حقيقة الابتلاء بالحياة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الحياة ابتلاء والموت كذلك ولن يقف العبد على حقيقة هذا الابتلاء إلا بعرض نفسه على القرآن والنظر في مقارنة الدنيا بالآخرة وإعطاء كل واحدة منهما حظها وحقها يقول تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} وهنا ذمٌّ لمن همّه الدنيا.

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}.

إذن الدنيا ليست زينة بالنسبة للأخرى ولكنها مزينة ولمن للكفار ومن شابههم في بعض خلالهم وفي الآية تبيان للميزان الحق وأن التفضيل في الآخرة حيث الموازين الحقيقية، فأهل الإيمان فوقهم ورزقهم بغير حساب ثم هذه الزينة يعقبها الفناء ومن صفات الزينة أنها تخلب الألباب وتموه على العقول بخلاف حقائق الآخرة كذلك الدنيا والآخرة ضرتان والعبد مطالب بأن يحبس نفسه على طاعة الله وذكره مع الصالحين وأن يراقب عينه فلا تمتد لزينة الحياة الدنيا مطيعا بذلك لأهل الغفلة الذين أمرهم فرطا، وزينة الدنيا المال والبنون، وهما فتنة كما ذكر الله ذلك في كتابه، بل وعدو أمرنا بالحذر منه، فإذا سلط المال في هلكته احتسابا لثوابه وربى الولد على التوحيد والسنة كانا خير معين على الوصول الآمن إلى الله.

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} ومرة أخرى يذكر التزيين والمتأمل في لفظة زين يفتح عليه من المعارف في حقيقة الدنيا ما شاء الله أن يفتح وفي الآية تعداد لأشياء الدنيا التي يتنافس فيها المتنافسون ويهلك من جرّاها الهالكون وتختم الآية بتفضيل الآخرة والتأكيد على أن الدنيا مجرد متاع مؤقت.

{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} الإرادات مختلفة وكل يعمل على شاكلته والله يعلم ما تكن الضمائر وما تعلن ولكن الجزاء لا يكون إلا للشاكرين للنعمة بالقلب والقول والعمل والحال.

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} كذلك الدنيا متاع وغرور.

{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} وهذا المتاع صفته أنه قليل والآخرة خير والمقياس التقوى.

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} سبحان الله يؤكد على أن خيرات الدنيا بيده وخيرات الآخرة بيده وهو السميع للأقوال البصير بالأعمال والسر عنده علانية ومهما أخفى الإنسان إرادته فإن الله يعلمها.

{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} الدنيا غرارة وهي السبب في اتخاذ الدين لهو ولعب.

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}

نسيان لقاء الله والغفلة عنه مفتاح لكل شر والآية تذكر الرضى بالدنيا والاطمئنان بها واستحبابها، وهذا في سياق الذم، إذن الله لا يريد منا الرضى بالدنيا ونسيان الآخرة ولا يريد منا الاطمئنان بالدنيا وهذه لفظة معبرة عن حال الكثيرين ممن لم تشتعل قلوبهم شوقاً إلى الله ورغبة إليه ورجاء فيه.

 

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} الدنيا لعب ولهو ومن يرضى باللهو واللعب عوضاً عن جنة عرضها السموات والأرض بجوار الرحمن الرحيم فهل تستحق هذه الدار التشاحن من أجلها والتهالك عليها ونفاذ الصبر أمام شهواتها الزائلة, ويضرب الله المثل دائماً للدنيا بالمطر الذي يسقي الأرض فتنبت الزرع الذي يعجب الزراع نباته ثم يصفر وييبس وتذروه الرياح حطاماً وكأن هذه الأرض لم تخضر يوماً ما ولم تغنَ ومن اشتدت عنده قوة التصور والاعتبار بهذا المثل وحتى كأن دمار الأرض رأي عين زهد فيها واستوحش من أهلها المتكالبين عليها وعلم ما هم عليه من نقص العقول والأديان {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وهم حدثاء عهد بإيمان ومع ذلك عرفوا حقيقة الدنيا وأنها فانية فإما أن ترحل عنها أو ترحل هي عنك وعليه فليست جديرة بأن تعاوض بها الآخرة فباعوها سخية بها نفوسهم زاهدة فيها قلوبهم واشتروا الجنة سلعة الله الغالية {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الدنيا عرض والعرض ولا بد زائل لأنه كالشيء الذي يعرض لك ويزول وهذا مما يقرب إليك صورة الدنيا ومعدنها.

{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} وعد وحسن وممن من الله فهو حق ولا ريب ولا يقارن هذا بمن تمتع بمتع الدنيا وعاقبته أنه من المحضرين وهنا إخفاء للمصير مخيف فهو محضر ولم يقل محضر لأي شيء ولا على أي حال وهذا غاية الوعيد والتهديد.

{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} ذم لمن كانت الدنيا مبلغ علمه مهما نجح فيها واخترع وربع فهو لغفلته عن الآخرة مذموم في علمه ومذموم في حاله.

{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} وفي القلوب فاقة لا يسدها سوى الإقبال على الله إن قلوبنا تغلي كما تغلي القدر ولا قرار لها إلا بدخول الجنة ولا يكون ذلك إلا في الآخرة حيث تنتهي الدنيا.

{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} لأن الدنيا لا تساوي شيئاً فيعطيها الكافر ولولا أن يكفر ضعفاء العقول والقلوب لخلصت الدنيا بذهبها وقصورها وأموالها للكافرين لهونها على الله وفي هذا إشارة بليغة لمن التقطها فمن اليوم لا تحزن على ما فاتك من الدنيا ولا تشتد رغبتك في الذي بيد الناس {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} ذهبت اللذائذ وجاءت الحسرات فما أكل وشرب على سخط من الله سيعود زقوما وغسلين في بطن آكله وشاربه فاستقل أو استكثر.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply