إنابة الغد


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

أتدري ما الإشكال؟ يقع أحدنا في الذنب، ثم يسوِّف، ويحيل على الأيام القادمة ..

غداً سوف أتوب، غداً سأرجع أطهر من ماء السماء، غداً سأكون بقلب طفل، لا لا، ليس الغد القريب، وإنما غداً، غداً الذي يعقب هذا اليوم مباشرة ! وتمضي علينا الأيام هكذا، دفاتر أعمارنا مملوءة بالإحالات إلى الغد الذي لا يأتي أبداً . أتدري؟ الإشكال أن القلوب لا تعرف التوقف، فإما أن تزداد قرباً، وإما أن تزداد بعداً، أما أن تبقى في منطقة محايدة لا تزيد ولا تنقص فهذا أشبه بالممتنع !

(إنابة الغد).. سأنيب غداً.. سأقلع عن الذنب قريباً.. هذه الإنابة بشهادة التجربة تكاد تكون غير ناجحة في أغلب الأحيان، ومشكلتها أنها تزيد القلب قسوة وبعداً عن الله . وذلك أن القلب كلما مرت عليه الأيام لا يزال يَيْبَس، ويتصحر ويصلب شيئاً فشيئاً بفعل عوامل الجفاف الإيماني، التي تعصف بالإنسان من كل الجهات. ينطق لسان التجربة بأن الإنابة إذا لم تكن مقرونة بالعزيمة التامة، والفورية في التنفيذ فإن مآلها إلى نوع من الاحتضار قبل الولادة !

 في كتاب الله نجد التحذير من التمادي في الغفلة، والبعد عن الله.. نجد النص القرآني يستحث القلوب المؤمنة، ويوقظ حس الإنابة فيها: أن اعلم أيها المؤمن أن قلبك هذا الذي بين جنبيك، إن لم تتعاهده بالسقيا الإيماينة والتطهير المستمر فإنه سرعان ما يقسو، ويبعد عن الله، نعم، القلب الذي لا يُتعاهد لا يلبث أن يذبل وتتساقط أوراقه التي كانت يوماً خضراء واعدةً بالحياة.

ثمة آية يذكر السلف في تفسيرها أن الله تعالى استبطأ فيها الجماعة المؤمنة الأولى، فقال لهم حضاً على الإقبال إليه بالوصف الندي الحبيب إلى قلوبهم، وصف الإيمان بصيغة فيها من اللطف والنداوة ما يخلب اللب: (ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) ألم يحن هذا الموعد؟ ألم يحن موعد رحلة القلوب إلى مرابع الأنس بالله والقرب منه، ألم يأن موعد إزهار قلوبكم، وخشوعها لله ؟ أما آن لكم أيها المؤمنون أن تنيبوا إلى ربكم وتسلموا له؟ أن تقشعوا عن أنفسكم حجب الغفلة آيبين إلى الله تائبين عابدين؟

ثم بعد ذلك يبين سبحانه لهم، كيف أن تأجيل مواعيد الإنابة، والرجوع إلى الله يقلب موازين الأمور، ويحرف بوصلة السير إلى الله . إن كنت لا تزال اليوم يقظ الضمير تحدث نفسك بالتوبة والإنابة إلى الله.. فهل يا ترى أنت واثق من قلبك أنه سيدوم، حياً، يحس؟ قل لي بالله عليك من أين لنا أن نثق بأن شمعة اليقظة لن تنطفئ فتيلتها يوماً ما، ثم لا تعود إلى ما كانت عليه من توهج؟ خبرني، هل عندنا من الله عهد بأن ضمائرنا ستبقى حية.. فلن يخلف الله عهده؟ أم أننا نتكئ على حائط لا نعرف حقيقة مادته، أهشة هي أم صلبة؟

حينئذ ينبهنا الله العالم بتقلبات القلوب، وأدواء النفس البشرية فيقول: (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم)

أرجوك.. لنعد معاً قراءة هذه الآية مرة أخرى، كي نعيَها جيداً، الله تعالى يقول: (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم) هنا يحدثنا سبحانه عن داء تاريخي يعرض للقلوب.

إن الآية تنبهنا إلى مغبَّة أسلوب التمادي والتفريط هذا الذي نسلكه، تحدثنا عن تجربة أمة من الأمم السابقة لنا كي لا نعيد استنساخها، عن أمة طال عليهم الأمد في البعد عن الله، فكانت النتيجة أن قست قلوبهم، لا شك أن القارئ يستحضر هنا ماذا تعني ( قسوة القلب ) وأبعادَها الدلالية. أن يكون القلب كالحجارة أو أشد قسوة، فلا يؤثر فيه بعد ذلك المواعظ والزواجر، ولا طوارق الآي، حتى إنه قد يتعامل مع النصوص الشرعية ببرود، فيجرؤ حينئذ على التبديل والتحريف، كما قال الله تعالى عن بني إسرائيل: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه) هكذا تفعل قسوة القلب؛ فهي المحرك الأساسي لمادة الشهوة والشبهة . نبئني عن داء أشد من هذا الداء !

ثم القلوب قد تقسو حتى تكون أقسى وأشد صلابة من الحجر مصداقَ قول الحق تبارك وتعالى مخاطباً بني إسرائيل: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدُّ قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) كل هذا قد يحدث للجماد، لكن مادة القلوب قابلة لأن تكون أقسى.. لأن تكون أصلب، أعاذني الله وإياك. نعم هذا الذي حصل لبني إسرائيل عندما طال عليهم الأمد !

أهذا شأن بني إسرائيل وحدهم؟ لا، فلعلك لاحظتَ معي أن هذا كالمتجذر في القلوب، ولذلك نجد أن القرآن يحيل ضلال كثير من الأمم إلى هذا السبب، أعني طول الأمد، وامتداد زمان الغفلة والبعد عن الله . تأمل تفسير ضلال المشركين كما جاء في سورة الأنبياء: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر) نعم، طال عليهم العمر فازدادت القلوب قسوة على قسوتها، وكلما بعد العهد زاد الاغترار وشق الرجوع حتى ينسى الإنسان ربَّه، فينساه ربه! ولذلك لما رجع موسى إلى قومه فوجدهم قد اتخذوا العجل من بعده، أدار أسباب ضلالهم واتخاذهم العجل، فوجد أن أحد أهم أسباب الضلالة -وهو طول العهد- لم يك متوفراً في حقهم، فقال موبخاً لهم مقرِّعاً: (أفطال عليكم العهد)؟ والواقع أنه (ما بالعهد من قِدَم) كما يقول ابن كثير يرحمه الله، لكن القوم مفتونون .

ولما أن كان التلازم بين طول الأمد ونسيان العهد كالتلازم بين السبب والنتيجة جاءت آية: (ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر) من غير ذكر لنتيجة تطاول العمر، وهي نسيان عهود الله ومواثيقه وقسوة القلوب؛ إذ إن تلك النتائج معروفة مسلمة، فللقارئ بعد ذلك أن يتخيل النتيجة الحتمية لتطاول العمر، كما يخبرنا الله عما يقوله معبودو المشركين يوم القيامة؛ يفسرون سبب التهاء القوم عن ذكر الله: (ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر)، وهذه هي أحوال الأمم باختلاف أزمنتها وأمكنتها كما يقصها لنا القرآن .

إننا لا نجد من التسويف في حديث الإنابة إلا مزيداً من قسوة القلب، ومزيداً من البعد عن الله! دعنا نتكلم بصراحة -نحن معشر المقصرين-.. في محاولات الإقلاع من أوحال الغيبة مثلاً، كم مرة يحدث الواحد منا نفسه بأن هذا الحكاية التي سيتمها –إذا وخزه النداء الإيماني- هي آخر حكاية يتكلم بها في الناس؟ ثم لا يصدُق! أتفهم أن هذا قد يكون لمشقة مراغمة شهوة النفس، لكن ثمة شيء آخر يتحدث عنه علماء النفس من المسلمين وغيرهم عندما يذكرون طرق الإقلاع من العادات اللازمة أياً كانت؛ إذ يشيرون أنه لابد من عزم صادق ونية كاملة عند محاولة الإقلاع. إن لم يتيسر تحقيق نسبة ١٠٠ ٪  فلا أقل من أن تحقق نسبة ٩٩ ٪ كي يستقيم الإقلاع عن الذنب، إذ إن وجود النسبة القليلة يجر إلى ما بعدها، ويحيي ذكرى المعصية، وكل سيئة تقول: أختي أختي !

دعك من ثقتنا المفرطة بأننا سنبقى إلى ذلك الوقت الذي نعلق آمال التوبة والإنابة عليه، دعك من هذا، وحدثني عن ثقتنا بأنه لن يزال حياً في قلوبنا هذا الواعظ الإيماني، وهاجس التوبة، ويقظة الضمير بأن علينا أن نرجع إلى الله! من أين لنا أن قلوبنا لن يجف فيها ذلك الصوت الندي، من أين لنا أن الآماد المتطاولة لن يعلو صوتها على ذلك الصوت؟

كم مرة يقول الواحد منا : غداً سأوتر، غداً سأنتقل من الوتر بركعة إلى صلاة الليل كاملة كما كان النبي يصليها؟ كم مرة يقول هذا ثم لا يفعل؟ إنها رواية محزنة لا نمل من إعادة تكرارها بفصولها وأحداثها وجميع تفاصيلها، وإلا فما بال أحدنا يحدث نفسه بأن اليوم الفلاني هو موعد بدئه في الورد القرآني، أو ورد الذكر، ثم لا يفعل؟ كم مرة يقول الواحد منا: إنه سيأتي الوقت الذي ينيب فيه إلى الله، ويواظب على الصلوات في أوقاتها، ويؤديها جماعة، وسيأتي الوقت الذي يلازم فيه الصف الأول؟ ثم لا يفعل! ويأخذ على نفسه عهداً بأن اليوم الفلاني موعد هجره المعصية الفلانية؟ كم مرة بالله عليك؟ ثم نستمر في الطريق ونحيل التوبة والإنابة إلى الغد، وفي الغد نحيل إلى غده. الغد ذلك اليوم المفقود، ذلك اليوم الذي لا نجده بين أيام الأسبوع مطلقاً، مع أننا لا نزال نؤرخ به !

أسأل الله تبارك وتعالى بكرمه ورحمته أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يبقي نداءات قلوبنا غضة طرية، وألا يكلنا إلى أنفسنا ولا أحد من خلقه طرفة عين .

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply