في قصور آيات الله


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

    أسعد دائمًا بإهداءات صديقي متعدد المواهب الدكتور محمد بن عبدالله المشوح المحامي وصاحب دار الثلوثية للنشر، وصاحب ندوة الثلوثية الثقافية.

أسعد بإهدائه بين الفينة ولأخرى كتبا من دار الثلوثية أم من غيرها.

وكم أمضيت من الوقت والأنس والفائدة وأنا أقرأ تلك الإهداءات، وكم أهديت منها لمن أراه يحتاجها من الزملاء، متمثلا ببيت الشعر الخالد:

طبق المسؤولون عن السجون كل أنواع التعذيب التي ورثوها من السافاك. فقد وصف المؤلف التعذيب الجسدي والنفسي بأنواعه التي لا تخطر على قلب بشر. ومنه الضرب بكوابل الكهرباء والأجساد عارية، والتجويع والتدلية، والمحاصرة، والإيذاء النفسي الشديد بالشتم والسب

يجود علينا الخيّرون بمالهم              ونحن بمال الخيرين نجود

وهل أكثر جودًا من الكتاب. وآخر ما أهداني الدكتور محمد كتاب: في قصور آيات الله لمؤلفه الدكتور نزار السامرائي، دار دجلة للنشر، عمّان 2015 وموضوع الكتاب: السنوات التي قضاها المؤلف في سجون إيران خلال الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988(.

جاء هذا الكتاب في 546 شاملاً الملاحق وقليلا من الصور. كُتب الكتاب بلغة قريبة جدًا من لغة الأدباء، وموضوعه قليل الطرق، ما يمكن تسميته بأدب الأسر. وهو وإن كان سجل لسيرة سجين، إلاّ أنه سجل تاريخا قد لا يظهر بسهولة، وأعني به أسلوب الحكومة الإيرانية غير الإنساني في تعاملها مع أسرى الحرب التي حفظتها اتفاقية جنيف عام 1949م.

قضى السامرائي بعد أسره في الحرب عشرين سنة إلاّ شهرين في عددٍ من السجون الإيرانية (24 مارس 1982-22 يناير 2002). وبعد خروجه من السجن دوّن تجربته تلك، ولكنه تطرق إلى مسائل خارج دائرة السجن، وهي مسائل مهمة، إذ يدور خلاف بين المؤرخين في الوقت الحاضر بالنسبة لاختلاف الروايات.

ففي الفصل الأول تحدث عن: الحرب العراقية - الإيرانية التي يسميها العراقيون: قادسية صدام، بينما يدعوها الإيرانيون: الدفاع المقدس. وهي حرب معقدة ليس فقط في مجرياتها، بل من حيث وثائقها العديدة والمتعارضة إلى حدٍ كبير. وجاء هذا الكتاب ليقول أشياء جديدة مصدرها: عين رأت وأذن سمعت. وسأتجاوز مسائل التاريخ المعروف أو المسائل السياسية والعسكرية للحرب، وعوضًا سأذكر بعض ما ردده السجين من مشاهد تعكس خرقًا لحقوق أسرى الحرب في سجون إيران.

قضى مؤلف الكتاب فترات متعددة في سجون متعددة أيضا، حيث عرف السجن في مدرسة حولت إلى معسكر في منطقة الأحواز (الأهواز)، ثم نُقل إلى سجن فيروزة. وفي هذا السجن برزت ظاهرة خلقتها المخابرات الإيرانية، إذ قُسم الأسرى العراقيون إلى قسمين: الصامدون والقسم الآخر: الخونة ويدعونهم في إيران بالتائبين.

واستطاع الإيرانيون بالضغوط المتعددة والترهيب والترغيب واستعمال المذهب استمالة عدد من الأسرى العراقيين. ومن ثم إعادة تأهيلهم والزج بهم في مقدمة الجيش الإيراني على الجبهة العراقية. ليقاتل العراقيون بلدهم وأهل بلدهم.

ثم نُقل الأسرى إلى معتقل رقم 2 بالقرب من مدينة مشهد بمنطقة خراسان. ثم إلى سجن الصخرة الصماء، التي تبعد عن مدينة مشهد بحوالي 400 كم. التي يسميها الملف بصخرة الموت لكثرة الأسرى الذين لقوا حتفهم نتيجة التعذيب أو القتل المتعمد.

ثم نُقل الأسرى إلى سجن مازدوان. وبالقرب من هذا السجن في منطقة البسيتين ومع حلول يوم الشهيد أعدم الإيرانيون 1600 أسير رميا بالرصاص. ثم نُقل الأحياء من الأسرى إلى سجن قوجان. ثم إلى معسكر برندك استعدادًا لتبادل الأسرى الذي رعته الأمم المتحدة بين العراق وإيران.

أشار المؤلف إلى أسباب كثرة التنقلات بين السجون. وكان على رأسها تطبيق الفرز بعد استمالة بعض الأسرى العراقيين وموافقتهم للانضمام في الحرب ضد بلدهم.

طبق المسؤولون عن السجون كل أنواع التعذيب التي ورثوها من السافاك. فقد وصف المؤلف التعذيب الجسدي والنفسي بأنواعه التي لا تخطر على قلب بشر. ومنه الضرب بكوابل الكهرباء والأجساد عارية، والتجويع والتدلية، والمحاصرة، والإيذاء النفسي الشديد بالشتم والسب، وتطبيق تقنية إضعاف البصر، ووضع المساجين في غرف صغيرة واعدادهم كبيرة، تسلط القمل عليهم نتيجة منعهم من الاستحمام وتطول القائمة.

ويورد المؤلف عشرات القصص المؤلمة والمعبرة. واختار قصة لدلالتها الثقافية والسياسية بعيدًا عن الادعاءات الدينية والمذهبية التي رافقت الحرب العراقية - الإيرانية. يقول الكاتب: زارنا في أحد الأيام جندي إيراني اسمه حسيني. ووقف أمامنا وسأل الأسرى باللغة الفارسية: من منكم يُعرّف الاستعمار؟ ولم يمهلنا فأجاب: الاستعمار هو ما أضطر إلى معايشته على مدار الساعة حينما أسمع أمي وأبي يتلوان القرآن في صلاتهما باللغة العربية، أو حينما يتردد صوت المؤذن باللغة العربية ثلاث مرات في اليوم، أو حينما يعتقد الناس أن صلاتهم لن تُقبل ما لم يتوجهوا إلى مكة في الجزيرة العربية. هذا هو الاستعمار، الذي لم نتحرر منه بعد.

طبعًا هذا الجندي تحدث بما يشعر به أصحاب الثقافة الشوفونية بصرف النظر عن دينه الإسلامي. ثم كيف يتأتى له أن يقول هذا القول وهو يعمل في حكومة إسلامية؟

هذا سؤال مفصلي. وما أكثر الأسئلة المفصلية التي وردت في هذا الكتاب

إنه كتاب صاغه الالم وانجزته المعاناة التي استمرت عشرين عاما إلا شهرين، وكم سيذهل القارئ امام الادعاءات التي يميط الكاتب عنها اللثام، ويعري زيفها، ومن الصعب مراجعة مسائل الكتاب لكثرتها، وعوضًا سأترك مجاهيل الكتاب وعوالمه للقارئ ليرى الى أي مدى سيكون وجها لوجه مع الحقيقة المؤلمة.

لو استطاع العراقيون الآن قراءة هذا الكتاب، أتوقع تغيّرًا واسعًا سيحدثه الكتاب في نفسوهم وعقولهم.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply