أوقافُنا صَنعتْ جيوشاً للسِّلم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

الوقف خصيصةٌ من خصائص هذه الأمة، فالوقف في الإسلام ليس تنازلا عن مال، وإنما هو نظامٌ لِعَقْدٍ على سبيل التأبيد، فله أركانه وشروطه وواجباته ومكمِّلاتها، والوقف من أهمِّ أسباب نهضة الأمم، ومن أَجْل هذا لا نرى غرابةً في كثرة الأوقاف في العهد النبويِّ، فهذا الإمام مالكٌ -رحمه الله- حين بلغه أنَّ التابعيَّ الجليل شُريحاً القاضي كان يقول بعدم انعقاد الوقف، فقال: «رحم الله شريحاً، تكلَّم بِبِلاده -يعني الكوفة- ولم يَرِدْ المدينةَ، فَيَرَى آثار الأكابر مِن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين بعدَهم، وما حَبَّسُوا من أموالهم، وهذه صدقات رسول الله سبعةَ حوائط» أي سبعة بساتين، يشير إلى وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأمواله لتكون وَقْفاً، ففي الصحيحين: «لا يَقتَسِمْ ورثتي دينارا، ما تركتُ بعدَ نفقةِ نسائي ومؤْنَةِ عامِلي، فهو صدقة» وكانت أموالُه -صلوات ربي وسلامه عليه- مِن الفيء، ومنها ما وُهِبَ له، فقد وهبه مُخَيريق النَّضْريُّ الإسرائيليُّ -وكان يهودياً فأسلم- حيث أوصى بأمواله للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانت سبعة بساتين، وكان صلى الله عليه وسلم لا يستأثر بأموالِه لنفسه، بل كان ينفقها على أهله والمسلمين وعلى المصالح العامة.

ويؤكِّد كثرة الأوقاف في الصدر الأوَّل ما رويَ عن الصحابي الجليل جابر بن عبدالله أنه قال: «فما أعلم أحدا ذا مقدرة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار إلا حَبَسَ مالاً مِن ماله، صدقةً موقوفة» وذكر الإمام الشافعيُّ أن عدد مَن أوقفَ أكثر من ثمانين من الأنصار، وهذا سيدُنا عمر الفاروق، حَبَسَ أرضاً له بخيبر للفقراء ولذي القربى ولعتْق العبيد وللضَّيْف، وجعلَ النَّظارة على هذا الوقفِ إلى ابنته حفصة -رضي الله عنهما-، فقال: «تَلِيْهِ حفصةُ ما عاشتْ، ثم يَليه ذو الرَّأْي مِن أهلها» فكانتْ حفصةُ أوَّلَ امرأةٍ تُعيَّنُ ناظرةً على وَقْف.

وسَرْدُ أوقاف الصحابة يضيقُ عنه هذا المقال، ومن عظيم اهتمام المسلمين بالوقف، أنْ جعلوا للوقف ديوانا كبيراً -أي وزارة- منذ بداية القرن الرابع، ومن أشهر الأوقاف الخانات التي بناها عمر بن عبدالعزيز؛ ليأوي إليها المسافرون، والخانُ مكان مبيتِ المُسافرين، وهو الذي نسمِّيه اليوم الفندق، وعادةً يُبنى على الأنهار ومنابع المياه، ويُجعل على طُرُق السّفر، ليستفيد منه المسافرون، وجَعل رحمه الله من حقِّ المسافر أنْ يبيت يوماً وليلة مجّاناً، وكتب إلى عامله: (وتعهَّدوا دوابَّهم، ومَن كانت به عِلَّةٌ فأَقْرُوه -أي استضيفوه- يومين وليلتين، وإنْ كان منقطعا به -أي انقطعتْ به السُّبل- فأبْلِغْهُ بلده).

ومن الأوقاف الشهيرة: (وقفُ الطُّرَحاء) أي الذين طَرَحهم المرض، ولا مالَ لهم، لتغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم، وهو من أكثر الأوقاف نفعا كما يقول المقريزي، وهنا أُذكِّر المحسنين أنَّ فقراء المسلمين في بلاد الغرب لا يجدون ما يكفِّنون به موتاهم، فالتكلفة عاليةٌ جداً، وبعض فقراء المسلمين يبيعون ما لديهم من أثاث؛ من أجْل ألا يُدفن ميِّتُهم في مقابر فقراء غير المسلمين، حيث يوضع الجثمان في تابوتٍ مع مادَّة مِلْحيَّة لتُعجِّل بتحلُّله، ثم يُجمع بعد التحلل، ويوضع بكيس صغير، ليُحفظ في مستودعٍ للعظام.

ومن أنْبل الأوقاف، ما ذكره الرحالةُ ابن بطوطه: (مررتُ يوما ببعض أَزِقَّة دمشق، فرأيت به مملوكا صغيراً قد سقطتْ مِن يده صَحْفةٌ من الفخار الصِّيني، وهم يسمونها الصحن، فتكسَّرت، واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم: اجمع شِقَفَها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجَمَعها وذهب الرجلُ معه إليه، فأراه إياها، فدفع له ما اشْتَرَى به مثلَ ذلك الصحن).

وأما أوقاف المدارس والمستشفيات والمراكز العلمية فكثيرةٌ جدا، فكثُرَتْ المدارسُ والأربطة التي ترعَى إصلاح التعليم والبحث العلمي، ومن أشهر هذه الأربطةِ (المدرسةُ المستنصريَّة) أنشأها الخليفة العبَّاسيُّ المستنصر بالله سنة٦٣١هـ، وبناها على مساحة خمسة آلاف متر مربَّع على نهر دجلة في بغداد، تُدرَّس فيها علوم الشريعة، وعلوم اللغة وآدابها، والرياضيات والطب والصيدلة وغيرها، وأُلحق بها مستشفى كبير للتطبيب والتعليم، وفيها مِئةُ غرفة، غير المطابخ والقاعات، وبها مكتبة كبيرة، تحوي ثمانين ألف مجلَّد.

والمأمول من المحسنين وأرباب الأموال أن يَقتدوا بسلفهم الصالح، بإنشاء مؤسسات علميَّة وتعليمية وبحثيَّة، فإصلاح التعليم أعظم جيوش السِّلْم، وهو أهمُّ علينا من جيش الحرب.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply