تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

ربى الرجل الصالح أبناءه العشرة على الأخلاق الحسنة, والعبادة السليمة, والعقيدة الصحيحة, رباهم على أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر, وعلى أن يقولوا في الله لا يخافون لومة لائم.., ثم تركهم وسافر بعد أن زوجهم, وجعل لكل واحد منهم منزله الخاص به.., مكث الرجل فترة من الزمن بعيداً عن أبنائه العشرة -الذين أصبح لكل واحد منهم ذرية- وكلما مر عام ازداد شوقه إليهم, لقلة رسائلهم الطيبة إليه, وبعد عدة أعوام أرسل إليهم يخبرهم بقدومه في يوم كذا, في ساعة كذا.. تجهز الأب وهو في شوق وحنين إلى أبنائه وأحفاده.., وكلما اقترب موعد سفره ازداد شوقه .

وصلت رسائله إلى أبنائه العشرة, فأمسكوا بها, وتصفحوا أوراقها, وقرؤوا كلماتها .

قرأ الأول رسالته؛ فنكس رأسه, وأصيب باضطراب وحيرة شديدة, وتساءل في نفسه: كيف أقابل والدي وقد غيرت مبادئه, وبدلت وحرفت تربيته؟ كيف ألقاه وقد أصبحت ممن يُعجب الناس بحديثه وقوله "وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ"؟, كيف ألقاه وقد أصبح الكذب لي عادة, والخيانة والغدر حرفة, والخصام خلقاً؟

ثم قرأ الثاني رسالته, فأصيب برجفة, وسيطر عليه الخجل, وتساءل: كيف ألقاه وقد أصبحت من "الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا", لقد اقترفتها, وروجت لها حتى أصبح لي أقران, ولم أكتف بذلك بل شوهت بها سمعة الذين آمنوا, فلست أدري بأي وجه ألقاه, وقد لوثت جوارحي بمعصية الله, ولوثت لساني بالخوض في أعراض عباد الله المؤمنين؟

ثم قرأ الثالث رسالته, فارتفع ضغط دمه, وازدادت ضربات قلبه, وجلس بعد أن كان واقفاً, وتساءل:كيف ألقاه بعد أن لوثت يدي بظلم المسلمين وسفك دمائهم, كيف ألقاه وقد تآمرت مع المجرمين على قتل أهل الصلاح والفلاح, لقد أصبحت الآن في زمرة القاتل العمد , وانطبق علي قوله –تعالى-:"وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا"، سيرى في عيني وعلى جوارحي أثر دعوات المظلومين, وسيستنشق رائحة الدم الحرام الذي سفكته بغير سلطان الشريعة, فيا ليت شعري كيف ألقاه؟

ثم قرأ الرابع, فأغشي عليه, وبعد أن أفاق ردد كلماتها, ثم تساءل: كيف ألقاه وقد ربيت من بعده أبنائي على العصبية الجهلاء, والتبعية العمياء التي حذرنا منها والدي؟ كيف ألقاه وقد ربيت أبنائي على ربط الحق بالأشخاص لا بالمبادئ ؟ كيف ألقاه وقد أصبحت أحمل جيفة الجاهلية, وجرثومة العصبية النتنة؟ كيف ألقاه وقد نسيت ما قرأه علي بالأمس البعيد من آي القرآن:"ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ", "وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ"كيف ألقاه وقد نسيت ما قرأه علي من وحي السنة, عن جبير بن مطعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية".

ثم قرأ الخامس رسالته؛ فارتعدت فرائصه, وقال: كيف ألقاه وقد ساء فهمي, وغاليت في فهم ديني, ونسيت ما كان يقرؤه علي من آي القرآن: "لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ", "لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ", ومن سنة النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".

ثم قرأها السادس, وأثناء قراءته تذكر يوم أن زرع الشقاق بين إخوته, فرق جمعهم وشتت شملهم, وتذكر يوم أن أشعلها ناراً بين جاره الإخواني وجاره السلفي, تذكر يوم أن نثر الفرقة في المسجد وأشعلها ناراً عقب الخطبة, فقال: كيف ألقاه بعد أن نسيت ما قرأه علي: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"كيف ألقاه وقد نسيت تفسيره لي من أن هارون ترك الأمر بالمعروف مع اقتراف قومه للشرك الأكبر من أجل وحدته , وقد فرقت بين قومي وعائلتي "قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي

ثم قرأها السابع؛ فردد كيف أملأ بصري من عينيه, وأقبل يديه, وقد شَكَكْتُ في ديني, وشَكّكْتُ في ثوابته, وسخرت من أصوله ومقاصده, وروجت الأكاذيب, ونشرت الشبهات في قلوب الضعاف, شككت في صدق البخاري , وكذبت على أبي هريرة –رضي الله عنه– وتحدثت في عائشة –رضي الله عنها– وأثرت بلبلة حول الحدود في الشريعة, وتحدثت بين الناس عن ظلم الإسلام للمرأة, وآمنت بأجزاء وأنكرت أخرى, وغير ذلك كثير؟ فيا ليت شعري كيف ألقاه بعد أن رباني على احترام علماء الإسلام, وعلمني فضائل الصحابة الكرام, ولقنني شمولية الإسلام, ودرس لي أن الحدود رحمة وليست انتقام؟

ثم قرأها الثامن , الذي نادى كثيراً بعد أن تولى منصباً مرموقاً بتنحية الشريعة وفصل الدين عن السياسة, فقال: يا خيبتاه, كيف ألقاه وقد لقنني: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ".

 ثم قرأها التاسع, الذي لوث بدنه بالخلوة بالمواقع الإباحية, والنظر إلى الحرام, وتعلم منه أبناؤه الفجور والفسق؛ الذي أصبحت له مجموعة تحثوا معه الخمر ليلاً, وتقترف معه الفجور نهاراً, فردد: كيف ألقاه وقد رباني على مراقبة الله تعالى, وقرأ علي كثيراً: "وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ", فيا ليت شعري كيف ألقاه وقد أصبحت مثقلاً بالمعاصي والسيئات, وفزت بالسفال والخسار؟

ثم التقى التسعة سراً, بعيداً عن أخيهم المؤمن, وتحدثوا عن زيارة أبيهم, وذكروا نقضهم لعهده, وتغييرهم وتبديلهم وتحريفهم لتربيته, وقالوا جميعاً: كيف نلقاه وقد أفسدنا في الأرض بكل طريق قدرنا عليها؟ كيف نلقاه وقد تعاهدنا على قتل أهل الصلاح من بيننا غيلة؟

بعد أيام وصل الوالد وأقبل على أبنائه يسلم وكله شوق إليهم, أخذ يقلب بصره فيهم, ويبسط يديه بالسلام عليهم, وهم في خجل؛ ملأ بصره فأغمضوا أعينهم , وأمسك بأيديهم فأرسلوها.., فسأل: مالكم يا أبنائي ما الذي غيركم ودهاكم ؟ فلم يجد منهم رداً ..

ووسط جو سيطر عليه السكون والتعجب من الوالد, والخجل والخيبة والندامة والحسرة من الأبناء, قال ابنه المؤمن الذي عاش على ما عاهد عليه والده: يا أبتاه إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ لقد نافق من بعدك هذا, وظلم في غيابك وسفك الدم الحرام  ذاك, وآمن هذا بالتبعية ودعا إلى العصبية, أما هؤلاء فمنهم من أشاع الفاحشة, ومنهم آمن بالغلو والجمود والتطرف, ومنهم من فرق جماعتنا وشتت شملنا, ومنهم من شكك في ثوابت الدين وسخر من العلماء والصحابة والكرام, ومنهم من دعا إلى تنحية الشريعة وفصلها عن الدولة, أيد العلمانية وكره الفكرة الإسلامية,  فتغيرت قسمات الوالد, وظهر بريق عينيه, وانسابت الكلمات على لسانه في لوعة وحسرة: سحقاً سحقا, بعداً بعداً..

هذا حال والد مع أولاده فكيف بحال المسلم الذي فعل كل هذه الأفعال القبيحة والأعمال السيئة أو بعضاً منها.. عندما يلتقي بسيد الأنبياء وإمام المرسلين –صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة؟ كيف يلقاه وقد غير منهجه وبدل هديه؟

عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قام فينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب فقال: "إنكم تحشرون حفاة عراة غرلاً {كما بدأنا أول خلق نعيده}. الآية, وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم –عليه السلام- ,وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال, فأقول يا رب أصحابي ,فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ,فأقول كما قال العبد الصالح: "وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم -إلى قوله- الحكيم". قال: فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم".

كيف يلقاه والعتاب الذي بينه وبين النبي –صلى الله عليه وسلم- يذيب اللحم عن العظم, ويفصل الظفر عن الجلد؟

كيف له بكلمات سحقاً سحقا بعداً بعداً وهي تنساب من فمه الشريف –صلى الله عليه وسلم- فتثقب الآذان, وتلجم الأفواه؟

العتاب في الدنيا كفارته استدراك وندم وعودة وأوبة, أما العتاب يوم القيامة فكفارته نيران تحرق, ودخان يزكم, فبادر قبل أن تغادر.

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply