الدفع بالتي هي أحسن


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 مقدمة:

طلب مني أصدقاء الكتابة في "العدل رغم الشنآن" والشنآن أي البغض..، قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}المائدة 8،

 وهذا موضوع هام..، ولكن عندما شرعت فيه وجدت بين يديه وعلى الطريق إليه..حفراً وحواجز؛ قلت لنفسي كيف يُطلب ممن لا يتحرى ولا يمارس "العدل دون بغض= شنآن" أن يعدل في التعامل مع من يبغضهم؟!!

ووجدت أن تلك الحواجز والحفر تبلغ عند البعض خنادق ومستنقعات، حتى ممن يعلمون وقد يتكلمون بعلمهم (وقد أشير لهم في طلب البحث).. فقلت لنفسي لا بد من تمهيد هذا الطريق أولا وجسر الفجوة بين النظرية والتطبيق..؛ وقبل "العدل رغم الشنآن"..، لابد من التحلي بـ"التقوى" ومن تحقيق "الرضا"..؛ لابد من علاج "الغضب" وتخفيف الميل الغضبي، من التواضع لله ولعباده، مقابل آفات الكبر والعجب والغرور؛ لابد من التدرب على "الاعتذار": تقديمه وقبوله، وأن نقول للناس حُسناً..؛ ومن التخالق بخلقٍ حسن..، ومن تصحيح فهمنا لأمور مثل: "الغفلة" عما يرضي الله..؛ والأهم (وهو واسطة العقد) لا بد من رفع مستوى يقيننا بخشية الله تعالى.. وبيوم القيامة!

وفي الإعداد للعدل رغم الشنآن، تلزمنا شهادة "الدفع بالتي هي أحسن" مع تدريب عملي.. (تشهد بها لنفسك).

 

ظروف الدفع بالتي هي أحسن:

طرفان وعداوة:

قال تعالى: {ولا تستوي الحسنةُ ولا السّيئةُ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم () وما يُلَقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيم} فصلت 34-35، والعداوة لها طرفان هي "بينك وبينه".. فالآية موجهة لك وله ؛وعندما تقبل النفوسُ المتعادية على كلمات الرحمن وتتمثّلها فأيّ الطرفين شرع بذلك الدفع الحسن وبأحسن ما عنده فاز بثواب المبادرة من الله تعالى و"الحظ العظيم"، لا ينقصها ذرة أن لم يستجب الطرف الآخر؛ بينما تكبر المشكلة مع قسوة القلوب، وهجر تدبر كتاب الله، في زمن طغت فيه أسباب غياب التخالق بخلق حسن! ويسوء الأمر في العداوات بين الأرحام؛ وهذا التصالح مع السيئة وأهلها ينطبق على الإساءات الشخصية العامة، وليس على محاربة العقيدة وفتنة المؤمنين عنها "فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها أو الصبر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا" كما قال صاحب الظلال.

 وإن مصدر العداوة، أو ما ساءك، قد يكون  عبوساً أو كلمة جارحة؛ وأعرف من نسي أصل الشقاق إذ تسأله بعد سنوات من قطع الرحم فتجده لا يذكر أصل المشكلة!! وقد تنبع الإساءة من طريقة الكلام من تشدق وتفيهق  أو فجور في الخصام؛ ويشتد أذاها بحضور أناس يؤلم وجودهم أو يضر بالمتخاصمين، أو لتناقل صورة غالبا غير دقيقة عما تم: (غيبة- نميمة- سخرية واستهزاء) (1)، وأسوأها البهتان والافتراء!.. وكلها من المنهي عنه بالنص القرآني أو النبوي!

 

مراحل الدفع بالتي هي أحسن:

أهمها: *مرحلة التأهّل لهذه الخصلة الكريمة الحميدة، **رحلة التطبيق:

-       مرحلة التأهّل: للتحلي بها: يلزمك الإرادة والصبر؛ وأن تتذكر أن دفع "السيئة" التي بذرت الشقاق يحتاج لأحسن ما عندك من مكارم الأخلاق: فتستعرض رصيدك منها مع نفسك، وتعمل على تزكيته، وعلى الاستزادة من ذلك "الأحسن" الذي ستدفع به السيئة. ولا أقول أنه عمل سهل ولكنه ممكن بالصبر والتواضع لما يرضي الله تعالى، وإن الكلمة القرآنية المعجزة:"ادفع" تذكّرنا بأن عملية الدفع فيها جهد ومشقة، وبقدر ما عندك من نصيب من الأداة الدافعة {التي هي أحسن} وبقدر حظّ نفسك منها ورصيدها في عملك..، بقدر نجاحك في الدفع وتحقق ثمرته بإذن الله سبحانه، وهذا من الحظ الذي يتفضل به الله تعالى على عباده المخلصين في سعيهم في كل شأن.

-       مرحلة التطبيق الموفق: وهذه أسس عملية من خلال تدبر الآيات القرآنية وهدي الحبيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:

1.    الوعي بوجود الآخر: لننجح بدايةً في رفع سوية الوعي بوجود الآخر كإنسان له قدره عند الله تعالى:

Ø    درّب نفسك على مقاومة المشاعر السلبية نحو الآخر كائنا من كان، فسوء إدراكنا لبعضنا بالمعنى الإنساني وليس المادي هو عَرَضٌ مبكر لمرض اجتماعي، من مظاهره "الإعراض"، وذروته "الكبر" وعلامته "رفض الدفع بالأحسن!" وأحدنا يدرك ويقدّر فلاناً لدرجة دفع إساءته بالأحسن، ولا يفعل تجاه زيد الذي ارتكب نفس الخطأ !فلا تتوقف عن المحاولة بحجج مثل: هذا ليس بيدي، أو: هنالك تراكمات قديمة..، أو هو السبب..، لا أمل يرجى منه..؛ فهذا من نزغ الشيطان!

Ø    ارتق بمشاعرك وتجنب مثيرات الشقاق واعمل على تأليف قلبك مع الآخرين؛ وتذكر أن الطرف الثاني إنسان له مشاعره، يخطئ فيحزن ويندم وقد يسيء التعبير عن نفسه!! وضع نفسك مكانه؛ ومن الغرابة أن البعض عندما يقال له ذلك يجيبك: أنا؟! مستحيل أن أكون مكانه فأرتكب هذا الخطأ!!.. تواضع.. فأنت بشر!!

2.    المبادرة بالمعروف: وهي من المبادرات التي تعبّر عن تحقق التأهل  بمكارم الأخلاق، ويفترض أنك امتلكت زمامها بالمرحلة الأولى، وحسنت أدواتها في نفسك: من تبسم وكلمة طيبة وإفشاء السلام..

-       فطلاقة الوجوه والابتسامة هي أبسط طلائع المعروف: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ" صحيح مسلم، والطلاقة تعدي وهي عدوى محببة فكن البادئ.. لا تصرّ على العبوس!.

-       والكلمة الطيبة: هي مما يرسم الابتسامة ويزيل وحر الصدر، وإنّ قول التي هي أحسن  هو من مفردات "الدفع بالتي هي أحسن": هو دواء للسيئة يعاكس نزغ الشيطان بل ويرغم أنف الشيطان و يحبط نزغه الذي سبق.. ومؤلم كثرة من لا يحسنون قولها لإخوانهم وأرحامهم من المسلمين، فيما يدبّـجونها لغيرهم تدبيجا! ربّاه ارحمنا؛ ولكن لماذا نبخل بقول التي هي أحسن، ونستسهل قول التي هي أسوأ؟! ألسنا عباد الله تعالى.. ونقرأ قوله {(وقلْ لـِعـِبادي يقُولوا التي هيَ أحسَن إنّ الشيطان يـَـنـْزغُ بينهم إنَّ الشّيْطانَ كان للإِنْسان عدوّاً مبيناً)}؟!  فلنراقب كلماتنا.. ولنتذكر تلك الآية الكريمة قبل أن تخرج العبارة.. أو تخط أيدينا الخاطرة أو الرسالة (ففي عصرنا صار الشجار والشقاق الكترونيا)؛ ولنتنبه لما تلاها وهو قوله تعالى: {(ربكم أعلم بكم )} كلمات تهزنا هزا من عليائه تعالى.. تكشف بخلنا بالكلمة الطيبة وتوسيع الشقاق بيننا بكلمة السوء.. سلاحا نقدمه  لعدونا ونعجب: "لماذا هذا التشرذم والانهزام..؟!!"

{ربكم أعلم بكم} هذا قول الفصل فينا.. في سرنا وجهرنا.. ونحن نتملق بقول الأحسن.. أو نتألّى بقول الأسوأ  فهلا وعينا؟!! (الإسراء 53- 54).

-       ومثلها إلقاء السلام والمصافحة وتقديم الهدية كما يعلمنا الحبيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "تهادوا تحابوا"..؛ والتزاور في غير مصلحة؛ ومن الدفع بالأحسن مع المصافحة يستحب الاستغفار لأخيك: قال الإمام النووي في كتاب فضل السلام: "ويستحبّ مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة!.." كان ذلك عاديا بالنسبة لهم ومستحباً ويدلّ على الحبّ.. اليوم إذا دعوت لأحد بالمغفرة قد تغضبه... فاجعله من دعائك بظهر الغيب!! غفر الله لنا  ولإخواننا، قال تعالى {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان}الحشر 10،

3.    العفو والصفح والمغفرة: قال تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإِنّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ} التغابن 14، فنجد في الآية ثلاثة من أهم سبل "الدفع بالتي هي أحسن" والتي صنفت فيها المؤلفات قديما وحديثا.. سبحان من ربانا وعلمنا؛ وهي تحتاج للصبر، قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}الشورى 43؛ وللتقوى ولذلك جعل الله {الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} من عباده المتقين الذين لهم جنة {عرضها السموات والأرض}والذين يحبهم تعالى بأنهم المحسنين،  آل عمران(133-134)

4.    اتقاء الله في الإخوة: الاستعانة بعقلاء عدول في الدفع:

قال عزّ من قائل: {(إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلّكم تُرْحمون} الحجرات 10، فنتدبّر ربط نبذ الشقاق بتقوى الله تعالى الدال على الإخلاص في طاعة المولى؛ وتحمل الآية دعوة  للتراحم والتكافل بين أفراد المجتمع في إصلاح ذات البين، وتحقيق "الدفع بالتي هي أحسن" من أدوات ذلك؛ وإن الربط بالتقوى مناسبة لأن نراجع أنفسنا.. أن نتقي الله في الحق والباطل.. نتقيه في الحقوق والواجبات.. نتقيه تعالى في الفتن والخلافات.. علّنا نُرْحم!!..  وما أحوجنا في هذه الأيام الصعبة إلى رحمة الله تعالى!!... "لعلكم تُرحمون".. رحماك ربنا.. سبحانك!..  

5.    احتمال وعورة النفوس لاستنقاذها من الضلال الى الهدى:

وتبرز أهمية ذلك إذا كنت ممن يدعون إلى الله تعالى من خلال الآية التي سبقت آية الأمر بالدفع، وهي قوله تعالى {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}فصلت 33، وتوقع إذ تدعو إلى الله أن يواجهك الصدّ والجحود، بفظاظة تسوءك، ولدرجة يصعب احتمالها إلا باتباع هذا التوجيه الرباني الآمر بالدفع بالتي هي أحسن، المزكي لمكارم الأخلاق عند الداعية والذي ((إنما يتقدم بالحسنة. فهو في المقام الرفيع; وغيره يتقدم بالسيئة. فهو في المكان الدون: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)) كما قال صاحب الظلال الذي اعتبر هذه الآية منهجا للدعاة..، سبحان الله وبحمده !! (2)

 

نتائج محاولة دفع السيئة بالحسنة:

-       الفشل والعلاجات:  قد يكون لأحد الطرفين مبرراته في عدم القيام بالدفع أو عدم الاستجابة له لعمق الجرح النفسي الحاصل من السيئة ابتداء، ولكن هذا يتفوق عليه أحدنا بالطاعة وتقوى الله، وهو لا يتحول لفشل إلا لأسباب منها:

-       توسيع الشقاق: وبدلاً من تطهير الجرح وتعقيمه ، يتمّ جعله يتعفّن بالجراثيم والفطور الممرضة: إما جهلا للتأخر في محاولة الدفع، أو عمدا (صب الزيت على النار) بطرق منها نشر خبر السيئة السريع والواسع بالثرثرة والتشدق (بلاء شبكات التواصل اليوم)..  مما يفشل الدفع.

-       انتشار سلوك تبادل الاتهامات محل تقديم الاعتذار وقبوله، فتجدنا نتشاكس بين الاتهام أوصدّ الاتهام..

-       الرؤية المسطحة والضيقة: لاسيما مع تضخم "الأنا"، والغريب أن صاحبها يكرر اتهام الناس أن عندهم أنا متضخمة.. وأنهم هم المخطؤون.. الذين لا يفهمون..؛ مما يفاقم السوء..

-       البغضاء: عند التعرض لكلمة سيئة.. أو تصرّف مسيء..، يبذر الشيطان بذور البغض ويترسخ العداء عندما نرويها بالتدابر والتقاطع والإصغاء لوسوسة شياطين الإنس والجن..، لذلك كان نهي الحبيب صلى الله عليه وسلم عن التباغض يتصدر وصيته التالية الشفيقة بنا من قوله (في الصحيحين عن أنس) "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله اخوانا، ولا يحل لمسلم ان يهجر اخاه فوق ثلاث" بلى.. وصلى الله عليه وسلم.. أليس هو "العزيز عليه ما عَنِتنا؟! وتلك السلبيات اليوم من أكثر أسباب العنت المجتمعي!

-       وأسباب أخرى..

ومن التدابير الوقائية والعلاجية (لتلك الأسباب وغيرها مما لم يرد):

-       التبكير في العلاج وتحرّي العلاج الصالح المصلح: في أمراض الجسم (للتقريب) أفضل علاج هو:المبكر، والفعّال:

Ø    السيئة تحتاج الى دفع، ويكفي بالبداية الدفع الرفيق بالأحسن حتى تغادرك، وحتى تدفعها عن علاقتك بالآخرين؛ مع ذلك فهذا الدفع المبكر الرفيق مثل الكلمة الطيبة والابتسامة ،قد يكون صعباً على بساطته: لأن الجرح غضّ!..

وكلنا يعبس لضيقه، (وهذا كان حتى في بيت خير الخلق صلى الله عليه وسلم)، ولكن ينبغي أن يكون له سبب وجيه، وألا يطول ويتكرر، والأفضل أن نتبعه عن قريب وليس بعد شهر أو.. دهر- بموقف ايجابي كما أمرنا حبيبنا صلى الله عليه وسلم حين قال "اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن"(3)، ودائما تجنب عدم الوضوح لأن من الذين يحتملون كآبة عبوسك حبّا وتصبّراً من هو حسّاس وشفوق ومع تكرار العبوس ودوامه تجده يبتعد أو يقاطع تجنبا لإزعاجك ،وقد يُقحم طرف ثالث في العداوة (كالطفل أو الأم أو) فيظنّ أنه معني بنفس الدرجة بعبوسك القمطرير!! بالمقابل، هنالك من تقابله بالابتسام فلا يعدم وسيلة لإقصائـِها عن محيّاك!

وعلى أيّ الطرفين أنت ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)): تذكر.. التقوى.. أيضا.. وأيضاً!!

Ø    عندما تدفع السيئة تأكد أنك تضع مكانها الأحسن: ليس بنظرك وبما يرضي الناس، ولكن بما يرضي الله لا شريك له القائل سبحانه: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} فصلت (34)، فقد يتم على سبيل المثال استرضاء الآخر بإلصاق تهمة بطرف ثالث..؛ وهذا النوع من الدفع للسيئة ولو نجح ظاهرياً، فهو يحمل بذور فساده وتلفه داخله..، ورد في باب تحريم الغيبة في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته"..

-       مواجهة الشح المعنوي: رأينا ضرورة أن ندرب أنفسنا على المبادرة بالبشاشة، وعلى أن نقول خيرا أو لنصمت.. لاسيما ويشيع اليوم ودون مبرر حقيقي أن يكون المرء من البخلاء بالقطر البشري، شحيحا بالابتسامة.. ضنيناً بالكلمة الطيبة.. وبالتي هي أحسن على أي وجه من الوجوه؛ ولا يخلو أحدنا من الإساءة فاعلا أو منفعلا، ويأتي الشح العاطفي المعنوي فيعيق الإصلاح ويُفشل الدفع بالتي هي أحسن.. فإذا أصابك هذا المرض فمن أنجع العلاجات التي نتعلمها من كتاب الله تعالى: الدواء ببذل ضد الداء، كما أن العطش بشرب الماء، وضربة الشمس بالابتراد، فالشح يعالج بالإحسان.. وليس بالعطاء المقنن! ولا بمجرد العطاء، قال تعالى: {وأحضرت الأنفس الشحّ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}النساء 128، وقد يبدو عجيبا علاج البخل والشحّ المعنوي بالإحسان! بلى فهذا هو العلاج من فوق سبع سموات، وتلك وصفة الخبير بالنفوس البشرية جلّ شأنه الذي يرقب تطبيقكم لها بأنه الخبير بما تعملون سبحانه.. فاحذروا الزيغ والإقامة على الشح؛ وهذا صعب على النفس الشحيحة.. لذلك اشترطت الآية لتحقيقه التحلي بــالإحسان وبتقوى الله تعالى؛ والأمر متكامل، فالنّجاح في التغلب على الشحّ والدفع بالتي هي أحسن يزيدك تقى، كما أنّ الإحسان والدفع بالأحسن هي وقاية من الشحّ المستقبلي، فهي خصال إيمانية خيّرة تتقوى ببعضها، اللهم اجعلنا محسنين.. لنقترب من تقواك.

-       الصبر والتكرار ،مع تغيير الأساليب ورفع قوة الدفع: وهذه بعض المعالم الهادية:

Ø    البحث عن جذور المشكلة والقيام بالدفع بما يكافئها في الشدة، ويناسبها زمانا ومكانا، سرا أوعلنا ؛وكل يبتكر أسلوبا يناسب مشكلته: ورد في في جامع العلوم لابن رجب: قال أحد التابعين: "إذا أسأت سيئة في سريرة فأحسن حسنة في سريرة، وإذا أسأت سيئة في علانية فأحسن حسنة في علانية لكي تكون هذه بتلك"( 4 )...

Ø    رفع درجة الجهد النفسي المبذول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صِلْ من قطعَك، وأحسنْ إلى من أساء إليك، وقلْ الحقّ ولو على نفسك" صحيح الجامع (37 ) تلك الكلمات ليست قولا مأثورا.. هي حديث نبوي صحيح! ويحتاج إلى عزيمة.. فكيف عزيمتكم.. (أعيدوا قراءته كلمة كلمة) لا أنكر أنه من أصعب التطبيقات، لكن مما يمكنك من وصايا الحبيب تلك وأمثالها ،ويبلغ بقوة الدفع بالأحسن أقصاها: استحضار خشية الله تعالى واليقين باليوم الآخر في حياتنا الاجتماعية، ليس قولا، بل يقيناً يُلمس أثره في واقعنا:

- فمثلا من معالم الأخوّة الحقيقية التي نفتقدها اليوم.. وقلَّ من يطبقها: معلم نجده في قول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَن رَدَّ عِن عِرضِ أخِيهِ، رَدَّ اللهُ عَن وجْهِهِ النارَ يومَ القِيامةِ)) صحيح، وبهذا "الردّ" تتجنب فشل الدفع بالتي هي أحسن، وتقي وجهك من النار، حتى لو بينكما عداوة كما بين الضرائر، ورحم الله أم المؤمنين زينب بنت جحش التي قالت في دفع الإفك عن عائشة رضي الله عنهما: "يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا" قالت عائشة: "فعصمها الله بالورع"؛ ومؤسف افتقارنا لتلك السلوكيات، على عظم أجرها عند الله، وأكثرنا اليوم يتقن الكلام ثم الكلام.. وقلة منا يتعبّد الله بتطبيق الحديث الشريف فيكون ممن"رَدَّ عن عِرضِ أخِيهِ!"

- عود على بدء:

قهر الذات على معالجة عيوبها التي مرّ بعضها كأسباب للفشل (الكبر ،وتبادل الاتهامات، والبغضاء، والثرثرة) والتي لشدة ضررها أرانا نبينا صلى الله عليه وسلم صورة منفرة لأصحابها يوم القيامة حين قال: "إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا ، وإنَّ مِن أبغضِكُم إليَّ وأبعدِكُم منِّي يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ والمتشدِّقونَ والمتفَيهِقونَ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، قد علِمنا الثَّرثارينَ والمتشدِّقينَ فما المتفَيهقونَ؟ قالَ: المتَكَبِّرونَ" صحيح الترمذي؛ وفي موضوعنا فإنّ الكبر يجعل البعض في عليائه لا يرى إلا نفسه.. لا يتنازل.. لسماع عبارتك.. أو التعليق عليها، وإذا أعدت محاولة الدفع بالتي هي أحسن تحدوك طاعة لله تعالى، تمعّر وجهه وهو يلفظ كلمات استصغار..، ناهيك عن أن يبادر لقول الكلمة الطيبة، ومنهم من يدّعي حب الحبيب وهو من أبغض أهل الإسلام له صلى الله عليه وسلم وأبعدهم عنه يوم القيامة.. أصلح الله النفوس! فما أشدّها من عقوبة..، وتنبه أنك حتى تتخلص منها تحلّ محلّها  ما يجعلك الأحبّ والأقرب مجلسا لرسولنا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.. فهلمّ..

 

وفي الختام (هام.. كيلا تحزن):

من واقعية الإسلام وعلمه بالنفوس أنه وقد فتح لنا مائة باب وباب للمودة والتصالح.. لنحبّ بعضنا ونتواصل.. لرأب الصدع ودفع العداوة، أخبرنا كيلا نتعس بأنه يبقى فينا ومنا من يحملون قدراً من الغلّ في صدورهم لإخوانهم لا يتخلصون منه.. حتى ينتزعه الله تعالى منهم في الجنة والمؤمنون على سرر متقابلين، يقول عزّ من قائل: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سُرُرٍ متقابلين}(الحجر47).. ولكنه تعالى ربانا إلى ذلك على عدم السماح لمشاعرنا أن تحرف أخلاقنا حين قال يأمرنا: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} المائدة 8، هذه الموازنة شديدة الدقة.. يجب أن ننتبه لها مع كل من نتعايش معه في هذه الدنيا، وتأمل كيف أن ضمانتها التقوى، ثم تذكر أنك رابح على كل حال عندما تدفع بالتي هي أحسن، فحتى لو لم تذق جنى ذلك في الدنيا ولم يتحول العدو إلى "وليّ حميم" لحكمة أرادها الله تعالى، فهو سبحانه يربيها لك -تلك الطاعة- أعظم ثوابا في الآخرة بما لا يُقاس ولا تدركه حواس بشر!

 وأنهي بهذا القول لابن الجوزي: "ما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فالناس مجبولون على الزلات والأخطاء فإن اهتمّ المرء بكل زلة و خطيئة تعب وأتعب"،

وأضيف لكلامه: ولم يسارع لدفعها بالتي هي أحسن طاعة للمولى سبحانه وطلباً لرضاه، فيكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه(5)؛ الحمد لله

الهوامش:

1)    والهزء من أسباب العداوة التي لا نلقي لها بالا على شدة سوئها، وانظر كتابي السخرية والاستهزاء في الميزان التربوي والأخلاقي دار الفكر.

2)    في ظلال القرآن. وهذا يذكرنا بأولي العزم من الرسل، وانظر: مقالي :أدب الكلمة وقوة البرهان (الخليل) على هذا الرابط http://www.alukah.net/culture/0/77978

3)    حديث (وأتبع السيئة الحسنة) رواه الترمذي وقال حسن، وهو عن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وروى  البراء بن عازب  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا}.

4)    جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، لابن رجب الحنبلي البغدادي المكتبة العصرية صيدا-بيروت :1423=2002 (ص 163)

5)    أكثر تلك المفردات الإيمانية (الرضا-التقوى- الصفح-العفو والمغفرة) هنالك كتابات فيها وتصانيف لعلماء أفاضل، ولي في بعضها كتابات منشورة أو مخطوطة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply