متى تكون البدعة ضلالة؟


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

روى الترمذي في سننه عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد حبشيّ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة".

وروى البخاري مختصرا ومسلم في صحيحه عن جابر قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه مُنذر جيش، يقول: "صبّحكم ومسّاكم" ويقول: "بُعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدي هدي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه. من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دَيْنا أو ضَياعا (عيالا) فإليَّ وعلَيَّ". إن هذين الحديثين يؤكدان أن الأمر المحدث في الدين هو شر الأمور، وأن كل بدعة في الدين ضلالة، من هنا يجدر بنا أن نبين: متى يكون الأمر المحدث شرا مستطيرا؟ ومتى تكون البدعة ضلالة؟ وللإجابة عن هذين السؤالين نعرض هذا البيان..

جاء في كتاب (بيان للناس) الصادر عن الأزهر:

من الكلمات التي جرت كثيرا على الألسنة، كلمة "بدعة"، ومقولة "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" وشغل بعض الناس بذلك حتى تفرقوا شيعا وأحزابا، وانصرفوا عن قضاياهم المهمة ومشكلاتهم الضاغطة، ورمى بعضهم بعضا إن لم يكن بالكفر والإلحاد فبالفسوق والعصيان، وترتب على ذلك ما لم يكن ينبغي أن يكون، ومن الواجب أن ننبه إلى وجوب تحديد المفاهيم، وبيان المراد من الألفاظ التي يدور حولها النقاش، وبعيدا عن التفاصيل التي أُلّفت فيها كتب خاصة أنبه إلى ما يلي:

1.    يجب أن يُفرَّق بين معنى البدعة في اللغة ومعناها في الاصطلاح، فربما لا تكون بمعناها اللغوي ضلالة في النار، ومن ذلك قول عمر: "نعمت البدعة هذه" رواه البخاري. حين رأى المسلمين يصلون التراويح جماعة خلف أُبيّ بن كعب. يقول الإمام الغزالي في كتابه الإحياء حين تكلم عن كتابة القرآن ونقطه: "ولا يمنع من ذلك كونه محدثا، فكم من محدث حسن، كما قيل في إقامة الجماعات في التراويح إنها من محدثات عمر، وإنها بدعة حسنة، وإنما البدعة المذمومة ما تصادم السنة القديمة، أو ما يكاد يفضى إلى تغييرها".

2.    البدعة المذمومة لا تكون إلا في الدين، وهو ما يدل عليه حديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ" رواه البخاري ومسلم. وتحديد الأمور الدينية وفصلها تماما عن أمور الدنيا من الصعوبة بمكان؛ لأن دين الإسلام نظام شامل، لم يترك شيئا من أمور هذه الحياة إلا بيّنه نصًّا أو إشارة، تصريحًا أو تلويحًا، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، لكن ورد أن هناك أمورًا دنيوية لا يلزمنا فيها الاتباع، كما جاء في تأبير النخل وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".

3.    إن الكلام عن البدعة واضح فيما ورد في الكتاب والسنة من أقوال، لكن ما هو الرأي فيما وراء ذلك وهو الأفعال التي صدرت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولم تصدر عنه فيها أقوال؟ هل تُعتبر كلها سنة تُتَّبع وجوبا أو ندبا أو لا تُعتبر من هذا القبيل؟

أ‌-                 ما كان خاصا بالرسول (صلى الله عليه وسلم) كالوصال في الصيام بين الليل والنهار لا تأسّي فيه.

ب‌-            ما صدر عنه على وجه الجبِلّة والطبيعة والعادة كالأكل والشرب والنوم لا تأسي فيه من جهة فعله، بل التأسي فيما ورد فيه قول عنه، وغاية ما يدل عليه مجرد فعله هو الإباحة، ولا يصح أن يقال لمن خالف ذلك: إنه يدعى تاركًا للسنة.

ت‌-            ما عُرف كونه بيانا للقرآن كقطع اليد اليمنى للسارق لقراءة ابن مسعود، فيه التأسي وجوبا أو ندبا كالحكم المبين

ث‌-            ما ليس من الأمور السابقة، أي ليس خاصا ولا جبليا ولا بيانا وهو نوعان: نوع عُلمت فيه صفته في حق الرسول من وجوب أو ندب أو غيرهما، فأمته تابعة له، لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب: 21]، ونوع لم تُعلم صفته في حق الرسول، أي لم يقم دليل خاص على أنه للوجوب أو غيره، فيُنظر فيه، فإن ظهر فيه معنى القربة، كافتتاح الرسائل بـ "بسم الله" فيُحمل على أقل مراتبه وهو الندب، ففيه التأسي والاتباع، وإن لم يظهر فيه معنى القربة، كإرسال شعر رأسه إلى شحمة أذنيه، وإرخاء العذبة بين كتفيه، قال قوم: لا تأسي فيه، غاية الأمر أنه مأذون فيه غير ممنوع. وقال آخرون: إنه مندوب كالنوع السابق.

4.    هذا فيما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) فما الحكم في تركه؟ قال العلماء:

أ‌-                 ما تركه جبلّة وطبيعة كأكل الضب فلا تأسي فيه، وذلك أن خالد بن الوليد قال له: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" وقد أكله خالد أمامه (صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري ومسلم.

ب‌-            ما تركه خصوصية له، كأكل الثوم، فقد ورد أنه لما أُهدي إليه طعام فيه ثوم، أرسل به إلى أبي أيوب الأنصاري، فقال: يا رسول الله تكرهه وترسل به إليّ؟! فقال: "إني أناجي مَن لا تناجي" رواه البخاري ومسلم. وهذا لا تأسي فيه لعدم وجود المقتضى، وما ورد من النهي عن أكله فذلك لمن أراد حضور الجماعة في المسجد منعا للإيذاء، أما من لم يرد الحضور فلا حرج عليه في أكله.

ت‌-            ما تركه لا جبلّة ولا خصوصية، فيُنظر فيه، فإن عُلم حكم الترك في حقه (صلى الله عليه وسلم) حُرمة أو كراهة فالناس تبعٌ له، وإن لم يُعلم دلّ على عدم الإذن فيه، وأقل مراتبه الكراهة، فيُحمل عليه حتى يقوم الدليل على ما فوقها وهو التحريم.

ث‌-            وإن ترك شيئا لمانع من فعله وقد صرّح به كترك صلاة التراويح جماعة خشية الفرضية، فهذا لا تأسي فيه بعد وفاته لعدم خشية الفرضية بانقطاع الوحي ولهذا رجع عمر إلى الأصل وصلاها جماعة ومدحها. ومثله عدم قتل الرسول (صلى الله عليه وسلم) لحاطب بن أبي بلتعة الذي حاول إخبار قريش بمسيرةِ الرسول إلى مكة لفتحها، وذلك لقوله: "إنه شهد بدرًا" فأي جاسوس غيره يُقتل إن رأى الإمام ذلك، كما قال مالك، وذلك لعدم وجود مانع منه وهو شهود بدر.

ج‌-              وإذا ترك شيئا لعدم المقتضى لفعله ثم حصل المقتضى بعد موته كان للمجتهد أن يرى رأيه، وذلك كجمع المصحف؛ حيث لم يكن له داعٍ في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لكن لما توفي وكثر القتل في القرّاء في الغزوات رأى أبو بكر صواب جمعه لوجود المقتضى له. ومثله الأذان الأول للجمعة الذي أحدثه عثمان على الزوراء لإسماع الناس وإعلامهم بدخول وقت الصلاة بعد كثرتهم وشغلهم بالتجارة.

ح‌-              وإذا ترك أمرا لم يوجد ولم تتهيأ أسبابه كعلامات التوقيت ورصد القمر خلف السحاب لمعرفة أوائل الشهور ثم تهيأت الأسباب لذلك فلا تأسي في تركه، وليس ذلك مخالفا للسنة. فهو من قبيل المسكوت عنه يجتهد فيه العلماء، أما الترك الذي يدل على عدم الإذن فيه فهو ما نُقل عنه بلفظ صريح، كتركه الأذان والإقامة للعيدين، وتركه غسل شهداء أحد والصلاة عليهم.  

من هنا  لا ينبغي أن يسمى "بدعة" إلا كل شيء عملي حدث جديدا لم يكن أيام النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الراشدين المهديين؛ لأن هذا هو معنى "أحدث" أما ترك شيء كان يفعله النبي (صلى الله عليه وسلم) وخلفاؤه فلا يسمى بدعة بل يسمى "مخالفة"، سواء وصلت إلى درجة التحريم أو بقيت في درجة الكراهة، اللهم إلا إذا اتُّخذ الترك دينا يُتعَبد به فيكون بدعة، كمن حرموا على أنفسهم أكل اللحوم لا لسبب طبيعي ولكن للتدين وترك الحلال، فتحريمها من هذه الوجهة بدعة، أما الزهد والتقشف وإيثار الآخرة فلا بأس به.

إن البدعة الدينية تكون في الأصول المتفق عليها، أما الفروع التي هي محل الاجتهاد وفيها خلافات للعلماء فلا ينبغي أن توصف بالبدعة، وقد قال العلماء: إن العمل المستحدث إذا استند إلى حديث ولو كان ضعيفا يخرجه عن نطاق البدعة.

الشيء الجديد الذي ينتج خيرا على المستويين الفردي أو الجماعي لا ينبغي أن نسارع إلى إطلاق اسم البدعة عليه، والحكم بأنه ضلالة وفي النار، بل يجب أن ننظر أولا إلى عدم وجود نص يمنعه، وإلى عدم وجود ضرر فيه، ويُحكم عليه بأصل الحل، وبما تقرر من أنه إذا وُجدت المصلحة فثمّ شرع الله، وإذا أُطلق اسم على هذا الشيء الجديد يشبه اسما دينيا فلننظر إلى المحتوى لا إلى القالب الذي قد يكون من باب التشبيه الذي يُقصد فيه المعنى المجازي لا الحقيقي.

 وقد غمز البعض ولمز الذين يتبعون كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) وقالوا عنهم: مقلدون! وهو أمر يدعو إلى العجب! فالتقليد المذموم هو أن يكون لبشر غير معصوم، أما اتباع نصوص كتاب رب العالمين، واتباع المعصوم (صلى الله عليه وسلم) فهو الصراط المستقيم الذي لا محيد عنه.

قال ابن درباس: وقد أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة إنهم مقلدون، وهذا خطأ منهم، بل هو بهم أليق، وبمذاهبهم أخلق؛ إذ قبلوا قول سادتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وإجماع الصحابة  فكانوا داخلين فيمن ذمهم الله تعالى بقوله: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)[الأحزاب: 67]، وقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف: 23]، ثم قال لنبيه: (قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)[الزخرف: 24]، ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وسلم): (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ).. الآية،

فبيّن تعالى أن الهدى فيما جاءت به رسله (عليهم الصلاة والسلام) وليس قول أهل الأثر في عقائدهم: إنا وجدنا آباءنا وأئمتنا والناس على الأخذ بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح من الأمة من قولهم: إنا وجدنا سادتنا وكبراءنا بسبيل؛ لأن هؤلاء نسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول وأولئك نسبوا إفكهم إلى أهل الأباطيل فازدادوا بذلك في التضليل، ألا ترى أن الله تعالى أثنى على يوسف في القرآن حيث قال: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ)[يوسف: 38] فلما كان آباؤه (عليهم السلام) أنبياء متبعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله كان اتباعه لآبائه من صفات المدح ولم يجئ فيما جاؤوا به ذِكْر الأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها فدل على ألا هدى فيها ولا رشد في واضعيها. ويقول في موضع آخر: البدعة بدعتان: محمودة ومذمومة فما وافق السنة فهو محمود، وما خالفها فهو مذموم.

وقسَّم العز بن عبدالسلام البدعة إلى خمسة أقسام كما أسلفنا: واجبة كالاشتغال بالنحو الذي به يُفهم كلام الله ورسوله؛ لأن حفظ الشريعة واجب لا يتأتى إلا بذلك. ومحرمة كالإحداث المخالف للسنة كبدع القدرية والمرجئة، ومندوبة أو مستحبة إن أريد بها وجه الله كأداء التراويح في جماعة وبناء المدارس وعقد مجالس المناظرة، ومباحة كالتوسع في المسكن والملبس والمصافحة عقب الصلاة وقد يكون بعض ذلك خلاف الأولى. وهذا التقسيم للبدعة هو الذي ثار عليه جمهور العلماء وأقروه.

من هنا لكي نؤكد الفارق بين البدعة المباحة والبدعة التي هي ضلالة يجب أن نفهم معنى البدعة في اللغة وهي الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال،

قال ابن السكيت: البدعة كل محدثة، وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفا في الذم،

وقال أبو عدنان: المبتدع: الذي يأتي أمرًا على شبه لم يكن ابتدأه إياه. وفلان بِدع في هذا الأمر، أي: أول لم يسبقه أحد.

ويقال: ما هو مني ببدع وبديع.. وأبدع وابتدع وتبدّع: أتى ببدعة. قال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)[الحديد: 27].. وبدّعه: نسبه إلى البدعة. واستبدعه: عدّه بديعا. والبديع المحدث العجيب. والبديع والمبدع وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال.

أما البدعة في الشرع: فهناك مسلكان للعلماء في تعريف البدعة في الشرع: المسلك الأول هو مسلك العز بن عبدالسلام؛ حيث اعتبر أن ما لم يفعله النبي (صلى الله عليه وسلم) بدعة، وقسمها إلى أحكام؛ حيث قال: فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهي منقسمة إلى بدعة واجبة وبدعة محرمة وبدعة مندوبة وبدعة مكروهة وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تُعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة. وأكد النووي هذا المعنى؛ حيث قال: وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون خلاف ذلك. والمسلك الثاني جعل مفهوم البدعة في الشرع أخص منه في اللغة، فجعل البدعة هي المذمومة فقط، ولم يسمّ البدع الواجبة والمندوبة والمكروهة والمباحة بدعًا كما فعل العز، وإنما اقتصر مفهوم البدعة عنده على المحرمة. وممن ذهب إلى ذلك ابن رجب الحنبلي -يرحمه الله- ويوضح هذا المعنى فيقول: والمراد بالبدعة ما أحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدل عليه فليس ببدعة وإن كان بدعة لغة.

وفي الحقيقة فإن المسلكين اتفقا على حقيقة مفهوم البدعة، وإنما الاختلاف في المدخل للوصول إلى هذا المفهوم المتفق عليه، وهو أن البدعة المذمومة التي يأثم فاعلها هي التي ليس لها أصل في الشريعة يدل عليها، وهي المرادة من قوله: (صلى الله عليه وسلم) "كل بدعة ضلالة".

وكان على هذا الفهم الواضح الصريح أئمة الفقهاء وعلماء الأمة المتبوعون، فهذا الإمام الشافعي روى البيهقي عنه أنه قال: المحدثات من الأمور ضربان: ما أُحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال، وما أُحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة. وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : ليس كل ما أبدع منهيًّا عنه، بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرا من الشرع. وقد نقل الإمام النووي -يرحمه الله- عن سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبدالسلام ذلك فقال: "قال الإمام المجمع على جلالته وتمكنه من أنواع العلوم وبراعته أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام رحمه الله ورضي عنه في آخر كتاب القواعد: البدعة مقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومباحة... إلخ. وقال كذلك في مكان آخر في حديثه عن المصافحة عقب الصلاة: "واعلم أن هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال وفرطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها.

وقال ابن الأثير: البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله (صلى الله عليه وسلم) فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب إليه وحض عليه، فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة. ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد جعل له في ذلك ثوابا فقال: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها" وقال في ضده: "ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله، ومن هذا النوع قول عمر  رضى الله عنه: "نعمت البدعة هذه" لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يسنها لهم، وإنما صلاها ليالي ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنما عمر رضى الله عنه جمع الناس عليها وندبهم إليها فبهذا سماها بدعة، وهي على الحقيقة سنة، لقوله (صلى الله عليه وسلم): "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" وقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" وعلى هذا التأويل يُحمل الحديث الآخر "كل محدثة بدعة" إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة.  

هذا والله أعلم .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply