فوائد من أحاديث الأربعين النووية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 22 فائدة من تعليقه على مقدمة النووي رحمه الله:

1. شكر النعم :

إن بعض الناس قد يبلغ به من الفقر والحاجة مبلغًا عظيمًا، ثم إذا قيل له: "احمد ربك, واشكر ربك", كما قال -تعالى-: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}[(18) سورة النحل] قال: "على أي شيء أحمد الله وأنا فقير, مدقع, محتاج؟!" نقول: لا يا أخي ما تدري لو أن الأذن دخل فيها حشرة وطلب منك ما على وجه الأرض من أموال لبذلتها، أو لو احتبس فيك البول وطلب منك ما على وجه الأرض من المليارات من الذهب والفضة دفعتها، أليست هذه نعم؟ نعمة البصر، نعمة السمع، نعم لا تُعَدُّ ولا تُحصى.

تصور أن أصبعًا من أصابعك أصغر الأصابع عندك صلب لا تستطيع أن تثنيه ماذا يكون من دون ألم؟ تتأذى به أذىً شديدًا ولو لم يؤلمك، ولذا هذه النعم يعني نعم المفاصل نعم لا يقدر قدرها إلا من فقدها. تصور أن شخصا رِجلُه متصلبة لا تنثني، فَسَيواجه من العنت والحرج ما لا يدرك, ولو لم يكن فيها ألم. ولذا يصبح على كل سلامى من الناس صدقة، فثلاثمائة وستين مفصل تحتاج إلى ثلاثمائة وستين صدقة، لكن الله -جل وعلا- لطيف لا يكلف الفقير أن يتصدق بالدراهم وهو لا يجدها، ولذا كل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة.... إلى آخره، ويكفي من ذلك ركعتان تيكعهما الأنسان من الضحى في مقابل ثلاثمائة وستين صدقة.

فعلى الإنسان أن يحمد الله -جل وعلا-، وأن يلهج بذكره وشكره، ولا يجحد هذه النعم وإن كان يغفل عنها, فهناك كثير من الناس في غفلة تامة عن هذه النعم، لكن مع ذلك عليه أن يتذكر وعليه أن يشكر, قال -تعالى-: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[(7) سورة إبراهيم].

 

2. نعمة الإسلام والاعتزاز به :

هناك النعم الظاهرة، وهناك النعم الخفية, والله -جل وعلا- أسبغ النعم على عباده، وأعظم هذه النعم على الإطلاق نعمة الإسلام، وهذا هو رأس المال. هل يمكن أن تقارن حالة أقل المسلمين شأنًا في أمور الدنيا بأعظم الكفار شأنًا في أمور الدنيا؟ أبدًا، ولذا المؤمن كخامة الزرع، المصائب تعتريها من كل وجه، وأما الكافر مثل الأرْزة -شجرة صلبة متينة عريضة لا تحركها الرياح- فلا تعتريها العوارض. ولذا الإنسان يحمد الله -جل وعلا- أن جعله من هذه الأمة ويفتخر بإسلامه ويرفع رأسه بدينه؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[(33) سورة فصلت]، فيعتز بدينه ويفتخر به.

 

3. البدأ بالبسلمة والحمدلله:

"وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له" بدأ بالبسملة، ثم ثنى بالحمد، ثم ثلث بالشهادة, وقد جاء في ذلك الأحاديث المعروفة ومن طرق كثيرة: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر))، و((كل أمر ذي بال -يعني شأن يهتم به شرعًا- لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع أو أجذم)) و((كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذمى)). على كل حال العلماء يمتثلون هذه الأحاديث وإن كانت لا تَسْلَم من مقال، بل بعض العلماء حكم على جميع ألفاظها بالضعف، وأما الرواية التي فيها (الحمد) -على وجه الخصوص- فقد حسنها النووي، وجمع من أهل العلم كابن الصلاح وغيره. ولا يعني أننا إذا ضعفنا الأحاديث بجميع ألفاظها وطرقها أننا لا نبدأ بالبسملة، فالقرآن ابتدئ بالبسملة، والحمدُ ابْتُدِئَ به القرآنُ أي بفاتحة الكتاب, وخطب النبي -عليه الصلاة والسلام- تفتتح بالحمد والشهادة أيضًا.

وبعض الناس إذا سمع التضعيف قال: لا داعي لأن نبدأ بالبسملة, والحمدلة, والشهادة ما دامت الأحاديث ضعيفة، والعمل بالحديث الضعيف لا يجوز العمل به -على ما سيأتي تقريره في هذه المقدمة. ومن يقول: إن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقًا، ثم يأتي إلى مثل هذا الحديث ويقول: الأحاديث في هذا الباب ضعيفة, فيدخل في مراده مباشرة أنه يُبدأ بغير البسملة والحمدلة والشهادة. ومع الأسف فقد وجد بعض الكتب، ووقفت على واحدها موضوعه شرعي، يقول صاحبه: "كانت الكتب التقليدية تبدأ بالبسملة والحمدلة", فرأى هذا المجدد أن البسملة والحمدلة لا داعي لذكرهما مع ضعف الأحاديث. وهذا قصور في الفهم، فهو لا يفرق بين ما ثبت بأصول متضافرة متكاثرة، وبين ما لم يرد إلا في هذا الحديث الضعيف.

 

4. الشهادتين :

الشهادة الأولى لا تصح إلا بالثانية، كما أن الثانية لا تصح إلا بالأولى. فمن يشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، ولا يشهد أن محمدًا عبده ورسوله فشهادته باطلة؛ لأن الأولى مستلزمة للثانية والثانية من شرطها النطق بالأولى وكل واحد منهما مستلزمة ومتضمنة للأخرى.

 

5. قول سيدنا محمد :

لا مانع من القول (سيدنا محمد) في الكلام المرسَل المطلَق الذي لا يتعبد بلفظه، لكن في الألفاظ المتعبد بها كالتشهد مثلًا لا يجوز أن تقول: وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله؛ لأن هذه متعبد بها, وال عبادات توقيفية لا تجوز الزيادة فيها

 

6. تفضيل الأنبياء :

((لا تفضلوا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متَّى)) فمنع -عليه الصلاة والسلام- التفضيل, وهذا محمول على حالة واحدة وهي: إذا اقتضى المقام تنقص المفضل عليه، فحينئذ يقال: لا تفضلوا الأنبياء، وإلا فالتفضيل بين الأنبياء في منطوق الكتاب العزيز: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[(253) سورة البقرة]. فالمنع من تفضيل الأنبياء في قوله -عليه الصلاة والسلام-:((لا تفضلوا بين الأنبياء)) معروف أنه حينما يقتضي هذا التفضيل التنقص للمفضول, كما هو ظاهر في الحديث: ((لا تفضلوني على يونس بن متَّى))؛ لأن ما حصل من يونس -عليه السلام- قد يتطاول عليه بعض السفهاء الذين لا يعرفون منازل الأنبياء والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-. فالذي يقرأ عن يونس -عليه السلام- قد يقع في نفسه شيء من التنقص له، لكن الله -جل وعلا- أنجاه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[(143- 144) سورة الصافات], {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[(87) سورة الأنبياء]. فهذه دعوة ذي النون، وليست خاصة به، بل له ولغيره ممن يقولها في هذه المضايق؛ لأن الله -تعالى- قال: {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}[(88) سورة الأنبياء] فهي ليست خاصة بيونس. على كل حال إذا اقتضى التفضيل تنقص المفضول منع وحسمت مادته بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تفضلوا بين الأنبياء))، وإلا فالأصل أن التفضيل واقع وثابت في منطوق القرآن.

 

7. الدين يسر :

فالدين يسر والله الحمد. وكون الدين يسر لا يعني أن الإنسان يتفلت من الأوامر والنواهي مستشهدا بأن الدين يسر, بل هو دين تكاليف أيضًا, قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((حفت الجنة بالمكاره)). يقول الله -جل وعلا- عن بيته المحرم-: {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ}[(7) سورة النحل], فالحج فيه مشقة، والصيام في أيام الصيف الحارة فيه مشقة، والصلاة في الليالي الشديدة البرد شاقة، والجهاد شاق. إذًا الدين يسر يعني فيما يحتمله المكلف في ظروفه العادية؛ لأن الإنسان مستعد أن يعمل من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يعمل من طلوع الشمس إلى نصف الليل في تجارته، ويحمل الأثقال ويصبر على الحر والبرد فهذا محتمل، ولا يقول: إننا لا نطيق الصيام في الحر ومع ذلك يزاول تجارته في الحر، فهذا هو الضابط لليسر. أما ما أوجبه الله -جل وعلا- فلا مساومة عليه، بخلاف ما يفعله المكلف مما وراء ذلك من مستحبات فيقال فيها: ((اكلفوا من العمل ما تطيقون))، ((لن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) يعني الإنسان. النبي -عليه الصلاة والسلام- منع من أراد أن يصوم النهار ويقوم الليل، ومن أراد أن يصوم ولا يفطر وأن يقوم ولا ينام، ومنع ابن عمر -رضي الله عنه- أن يقرأ القرآن في أقل من سبع, فقال له: ((اقرأ القرآن في سبع ولا تزد)). وكل هذا من أجل الاستمرار؛ لأن أحب الدين إلى الله أدومه وإن قل. فهذه الشريعة -ولله الحمد- سِمَتُها أنه ليس فيها آصار, ولا أغلال, ولا تكليف بمحال, وما لا يطاق، ولكن فيها تكاليف، فيها ما فيه مخالفة لهوى النفس وهذا من أشق الأمور؛ ولذا صبر الكفار على القتل في مقابل ألا يخالفوا هواهم، والله المستعان.

 

8. الصلاة على غير النبي :

ومنهم من جوز الصلاة على غير الأنبياء. وهذه المسألة بحثها ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "جلاء الأفهام" وفي غير موضع من كتبه. فمن العلماء من يرى جواز الصلاة على غير الأنبياء على جهة الاستقلال، لكن لا يتخذها شعارًا لواحد بعينه، فلا يقال لأبي بكر: "صلى الله عليه وسلم" باستمرار, ولا يقال لغيره؛ لأن هذا يبين عن شيء في النفس، لكن لو قيل مرة, كمثلا ذكر أبو بكر أو عمر أو ما أشبه ذلك, فقيل: "صلى الله عليه وسلم". وأكثر أهل العلم على أن الصلاة خاصة على سبيل الاستقلال بالأنبياء، والترضي عن الصحابة، والترحم على من بعدهم, فكما أنه لا يقال: محمد -عز وجل- وإن كان عزيزًا جليلًا, لا يقال: أبو بكر -صلى الله عليه وسلم-، فهذا العرف العلمي عند أهل العلم.

ويستدل من يرى الجواز على ألا يكون شعارًا لواحد بعينه بما ورد أنه لما جاء أبو أوفى بزكاته قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اللهم صل على آل أبي أوفى)), فالنبي -عليه الصلاة والسلام- امتثل الأمر في قول الله -جل وعلا-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}[(103) سورة التوبة].

 

9. الحرص على الصلاح :

"الصالح" هو القائم بحقوق الله -جل وعلا- وحقوق عباده. فهذا الوصف لا بد أن يحرص المسلم على الاتصاف به فيكون صالحًا؛ لئلا يحرم نفسه من دعاء الناس له بالسلامة, كما في أثناء التشهد: "السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين"، وهذه الجملة تقال من وقت محمد -عليه الصلاة والسلام- إلى آخر مسلم يقولها ويكررها في كل صلاة، فالذي يتصف بضد الصلاح قد حَرم نفسه من دعوات المسلمين على مر العصور والأزمان، وهذا حرمان عظيم ألا تحب أن يدعى لك وأنت لا تشعر من قبل الملايين، تحرم نفسك من هذه الدعوة، عليك أن تسعى جاهدًا لتحقيق هذا الوصف.

 

10. أما بعد أو وبعد :

 والإتيان بها في الخطب والمراسلات والدروس سنة ثابتة نقلها أكثر من ثلاثين صحابيًا عن النبي -عليه الصلاة والسلام- والإتيان فيها بـ(أما) سنة ولا يقوم غيرها مقامها، وإبدال الواو بأما هذا عرف عند المتأخرين، ويقولون: "إن الواو تقوم مقام أما"، لكنه لا يحصل به الامتثال والاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- والفائدة من الإتيان بها الانتقال من موضوع إلى موضوع، من المقدمة إلى صلب الموضوع، أو من موضوع إلى موضوع أخر.

ولو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تكلم بها مرة أو مرتين، أو تركها أحيانًا، وفعلها أحيانًا، كان بإمكاننا أن نقول أنها ليست سنة، لكنه -عليه الصلاة والسلام- ما دام التزم بها في خطبه، وفي مكاتباته، نقول: إن التزامها سنة.

 

11. الاتفاق على العمل بالحديث الضعيف في الفضائل :

يقول المؤلف: "وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال".

هذا الاتفاق منقوض لوجود المخالف، فمن أهل العلم من لا يرى العمل بالضعيف مطلقًا، بل منهم من لا يرى العمل بالحسن مطلقًا، ومنهم من لا يرى العمل بالحسن لغيره ويرى العمل بالحسن لذاته، كل هذا وارد على قوله: "وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال".

 

12. العلماء الذين لا يرون العمل بالضعيف :

أبو حاتم الرازي لا يرى العمل بالحسن يعني ومن باب أولى الضعيف،البخاري ومسلم صنيعهما يدل على أن الضعيف لا يعمل به مطلقًا, وشنَّع الإمام مسلم في مقدمة صحيحه على من يروي الأحاديث الضعيفة ويلقي بها إلى العامة وشدد في هذا الأمر. أبو بكر بن العربي أيضًا شدد على من يحتج بالضعيف في الفضائل وغيرها. شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أيضًا لا يريان العمل بالضعيف مطلقًا، وكذا الشوكاني والألباني وجمع من أهل العلم يرون عدم العمل بالضعيف مطلقًا. فكيف ينقل النووي الاتفاق على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؟ هذا الاتفاق الذي ذكره نقله عنه الـمـُلا علي قاري في "شرح المشكاة".

 

14. نقل النووي للاتفاق :

النووي -رحمه الله- متساهل في نقل الإجماع لا سميا في "شرح المهذّب"، و"شرح مسلم"، فينقل الاتفاق ثم ينقل قول المخالف، وإذا وجد المخالف انتفى الاتفاق. وقد ينقل الاتفاق في مسائل الخلاف فيها معروف، كما نقل الاتفاق على أن عيادة المريض سنّة، مع أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم في صحيحه "باب وجوب عيادة المريض"، ونقل الاتفاق على أن صلاة الكسوف سنّة مع أن أبا عوانة في صحيحه ترجم "باب وجوب صلاة الكسوف"، ومسائل كثيرة. فبالاستقراء والتتبع ظهر أن عند النووي مسائل ينقل فيها الاتفاق وقد ينقل الخلاف هو بنفسه ممن يعتد بخلافه. أما كونه ينقل الاتفاق ثم ينقل رأي الظاهرية هذا لا يستدرك به عليه؛ لأنه لا يعتد بقولهم، فقد صرح بأنه لا يعتد بقول داود؛ لعدم عمله بالقياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد.

فما دام الأمر كذلك وهو أن النووي -رحمه الله- متساهل في نقل الإجماع وأن هناك من العلماء من خالف في هذه المسألة وفي غيرها مما نقل فيه الاتفاق هذا يجعلنا لا نهاب هذا الاتفاق، مع أن الأصل أن على طالب العلم أن يهاب الاتفاق والإجماع؛ لئلا يشذ، لكن هذا الاتفاق الذي ذكره النووي -رحمه الله- لوجود المخالف بكثرة يجعلنا لا نهابه. وإن كان الشوكاني توسع في مثل هذا وقال: "دعاوى الإجماع، تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع، مع أن الأصل أن على طالب العلم أن يهاب الإجماع"، لكن الإجماع بعينه منقوض فلا يُهاب

 

15. الامام احمد و ابن تيمية :

يذكر عن الإمام أحمد -رحمه الله-, وابن مهدي, وجمع غفير من أهل العمل أنهم يقولون: "إذا روينا في الأحكام تشددنا، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا"، و يُصنَّف هؤلاء ممن يقولون بالتفريق بين الفضائل والأحكام، نعم هم يقولون بالتفريق لكن أي تفريق؟ شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن الإمام أحمد لا يعمل بالضعيف في الأحكام ويعمل به في الفضائل، لكنه يرى أن الضعيف عند الإمام أحمد ليس هو الضعيف عند المتأخرين، إنما هو قسم من أقسام المقبول فهو الحسن عند من جاء بعده.

وذلك؛ لأن شيخ الإسلام يرى عدم العمل بالضعيف مطلقًا، الذي هو الضعيف المصطلح عليه عند المتأخرين، فهو يقول: إن الضعيف عند الإمام أحمد وغيره من المتقدمين المراد به قسم من أقسام المقبول لا المردود فيجعله هو الحسن، فالحسن بالنسبة إلى الصحيح ضعيف، لكنه في إطار القبول. ويذكر شيخ الإسلام أن الحسن لم يكن معروفًا قبل الترمذي. لكن الحسن معروف قبل الترمذي عند طبقة الإمام أحمد معروف الحسن، والأمر الآخر: أن قول شيخ الإسلام يترتب عليه أن الإمام أحمد لا يرى العمل بالحسن في الأحكام, وبيانه أن الضعيف يساوي الحسن، والضعيف لا يحتج به في الأحكام، إذًا الحسن لا يحتج به في الأحكام، وهذا غير معروف في مذهبه -رحمه الله-، لا من قوله ولا من قول أتباعه من بعده. كيف الإمام أحمد لا يرى العمل بالحسن في الأحكام؟ بل الضعيف في كلامه -رحمه الله تعالى-: المراد به الذي لم يصل إلى درجة القبول، أما من وصل إلى درجة القبول فهو الحسن وقد يرتقي إلى الصحيح كما هو معروف.

 

16. وجود احاديث ضعيفة في كتب العلماء :

العلماء يتفقون على أن الضعيف لا يحتج به في العقائد والأحكام أيضًا، إلا أن الباحث في كتب الفقه: في الأحكام -في الحلال والحرام- يجد أن هذه الكتب مملوءة بالأحاديث الضعيفة، فكيف يقررون ويقعِّدون أن الضعيف لا يعمل به في الأحكام، ومع ذلك كتب الأحكام فيها أحاديث ضعيفة، حتى كتب أحاديث الأحكام فيها أحاديث ضعيفة؟ كيف نقرر كلام نظري ثم عند العمل والتطبيق نخالف؟

يعني لو رجعت إلى المجموع للنووي وجدت فيه أحاديث ضعيفة، وهو ممن يجمع بين الفقه والحديث، وإذا رجعت إلى المغني فيه أحاديث ضعيفة، إذا رجعت إلى كتب الحنيفة كذلك، كتب المالكية كذلك، فكيف يقولون: "إن الضعيف لا يعمل به في الأحكام", ويتفقون على هذا ثم بعد ذلك نجد كتبهم مملؤة بمثل هذه الأحاديث؟ مرد ذلك إلى عدم علمهم بهذه الصَّنعة، يوردون الأحاديث ويتناقلونها بعضهم عن بعض وهم لا يعرفون ضعفها، وقد يحتاجون إلى تعليل الأحاديث. قد يقول قائل: "النووي من أهل الصنعة ويعلل الأحاديث ويصحح ويضعف"، نقول: هو قد يتساهل في التصحيح، وقد يكتفي بتصحيح الترمذي، وقد يكتفي بسكوت أبي داود ثم يدخل عليه الدخل من هذه الحيثية. أما صاحب المغنى وغيره ليس بمثابة النووي في علم الحديث، لكنه مع ذلك له يد في التصحيح والتضعيف بالنقل عن غيره، وأكثر ما تجده يتعرض للتصحيح والتضعيف في أحاديث التي يستدل بها الفقهاء الخصوم - كما يسميهم- وهذه التسمية غير مقبولة، لكن جرت العادة على هذا، ومن الفقهاء من يسميهم الخصوم، مثل الزيلعي في "نصب الراية" يكثر من قوله: "استدل الخصوم"، "ولنا وللخصم"، وكذا، هذا على طريق سبيل المناظرة يعدونه خصما؛ لأنه يخاصم ينازع في حكم هذه المسألة، يعني بينهما نزاع في حكم هذه المسألة والنزاع هو الخصام, وهو في الأصل من أهل العلم ومن أهل الفضل. لكن النزاع أخف والخلاف أخف من النزاع, كما قال -تعالى-: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ}[(46) سورة الأنفال].

والمقصود أن من الفقهاء من يتعرض للتصحيح والتضعيف يصحح أحاديث التي يستدل بها، وقد ينقد الأحاديث التي يستدل بها مخالفه، وإن كان ابن قدامة عنده شيء من الاعتدال والإنصاف، وهو قد يخرج عما يقرره في المذهب لقوة دليله، إلا أن مخالفة النووي للشافعية أكثر من مخالفة ابن قدامة للحنابلة تبعًا للدليل.

قلنا: إنّ إيراد هذه الأحاديث الضعيفة في كتب الأحكام مع أنه لا يحتج بها في الأحكام اتفاقًا إنما هو من باب غفلة مؤلفيها عن الصَّنعة الحديثية. ناهيك عما في كتب التفسير، وما في كتب المغازي، وما في السير، وما في التواريخ والأدب من الأخبار الضعيفة والباطلة والواهية هذا فيه كثير.

 

17. فوائد منع العمل بالضعيف :

وإذا قلنا: إن الضعيف لا يحتج به مطلقًا سَد الباب على أمثال أولئك الذين يشغلون طلاب العلم بما لم يثبت عما ثبت، ويشغلون العامل بالعمل بما لم يثبت عن العمل بما ثبت. فتجد كثيرًا ممن غلب عليه جانب العمل عنده شيء من الغفلة عن العلم، وتجد كثيرًا من أعماله مبناه على أحاديث ضعيفة، وإذا تشبث الإنسان بالضعيف لا شك أنه سيغفل -لا محالة- عما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولذا لو كان معوَّل طالب العلم وعمدته على الصحيحين قبل غيرهما، فإذا أتقن الأحاديث الصحيحة طلب المزيد مما صح من غيرهما,كان تمسكه بالصحيح فيه مشغلة عن التمسك بما لم يصح. بخلاف من اعتمدوا على أحاديث وعلى كتب وعظية، وكتب ترغيب، وكتب ما يكتبه العبّاد ويستدلون به وغالبه من الضعيف، بل فيه كثير من الموضوعات، وانشغلوا بأعمال بناء على ما رُتِّب عليها من أجور عما صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.

فالقول بحسم المادة وعدم العمل بالضعيف مطلقًا، هو الذي يجعل طالب العلم يعمل بما صح ويسدد ويقارب ويحرص على استيعاب ما صح، وفيه ما يشغله عما لم يصح.

 

18. عناية العلماء بالأربعين النووية

اعتنى العلماء بهذه الأربعين وشرحوها بشروح كثيرة، ولا يحصى كم من شرح مطول ومختصر ومتوسط على الأربعين للنووي من المتقدمين ومن المتأخرين، من المطبوع والمخطوط، ومن المسموع والمقروء, كتب كثيرة جدًا.

حتى من أشد الناس تحريًا للاتباع يشرحون الأربعين؛ لا لأنها أربعون، بل لأن هذه الأحاديث التي جمعت في الأربعين أحاديث في غاية الأهمية. لو أنها سبعين بهذه القوة والجودة وهذا الانتقاء، هل نقول: إن العالم الفلاني الذي شرحها على أساس أنها أربعين لو عرف أنها سبعين ما شرح؟ لا، إنما شرحها, واهتم بها أهل العلم لما لها من ميزة، فهذه أحاديث كما سيأتي في كلام المؤلف إنها من جوامع الكلم، وقيل في كثير منها: إن مدار الإسلام عليها، وربع الإسلام، وثلث الإسلام أو يدخل في جميع أبواب الدين، وهكذا على ما سيأتي إجمالًا في المقدمة، وتفصيلًا عند قراءة كل حديث.

 

19. رواية الحديث بالمعنى:

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)) فوعاها: يعني عقلها وحفظها. فأدَّاها أي إلى غيره, كما سمعها يعني بحروفها، لم يغير فيها شيئًا. الذي يروي الحديث بالمعنى يدخل في هذه الدعوة وإلا ما يدخل؟

ظاهر اللفظ أن من روى الحديث بالمعنى لا يدخل؛ لأنه لا بد أن يؤديها كما سمعها، والذي يؤدي بالمعنى لا يكون أداها كما سمعها، لكن قد يدخل في قوله -صلى الله عليه وسلم-:((ليبلغ الشاهد الغائب))، ويدخل في نصوص كثيرة؛ ولذا جمهور أهل العلم على أن رواية الأحاديث بالمعنى جائزة بشروطها. ولذا حديث ((الأعمال بالنيات)) مروي في صحيح البخاري في سبعة مواضع يختلف بعضها عن بعض زيادة ونقصًا، ففي بعضها: ((امرأة ينكحها))، وفي بعضها: ((امرأة يتزوجها))، وفي بعضها: ((دنيًا يصيبها)). والمقصود أنها الألفاظ في صحيح البخاري فضلًا عن غيره وهي متفاوتة. وكذلك حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- فروي: ((مشتبهات)), وروي: ((متشابهات)), وروي: ((مشبّهات)) وألفاظ كثيرة فيها زيادة ونقص، وسيأتي شيء من ذلك -إن شاء الله تعالى-.

على كال حال من روى الحديث بلفظه كما هو الأصل، ومن رواه بالمعنى حصل له فضله.

 

20. شروط رواية الحديث بالمعنى:

ولرواية الحديث بالمعنى يشترط العلماء شروطا منها:

أن يكون عارفًا بمدلولات الألفاظ وما يحيل المعاني.

وألّا يكون المتروك يعني المحذوف، يغير المذكور في الحديث له ارتباط به.

وألا يكون أيضًا النص مما يتعبد بلفظه, مثل حديث النوم -حديث البراء بن عازب- لما ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- الحديث ((ونبيك الذي أرسلت)) قال عند عرض الحديث على النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ورسولك الذي أرسلت" قال: ((لا، قل: ونبيك الذي أرسلت)).

 

21. ذكر اللفظ الغريب مع الحديث :

"ثم أُتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظها" يعني بعد أن ذكر الأحاديث الاثنين والأربعين ذكر بابًا فيه الألفاظ الغريبة التي وردت في ثنايا الكتاب -في الأحاديث-. لو ذكر هذه اللفظة مع الحديث لكان أولى بدلًا من أن يفرد لها بابا. وبعض الناس لا يخطر على باله أن المؤلف شرح هذا الكلمة في آخر الكتاب، ولا شك أن ذكرها بعد الحديث أيسر وأسهل.

 

22. جامع العلوم والحكم

وينبغي لكل راغب في الآخرة "يعني كل حريص على نجاته،" أن يعرف هذه الأحاديث" يحفظ هذه الأربعين، ويفهم هذه الأربعين، ويقرأ ما كتب حولها لا سيما ما كتبه الحافظ ابن رجب في: "جامع العلوم والحكم" فليحرص طالب العلم عليه وليعضه بنواجذه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 تنبيه: عنوان الفوائد من وضع الجامع وليست من كلام الشيخ

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply