام" يقول مثل ما يقول الإمام ابن تيمية: "الدّين كلّه يدور على الإخلاص للحقّ ورحمة الخلْق"، أو كما يقول الإمام الرازي: "مجامع الطّاعات: تعظيم أمر الله، والشّفقة على خلق الله"، أو كما يقول الإمام الهروي عن البدايات في علم التّصوف: "إقامة أمر الله وتعظيم نهيه، والشّفقة على العالم".

وفي القرآن الكريم تواجهنا مثل هذه الصّورة الرّائعة: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(6).

ويقول سيد قطب في ظلال القرآن عند تفسيره الجملة الأخيرة من الآية الكريمة: "فهذا الشّح شحّ النّفس هو المعوّق عن كلّ خير؛ لأنّ الخير بذل في صورة من الصّور: بذل في المال وبذل في العاطفة وبذل في الجهد وبذل في الحياة عند الاقتضاء، وما يمكن أن يصنع الخيرَ شحيحٌ يهمّ دائمًا أن يأخذ ولا يهمّ مرة أن يعطي، ومن يوق شحّ نفسه فقد وقى هذا المعوّق عن الخير فانطلق إليه معطيًا باذلاً كريمًا".

ما تقدّم في الفقرة السّابقة، وفي هذه الفقرة، يوضّح مدى تجذّر "البذل التّطوعيّ" في شخصيّة الإنسان المسلم.

5-              ولعلّ من أهمّ آثار "أن يكون البذل التّطوعيّ مكوّنًا مهمًّا من مكوّنات شخصيّة المسلم" أنّ الحضارة الإسلاميّة قامت على أساس "البذل التّطوعيّ"، وقد أكسبها ذلك خصائصها التي انفردت بها عن الحضارات الأخرى ومن أهمّها:

أ‌-                 أنّها حضارة شعبيّة؛ بمعنى أنّها ليست كغيرها من الحضارات من صنع الأباطرة والملوك أو القوى العسكريّة والسّياسيّة، وإنّما كانت تقوم كليّة - تقريبًا- على "البذل التّطوعيّ" من جمهور المسلمين.

ب‌-            أنّها حضارة إنسانيّة؛ لأنّ الدّافع لمنجزاتها دائمًا قصد البرّ والتّقوى سواء في مواجهة الإنسان أو الحيوان أو البيئة.

ت‌-            إنّها نتيجة للأمرين كانت دائمًا تستعصي على الظّروف المتغيّرة من أن تكون عاملاً لانهيارها، فالتّقلّبات السّياسيّة، والحروب واكتساح الغزاة للعالم الإسلاميّ من الصّليبيّين والتّتار، كلّ هذه العوامل لم يترتّب عليها انهيار الحضارة، بل ظلّت باقية مستمرّة العطاء.

6-              عندما أغار المستعمرون على العالم الإسلاميّ، كانوا يعرفون أنّ قوّته الحقيقيّة تكمن في قوّته المعنويّة (الإسلام)، فتوجّهوا إلى إضعافها بوسائل مختلفة، ولمّا كان معروفًا دور النّظام الوقفيّ ونظام الإرصاد في وجود القوّة المعنويّة، وكانوا يعرفون أنّ هذا النّظام اكتسب قوّته من تشدّد الفقهاء، في الحكم بعدم قابليّة الأصول الوقفيّة للتّصرّف، وبأنّ شرط الواقف الصّحيح مثل حكم الشّارع، وضمان ذلك بعدم إعطاء فرصة للإدارة التّنفيذيّة بالتّدخّل في هذا النّظام بحصر الولاية على الأوقاف في جهاز القضاء.

فكان الخطّ الأساسيّ للاستعمار هو تمكين الإدارة التّنفيذيّة من التّدخّل في النّظام الوقفيّ بحجّة الحاجة للتّنظيم ومواجهة الحاجات المستجدّة، وخلّفت الحكومات العلمانيّة الاستعمار في هذا الاتّجاه، حتى أدّت بمثل مصر إلى تأميم الأوقاف بإنشاء مؤسّسة عامّة يشمل سلطانها كلّ الأوقاف في مصر (عدا أوقاف الأقباط وعدا الأوقاف التي يوقفها صاحبها بشرط النّظارة لنفسه وذلك مدّة حياته فقط).

ويعطي القانون المؤسّسة العامّة بعد ذلك السّلطة التّقديريّة فيما يتعلّق بالتّصرف في الوقف، وفي تعديل شروط الواقف.

كما اتّخذ الاستعمار في سعيه لإضعاف القوّة المعنويّة للعالم الإسلاميّ نشر فوضى فكريّة للتّشويش على التّصوّرات والقيم الإسلاميّة وتشجيع الدّعوة الدّينيّة المضادّة (التّنصير)، فكان من الملاحظ أنّ  الفرنسيّين الذين يعارضون اليسوعيّين في فرنسا يشجّعون نشاطهم في بلدان العالم الإسلاميّ الواقعة تحت سلطانهم، وكان من الملاحظ أنّ سفارات البلدان الغربيّة المتنافسة والمتضادّة المصالح تجتمع على تشجيع وسائل الغزو الفكريّ بالصّورتين المشار إليهما آنفًا.

7-              في عقيدة المسلم، أنّ أيّ جهد يبذل للنّفع العامّ مع الإخلاص هو من سبيل الله، وإنّ الصّدّ عن سبيل الله بأيّ وجه يستحقّ ما وصفه الله به في القرآن، وتوعّد عليه، ففي سورتي الفجر والماعون نعى على من لا يحضّ على طعام المسكين فكيف بمن يعوق إطعامه، لقد أوضح القرآن أنّ منع الإنسان من العبادة الخاصّة النّفع به من أشنع الظّلم، فكيف بمنع العبادة التي يتعدّى نفعها إلى الغير.

وعندما يغفل أهل بلد عن هذا الجانب فلا يُقْدر قدره، فقد يغفلون أيضًا عن آثار هذا الوضع المدمّرة على أمن المجتمع واستقراره وسلامته، ليس الأمر قاصرًا على تعويق مواجهة الحاجات الأساسيّة للبشر من طعام وغذاء وإيواء وتعليم وتهيئة للعيش الكريم، بل حرمان النّاس- ولاسيما شبابهم- الذين تملأ قلوبهم ومخيّلاتهم الأشواق إلى المثل العليا والإرضاء النفسيّ بالبذل للغير، حرمانهم من المجالات النّافعة السّليمة، فيدفعهم الإحساس بالفراغ (Existential Vacuum )، والحرمان من البذل للغير، والحاجة النّفسيّة الملحّة لملْئه، إلى مجالات قد لا تكون نافعة ولا سليمة.

مغزى ما تقدّم، أنّ البذل التّطوعيّ في سبيل النّفع العامّ في جانب الإنسان المسلم ليس فقط وسيلة للإرضاء النّفسيّ، ومن ثم تلبية لحاجة طبيعيّة للإنسان السّويّ، بل هو عبادة وشوق إلى رضا الله وتلبية لنداء ملحّ من الضّمير والوجدان.

 

هذا يعني أنّ أيّ تحديد لفرصة الإنسان المسلم في ممارسة البذل التّطوعيّ للنّفع العامّ لن يكون فقط مجرّد انتهاك للحريّة الشّخصيّة والمدنيّة، بل انتهاك لحقّ الإنسان في حريّة العبادة، وحريّة الضّمير.

8-              المقصود من ايراد ما سبق، هو التّقييم الصّحيح لجهود الغرب الجادّة في تحجيم البذل التّطوعيّ في العالم الإسلاميّ، ومن أبرز مظاهر ذلك جهوده في تحجيم النّشاط الخيريّ لبلدان الخليج في الخارج، ونشاط الغرب الدّعائيّ المحموم في هذا المجال:

أ‌-                 فور غياب "الشّيوعيّة" عدوّ الرأسماليّة "الأحمر"، رشّح الغرب "الإسلام" عدوًّا بديلاً وسمّاه "العدوّ الأخضر" (كان أوّل تصريح معلن بذلك التّرشيح قد صدر عن الأمين العام لحلف الأطلسيّ) ومنذ ذلك الوقت بدأت التّهيئة لحرب باردة بديلة "الرّأسماليّة الغربية" في مواجهة "الإسلام"، وبرز من وقت مبكر من مظاهر هذه الحرب قرن الإسلام بـ "الأصوليّة"  و"العنف"؛ ففي النّصف الأول من العقد الأخير للقرن المنصرم كانت أوروبا كلّها تشاهد فيلم "الإرهاب في سبيل الله" وكانت أمريكا تشاهد الفيلم الوثائقيّ "الجهاد في أمريكا".

ومن الحقائق أنّ التّخطيط الغربيّ الذي كانت إجراءاته تنشط على قدم وساق لتنصير مجتمعات إسلاميّة معيّنة، قد واجه معوّقًا جديًّا لانتشارالتّنصير من قبل بعض المؤسّسات الخيريّة الخليجيّة، فكان من الطبيعيّ أن تتصدّى القوى الامبرياليّة لإضعاف هذا المعوّق أو إزالته.

واعترف تقرير "لجنة التّحقيق الأمريكيّة في حدث  11 سبتمبر" صراحةً بأنّ المؤسّسات الخيريّة السّعوديّة وضعت تحت المجهر (أو المجاهر) الاستخباريّة الغربيّة منذ عام 1995.

وأنّه منذ ذلك الوقت وجدت الضّغوط الدّبلوماسيّة على المملكة العربيّة السّعوديّة، كمثال، لتحجيم مؤسّساتها الخيريّة العاملة خارج المملكة، ويعترف التّقرير صراحة بأنّ هذه الضّغوط لم تثمر بسبب أنّه في كلّ مرّة تطلب المملكة معلومات تبرّر الاستجابة لهذه الضّغوط يفشل جانب الضّغط في تقديم المعلومات المطلوبة، وذلك حتى تاريخ التّفجيرات الإرهابيّة في الرياض في مايو 2003، ويسمّي التّقرير صراحة هذا الحدث بأنّه "تغيير الزّاوية"، ويعني تغير اتّجاه المملكة العربيّة السعوديّة تجاه الضّغوط المشار إليها، أي أنّ السّبب هو الحدث المشار إليه، وليس معلومات مكتشفة تبرّر الإجراءات اللاحقة، بل يظهر من التّقرير أنّ معلومات كتلك لم تقدّم قط(7).

واللافت للنّظر أنّ التّصريحات الصّادرة عن السّياسيّين الغربيّين لا تخفي اغتباطهم - بهذا الحدث المشؤوم الذي وقع في مايو 2003-، وهواغتباط يبعث على الرّيبة والتّساؤل: هل هذا الحدث المشؤوم مجرّد ضربة حظّ للمستفيد الوحيد منه(8) – أي الغرب - في حربه الايدولوجيّة ضدّ الإسلام؟

ب‌-            بعد الانتصار السّهل السّريع على الجيش العراقيّ في عام 2003 وترشيح المملكة العربيّة السعوديّة لتكون حلقة في سلسلة التّغيير المخطّط للشّرق الأوسط، بدأت الإدارة الأمريكيّة نشاطًا محمومًا لإقناع الرّأي العام المحلّيّ والدّوليّ بأنّ المملكة العربيّة السعوديّة بـ "أصوليّتها" ومؤسّساتها الخيريّة خطر على "السّلام العالميّ"؛ إذ تمثّل بيئة صالحة لإنتاج الإرهاب وأعمال العنف.

ولم يقتصر الأمر على تسخير الإعلام لهذا الغرض، بل اهتمت الإدارة الأمريكيّة بإشغال لجان الكونجرس بالاستماع لشهود من داخل الإدارة الأمريكيّة ومن خارجها لإقناع الكونجرس برياح الخطر على "السّلام العالميّ" التي تهبّ من المملكة العربيّة السعوديّة.

ويبرز ملف الشّهادات الخاصّ بالمؤسّسات الخيريّة السّعوديّة تلك الشّهادات التي قدّمت أمام اللّجنة البنكيّة للكونجرس في 25سبتمبر 2003 نموذجًا لهذا النّشاط المحموم وعند قراءة كامل الملفّ واستيعاب الشّهادات المقدّمة يلاحظ القارئ بدهشة أنّ الشّهادات كانت قاصرة على الشّحن العاطفيّ والتّعبير الخطابيّ، ولم تقدّم معلومات محدّدة أو أدلّة على الاتّهامات الموجّهة.

كان التّركيز في الشّهادات أمام اللّجنة المذكورة على دور المؤسّسات الخيريّة السّعوديّة في دعم الإرهاب، ولم تقدّم أيّ معلومة محدّدة عن صلة هذه المؤسّسات بالإرهاب عدا قضيّتين:

الأولى: أنّ أحد رجال المقاومة الفلسطينيّة حضر في مؤتمر عقدته ندوة الشّباب الإسلاميّ العالميّ في المنطقة الشّرقيّة بالمملكة.

والثّانية: أنّ المملكة العربيّة السعوديّة وافقت على تصنيف مكتبي الصّومال والبوسنة والهرسك التّابعين لمؤسّسة الحرمين الخيريّة جهتين داعمتين للإرهاب.

ولحق بذلك طلب أمريكا في مؤتمر صحفيّ، شهده العالم بالصّوت والصّورة، (وشارك فيه مع الأسف أحد أبناء الوطن) من الجهة المختصّة في منظمّة الأمم المتّحدة تصنيف مكاتب خيريّة أخرى، داعمة للإرهاب مع أنّ الأصل أنّ هيئة الأمم المتّحدة اختصاصها الفصل بين الدّول في نزاعاتها وليس اختصاصها الفصل بين الدّول والأفراد أو الهيئات غير الدّوليّة.

فإنّ الهيئة الدّوليّة عندما تستجيب لاتّهام دولة ما فردًا أو هيئة خاصّة بارتكاب جريمة، ثم تحكم الهيئة على المتّهم بالإدانة وتوقع عليه العقاب، ليس فقط دون أن يكون ذلك نتيجة محاكمة قضائيّة عادلة، وإنّما حتى دون أن يسمع دفاع المتّهم أو أن تتمّ مواجهته بالاتّهام أو أدلّته. إنّها بذلك تسجّل خرقًا مشؤومًا لأبسط مبادئ العدالة كما تفهم في كلّ زمان ومكان.

يبقى الأمر المزعج لأيّ شخص مهتمّ بحقوق الإنسان أنّ الإدارة الأمريكيّة وهي تكشف دورها في هذا الموقف المشين، مغتبطة به، لم تبالِ بالتّناقض الصّارخ بين هذا الموقف وبين ما يرتفع به ضجيجها عن: الحريّة، والعدل، ودولة القانون، وحقوق الإنسان(9)، كما لم تبالِ بخزي الهزيمة الأخلاقيّة التي تجلّلها وهي تدمّر ظلمًا وعدوانًا بناء إنسانيًّا خيريًّا عالميًّا بنته المؤسّسات الخيريّة الإسلاميّة، ولقد وصف تقرير لجنة التحقيق في حادث 11 سبتمبر، أحد المؤسّسات الخيريّة السعوديّة بأنّها ".... في ذروة نشاطها كانت توجد في خمسين بلدًا على الأقل تتكفّل بثلاثة آلاف معلّم يتنقلون إلى مواقع مختلفة لتعليم النّاس الخير ونهيهم عن الشّرّ، وتقدّم الغذاء والمساعدات للمسلمين المحتاجين في جميع أنحاء العالم، وتقوم بتوزيع الكتب، وتنفق الأموال لمشاريع تأمين المياه الصّالحة للشّرب، وتعمل على إنشاء وتجهيز العيادات الطّبيّة وتدير أكثر من عشرين مركزًا لرعاية الأيتام(10).

حينما أشار التّقرير إلى مراكز رعاية الأيتام التي كانت تضمّ أكثر من ثلاثين ألف يتيم لم يشر إلى أنّ عددًا كبيرًا من هؤلاء الأطفال بعد أن شرّدوا من مأواهم لم يكن لهم من ملجأ إلاّ إلى تنظيمات أمراء الحروب لتجنيد الأطفال في حروب إفريقية.

أليس من حقّنا عند تقييم الحرب الدّعائيّة الغربيّة ضدّ البذل التّطوعيّ الإسلاميّ أن نصفه بأنّه: ليس مجرّد انتهاك لحريّة شخصيّة للإنسان، بل انتهاك لحقٍّ من حقوقه الأساسيّة ولحريّته في العبادة؟!

9-              مع الأسف الشّديد فإنّ بعض الكتابات في الصّحف المحليّة (وبعض التّوجّهات داخل الإعلام المحلّي)  في بلدان الخليج ساهمت -غير مشكورة- في هذا السّلوك الظّالم، وذلك بالإلحاح على تشويه المؤسّسات الخيريّة، وإثارة الغبار حول نشاطها، والتّحريض عليها إمّا من قبل قلّة من الإعلاميّين من المتصحفين الأغرار الذي جمعوا بين الجهل والطّيش وانعدام الإحساس بالمسؤوليّة، أو من قبل قلّة من الأكاديميّين والمتأكدمين، ولكن هذه القلّة مع الأسف مرتفعة الضّجيج  مثيرة للاهتمام، وتنطلق من رؤية عامّة متحيّزة ضدّ التّديّن والمتديّنين، وهي إذ تكثر الحديث عن الدّيمقراطيّة، والمشاركة في صنع القرار السّياسيّ، وحريّة الرّأي والتّعبير، وحقوق الإنسان، تتنكّر للحريّة الشّخصيّة إذا بدا أنّ لها علاقة بالتّديّن والمتديّنين، هي مع الأسف تنطلق من نزعة عدميّة؛ إذ تهدم وليس لديها بديل تقدّمه، والأساس في هذا كلّه ضعف النّزوع الأخلاقيّ - في الأبعاد الثلاثيّة للإنسان عند فرانكل -  لديها، وهشاشة الإيمان بمبدأ ثابت، وقد نشأ ذلك عن عجز هؤلاء عن الانعتاق من فقر القلب ومرضه، ومن الأنانيّة والنّرجسيّة والتّعالي وبطر الحقّ وغمْط النّاس ومن العجز عن الانفتاح على العالم خارج الذّات بكرم وسماحة.

وتبرز هذه الصّورة ظاهرة على السّطح عندما تحلّ ساعة الاختبار، فمثلاً عند غزو صدام الكويت كان همّ أمثال هؤلاء من كتّاب الصّحافة في الكويت اللّجوء -  فرارًا- إلى فنادق القاهرة وغيرها، وممارسة السّلوكيّات التي لا تزال ذكراها عالقة في الأذهان، وفي المقابل وقف الأشخاص الباذلون المتطوّعون، والذين كانوا يعيّرون بالأمميّة وضعف الوطنيّة، وقفوا مع الشّعب يقاومون سلبيّات الاحتلال على الحياة العامّة للنّاس، ويخفّفون معاناتهم من آثاره، وحينما انهارت الخدمات المدنيّة الرّسميّة قدّموا البديل من جهودهم التّطوعيّة، فقاموا مثلاً بِجمْع القمامة، وشغلوا المخابز، وحاولوا أن تبقى ظروف الحياة الطّبيعيّة للجمهور على أقصى مستوى ممكن.

والعجب أنّه بعد تحرير الكويت ورجوع أولئك إلى الوطن لم يبدُ عليهم الشّعور بالخزي والخجل بعد أن سقطت عنهم ثياب الإمبراطور، وإنّما عادوا إلى شِنْشنتهم السّابقة من تحيّز ضّد الخير والجهود المبذولة فيه، فصدقت عليهم الآيات الكريمة: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا)(11)، (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)(12).

وفي وطننا الحبيب، كمثال، وجد في الإعلام الدّاخليّ مع الأسف أبلغ مساند للضّغط الخارجي في جهده اللا أخلاقي لتحجيم (البذل التّطوّعيّ) في المملكة، وأنتج أسوأ الآثار؛ إذ تقاعست المؤسّسات الخيريّة في مملكة الإنسانيّة عن أيّ نشاط تطوّعيّ دعويّ أو إغاثيّ خارج البلاد، واتّخذت إحدى هذه المؤسّسات شعارًا (الأقربون أولى بالمعروف) وهذه العبارة صحيحة حين تكون الحاجات متساوية بين الأقربين والأقلّ قربًا، أمّا حين تكون حاجات الأقلّ قربًا حاجة أساسيّة (حاجة حياة أو موت) وحاجات الأقربين ثانويّة فليس الأقربون في هذه الحالة أولى بالمعروف.

 

إنّ الحرب الإعلاميّة من الغرب ضدّ البذل التّطوعيّ الإسلاميّ، ومساندة بعض الكتابات في الصّحف المحليّة وبعض التّوجّهات داخل الإعلام المحليّ، المشار إليها أعلاه، كان لها الأثر الكبير في توجيه الرّأي العامّ في المجتمع، ولمّا كان الموظّفون الرّسميّون جزءًا من نسيج المجتمع فقد انعكس هذا التّوجّه على الإجراءات الرّسميّة المعوقة للبذل التّطوّعيّ في بعض بلدان الخليج، والتي سبق تصويرها وتصوير آثارها السّلبيّة على الصّالح العامّ.

وبعد، فهل بقي لدى القارئ لبْس في تفسير قبول الغرب للتّناقض الصّارخ بين انتهاكه حريّة المسلم سلوكًا وعبادة وانتهاك حقّه بصفته إنسانًا وبين ضوضائه المرتفعة الضّجيج في التّمدّح باحترام حريّة الإنسان وحقوقه والتّعالي على الآخرين الذين يدّعي انتهاكهم لحريّة الإنسان وحقوقه؟!

وبصفاقة غريبة لا يبالي الغرب بافتضاح "كذبته الكبرى" في تبريره ذلك التّناقض بمنْع احتمال تسرّب أموال للإرهاب، وهو أول من يعرف أنّ بذل المسلم الإنسانيّ من خلال القنوات القانونيّة المكشوفة وسهلة المراقبة والتّتبّع، أي البنوك، يجعل هذا الاحتمال غير وارد، وقد جاء في شهادة أحد الشهود من رجال الإدارة الأمريكيّة أمام اللّجنة البنكيّة للكونجرس في تقريره في 25 سبتمبر 2003 ما يعني أنّ: "المال إكسير الحياة للإرهابي، لكنّه في الوقت نفسه السّمّ الزّعاف له؛ إذ يمكن اكتشافه عن طريق تتبّع مسيرة المال".

في 4 يناير 2011 نشرت الـ (CNN ) في موقعها العربيّ عن برقيّة صادرة من وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة تضمّنت: "قلقها من أنّ الكويت تتردّد في اتّخاذ تدابير بحقّ من يموّلون الحركات الارهابيّة".

بلا شكّ كانت الوزيرة تقصد بهذا الاتّهام، مثل اتّهام أمريكا لجمعيّة إحياء التّراث، الجمعيّة الخيريّة الكويتيّة، التي كانت أمريكا قبل ذلك قد صنّفتها جهة داعمة للارهاب؛ فقد قامت أمريكا بحملة شرسة لحمل الكويت على تحجيم النّشاط الإنسانيّ للجمعيّة الخيريّة المذكورة، ولكنّ الكويت وقد تأكّدت من كذب الاتّهام وبعد أن طلبت من أمريكا تقديم ما يثبت الاتّهام وفَشَل أمريكا في تقديم أيّ دليل، وبعد أن اقتنعت الكويت بأنّ جمعيّتها الخيريّة تقوم ببذلها التّطوعيّ الإنسانيّ من خلال القنوات القانونيّة المكشوفة - كما تفعل أيّ جمعيّة خيريّة في العالم- وقفت الكويت في مواجهة همجيّة الظّلم والعدوان بكلّ شهامة ورجولة، وانتصرت في هذه المعركة لأنّ معها الحقّ، والعدل، والمنطق، والقيم الإنسانيّة الحضاريّة.

ما الذي يدفع الغرب إلى السّلوك الهمجيّ المناقض للأخلاق والقيم الإنسانيّة؟ ما الذي يحمله على الضّغوط على بلدان الخليج لتمنع أبناءها من ممارسة حريّة شخصيّة وحقّ إنسانيّ في العمل الصّالح الخالص النّافع، تلك الحريّة التي يمارس مثلها أيّ شخص في العالم، ولا تُحجب عن أيّ مواطن في دولة ديموقراطيّة أو ديكتاتوريّة؟ لا شيء إلاّ مواجهة "غزو" الإسلام للقلوب والعقول. والغرب بغروره واستعلائه يعمى في هذا عن الحقيقة البسيطة أنّ غزو العقول والقلوب – في عصر الاتّصالات التي أسقطت كثيرًا من الحواجز- قوّة لا تعتمد على أسلحة الدّمار الشّامل، وإنّما على ما هو أقوى "قوّة الأفكار العظيمة".

 

العبرة من كلّ ما سبق، أن يحسّ كلّ مواطن مخلص لدينه، وصادق الولاء لوطنه وحكومته بأنّه مسؤول عن عمل ما يستطيعه للتّوعية بهذه الحقائق تمهيدًا للعودة بالوطن الحبيب إلى وضعه الطّبيعيّ رائدًا في البذل في سبيل الله، وبأهله لليقين بأنّ البذل في سبيل الله هو الشّكر العمليّ لنعمه عليهم، مشفقين من زوال هذه النّعمة (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)(13)، وللأخذ بمعايير الصّلاح والإصلاح التي يطمح لتحقيقها كلّ وطنيّ يتطلّع لترتيب متقدّم لوطنه في السلّم الحضاريّ الإنسانيّ.

وبالله التوفيق

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

الهوامش

1.      Einstein, Out of My Later Years, Edition. 2005 . ص  128

2.      وفق إحصاءات عرضها وزير الشّؤون الاجتماعيّة في المملكة العربيّة السعوديّة في كلمته التي ألقاها ضمن فعاليّات النّدوة التي عقدها مركز الرحمانيّة الثقافيّ بالغاط في 19/11/1428هـ

3.      http://www.volunteeringinamerica.gov /

4.      http://nccs.urban.org/statistics/quickfacts.cf

5.      http://www.volunteeringinamerica.gov

6.      [الحشر: 9].

7.      يُرجى الرّجوع إلى الفصل السّابع من التّقرير المشار إليه . كما يُرجى الرّجوع إلى كلمة الكاتب المعنونة "الهيئات الخيريّة السعوديّة بعد أحداث 11 سبتمبر، الآثار وسبل تجاوزها".والمنشورة على الشّبكة العنكبوتيّة في موقع www.rowaq.org

8.      تزامن مع هذا الحدث المشؤوم، الحدث الارهابيّ في المغرب الذي وجّه لسفارتي بلجيكا وأسبانيا، البلدين الأوربيّين اللّذين تميّز الرّأي العام فيهما بمعارضة الحرب على العراق، فكانت أمريكا هي المستفيد الوحيد من الحدث. إنّ الأمثلة لاستعمال آخرين في عمليّات إرهابيّة هي من مجالات "الحرب القذرة" المعروفة لدى السّياسيّين في الغرب منذ عهد ميكافيللي ويعتبر العاقل بالقضايا التي افتضحت في السّنوات الأخيرة من ممارسات الغرب في "استعمال الآخرين" مثل: دور المخابرات الغربيّة في قضيّة الشّابّين اللّبنانيّين في ألمانيا عام 2006 ، وقضيّة الشّابّ الصّوماليّ محمد عثمان في بورتلاند - أوريجن بأمريكا في نوفمبر 2008، ، وقضيّة الشّابّ الباكستانيّ "فردوس" في واشنطن في سبتمبر 2011، وقد نشرت وكالات الانباء والصّحافة الغربيّة ذاتها تفاصيل هذه القضايا فيما يخصّ علاقة المخابرات الغربيّة بتهيئتها وتمويلها وتسهيل تنفيذها.

9.      قال الرّئيس الأمريكيّ - بوش الصغير- في خطابه عشيّة 11 سبتمبر عن أمريكا إنّها «منارة الحريّة الأعظم إشعاعًا والأسطع نورًا»

10.  ص  .114-115من تقرير لجنة 11 من سبتمبر

11.  [الأحزاب 13 – 14].

12.  [الأحزاب: 19].

13.  [الأنفال: 53].

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply