أيُعْصَى ربُّنا قهراً


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

إن الله -تعالى- يَبعث مَلَكاً لابنِ آدم، وهو في بطن أمِّه، فيُؤمر بكتابة عَمَلِه، ورزقِه، وأجَلِه، وهل هو شقيٌّ أو سعيد، وأنَّ أحدا لن يخرج عمَّا عَلِمَه الله، ذلك أنَّه لا يُتَصَوَّر أنْ يقع شيءٌ في هذا الكون إلا وهو في علمِ الله، وقد اقتَضَتْ حكمتُه -سبحانه- أن يجعل بعض الأمور معلَّقةً على غيرها، فيعلِّقَ طول العمر على صلة الرحم، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أحبَّ أنْ يُبْسطَ له في رزقه، وَيُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِه، فَلْيَصِلْ رَحِمَه»، والمعنى من أراد أن يُؤخَّر في عُمره، فالأثر هو العمر، فالملئكةُ تكتب في صحيفة العبد أنَّ عمره كذا، وأنه إن وصلَ رَحِمَه سيزيد عمره كذا سنة، فالذي يظهر للملائكة هو ما كتبه الملَك، فقد يكون مكتوبا في صُحف الملائكة أنَّ عمره سبعون سنة مثلاً، وأنه إنْ وَصَلَ رَحِمَه زِيْدَ في عمره ثلاثون سنة مثلا، وإلى هذا المعنى يشير بيانُ الله -تعالى- في قوله: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» فما قدَّره اللهُ في عِلْمه لا اختلاف فيه ولا تبديل، فلا يَقبل الـمَحْوَ والإثبات، فمعاذ الله أن يَبْدو له أمرٌ لم يكن يعلمه مِن قبل.

كما أن ما نزل بالناس من نعمٍ أو ابتلاء فهو بإرادة الله وتقديره، قال تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا» وقد بيَّن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح أن اللهَ كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض، فمِن الناس مَن علمَ اللهُ مِنْه أنه سيقع في المعاصي والمنكرات، غير أنه في آخر عمره سيَتوب، ويُختَم له بالسعادة، ومِن الناس مَن يرى الناسُ منه أعمالا صالحةً، ثمَّ يُختم له بالشقاء، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لا عَليكم أنْ لا تَعجبوا بعملِ أحدٍ حتى تَنظروا بِـمَ يُختم له، فإنَّ العاملَ يعملُ زماناً من عمره بعملٍ صالح، لو مات عليه دخل الجنة، ثمَّ يتحوَّلُ، فيعمل عملا سيِّئاً» فالأعمال بالخواتيم، ولهذا عَظُمَ خوفُ أهل المعرفة من سوء الخاتمة.

قال أحد الصالحين: «هذه التي قُطعتْ دونها أعناق الرجال، مع ما هم فيه مِن حُسْن الحال، لأنهم لا يَدرون بماذا يختم لهم» فلا يعلمُ أحدٌ أنَّه مِن الذين سَبَقَتْ لهم مِن الله الحُسْنَى، لكن الذي يعلمه كلُّ أحد، هو أنَّ من عميم رحمة الله وفضْلِه، أنَّ تَـحوُّلَ الطائع إلى المعصية والكفْر قد يقعُ، غير أنه نادرٌ في الناس، وأما انقلابُ الناس من الشَّرِّ إلى الخير فهو الغالب، فرحمةُ الله أَسْبقُ، كما في الحديث القدسيّ: «إنَّ رحمتي سبقتْ غضبي» قال تعالى: «قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» غير أن الإنسان يَعدُّ أيام المحنة ولا يعدُّ أيام النِّعمة، فرحمة الله سبحانه أعظم من رحمة الأم بولدها، ووجْهُ السَّبْق أنَّ الرحمةَ تنزلُ ابتداءً، وأما الغضب فسببه المعصية والكفْر، فالوعْدُ حقُّ كتبه الله على نفسه فقال: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» وهو أحقُّ مَن وَفَى سبحانه، وأما الوعيد فهو حقُّهُ سبحانه على عباده، وهو أحقُّ مَن عفا، والعرب تفتخرُ بإنجاز وَعْدها وتَناسِي وعيدها، وتقول: إنْ وَعَدَ وَفَى، وإنْ أَوْعَدَ استثنى، وإنما كان الوعيد حقَّه على عباده لأنه وهبهم صفة اختيار ما يشاؤون مِن خيرٍ وشرّ، ولم يُرِدْ أنْ يَسلبهم الإرادة، ولو شاء لَفَعل، فاقتضتْ حكمته أنَّ مَن اختار الهدايةَ هداهُ وزاده هدى كما قال: «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدى» ومن تكبَّر واختار الغواية تَرَكَه وشأنه كما قال: «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا» ولو شاء اللهُ ألا يُعْصَى ما عصاه أحدٌ، كما قال: «وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا».

ومن بديع المناظرات أنَّ أحد القَدَرِيَّة سأل الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني: أَيَشاءُ ربُّنا أنْ يُعْصَى؟

فقال الأستاذ: أيُعْصَى ربُّنا قهراً؟

فقال القدَريُّ: أرأيتَ إنْ مَنَعني الهُدى، وقَضى عَليَّ بالرَّدَى، أَحْسنَ إليَّ أم أساء؟

فقال الأستاذ: ما مَنعَك إلا ما هو له، فهو يَختصُّ برحمته مَن يشاء، فَبُهِتَ القدَريُّ، فالعبادُ أقلُّ شأناً مِن أنْ يَعصوا الله بغير إرادته.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply