هدية الشيخ عبدالله محمد الغذامي


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

كنت صغيراً لم أبلغ السادسة بعد، وكان الوقت ما قبل الغروب حيث جلست على عتبة الباب وحيداً أهجس بهواجس طفل صغير، وأعرف أن الشيخ سيأتي بعد قليل، وها هو يجيء ويبتسم في وجهي كعادته ويدخل يده في جيبه وهذا ما كنت أنتظره ويخرج شيئاً أحمر مدوراً له رائحة لاأعرفها ولكنها قوية وزكية، لم أعرف هذهالهدية ولم أر شكلها من قبل ولا أدري ما هي، ولكني جربت أن أقضم منها قضمة فوجدتها طيبة الطعم وحلوة وغضة، فأخذتها للبيت ودسستها وظللت أتردد عليها يومين أخاتل الوقت بعيداً عن أهلي الذين لم أخبرهم بهدية الشيخ، وظل الطعم الزكي يرن في ذهني وأحلم به متمنياً تكراره، ومرت السنين، حتى إذا ما كبرت علمت أن تلك كانت تفاحة، وقد أهداني إياها الشيخ عبدالرحمن السعدي، جارنا الذي تعودت على رؤيته كل مساء حيث أعطاني اليوم هذه الأعطية العجيبة، لم نكن نعرف هذا التفاح في عنيزة، كان عندنا تفاح أخضر صغير اللون فيه بعض حموضة، وهو تفاحنا، وحينما عرفنا أنواعاً من التفاح صرنا نسمي تفاحنا الأخضر بالتفاح البلدي تمييزاً له عن التفاحات الأخرى ذوات الألوان والمذاقات.

كنت أجلس كل مساء على عتبة بيتنا في موعد ثابت مع جارنا الشيخ السعدي الذي كان يخرج قبل أذان المغرب متجهاً للجامع، وهناك له مواعيد مع كل أطفال الحارة، حيث نجد منه الابتسامة وبعض الأعطيات، وكان في الغالب يعطينا نوعاً من الحلاوة لا يخلو منها جيبه أبداً، وكلما مر على أطفال مازحهم وتلطف بالحديث معهم وقبل الانصراف يدخل يده في جيبه ويوزع الحلوى عليهم، وكنا نترصد المواقع في طريقه كلما تاقت نفوسنا لشيء من الحلوى، كانت الحياة في ذلك الوقت شحيحة وكل شيء نادراً، ولذا فإن قطعة الحلوى ستكون عيداً لا مثيل له لنا كأطفال، ولكن التفاحة شيء آخر، شيء لم يكن ليخطر على بال وليس في حسبان الخيال ولا في أقصى تصوراته، ومازلت أجهل كيف جاء ذلك التفاح إلى الشيخ، وإن كنت سمعت أن من عادة أهالي عنيزة أن المسافر منهم كان يحرص على مهادات الشيخ حين عودته من سفره ويحرص على أجمل هدية وأظرفها، ولعل أحداً من وجهاء البلد قد أحضر تفاحاً من خارج عنيزة وأعطى الشيخ منه، وعمم الشيخ الهدية على الجميع - كما هي عادته -.

لم تكن تلك قصتي الوحيدة مع الشيخ، ففي عام 1373(1953) جاء عنيزة مطر وفير، والسنوات المطيرة يسمونها سنوات الربيع، ولا يكون الربيع إذا لم يكن مطر، والربيع ليس موسماً سنوياً بقدر ما هو مسمى لسنوات الخير، وفي ذلك العام كثر الخير فصار الناس يخرجون البقر من البيوت إلى المراعي، وهي عادة لا تكون إلا مع وفرة الربيع، حيث تخرج الأبقار، بينما المعتاد هو خروج الأغنام مع بقاء البقر في البيوت، خرجت بقرتنا مثل غيرها من بقرات الجيران، ويأخذهن راع يجمعهن من البيوت صباحاً، ويعيدهن مع المساء حيث لا يستطيع الراعي إيصال البقرة إلى حد باب بيتنا، ويتطلب الأمر مني أن أخرج مسافة إلى رأس الشارع كي استلم بقرتنا من بين سائر البقرات، ثم أقودها عبر الزقاق الصغير المتعرج، وهي مهمة صعبة على طفل في السابعة من عمره وذي جسد ضئيل وقليل وهي بقرة جموح وعنيدة وشرسة، وكنت أعاني معها ولولا ضيق الشارع وتقارب الجدران وعدم وجود منافذ جانبية لولا ذلك لفرت البقرة مني ولا شك، وبينما كنت في عنت مع البقرة إذا بالشيخ يطل مبتسماً عليه المشلح وتفوح منه رائحة دهن العود، وهنا يأتي إلي ويمسك برقبة البقرة ويقودها معي وهو يمازحني إذ تغلبني بقرة، ويعود معي كل المسافة، وقد كان في طريقه إلى الجامع، ولكنه يعود معي إلى حد البيت، ويدفع بجسد البقرة إلى أن صارت في الداخل، ثم يطلقها وقد أخذ بيدي ووضعها على رقبة البقرة ثم يقول لي: قل لأهلك إنك أنت الذي أحضرت البقرة، وقد امتلأت عزة وفخاراً حينما راحت أمي تمتدحني ظناً منها أنني صادق حينما قلت لها إنني قد أحضرت البقرة بنفسي ورحت استعرض بطولاتي وقوتي مدعياً عنترية لم أكن أملكها، ولم أكتشف سر مساعدة الشيخ لي التي صارت موعداً يومياً لمدة زادت على شهر، وأنا مع الشيخ في لعبة مع البقرة، وكان سني أصغر من أن أدرك أن الشيخ السعدي هو واحد من أكبر علماء الأمة الإسلامية فقهاً وعقلية، ولكنه كان بالنسبة لي في تلك السن صديقاً وعماً ومصدر فرح لنا معه موعد كل مساء، أوله الحلوى وليست التفاحة آخره.

كان بعض أقراني مرة يلعبون الكورة، وكنا نسميها في ذلك الوقت (الطابة) ومر عليهم الشيخ وراح يلامس الكرة بقدمه معهم ويسألهم عن قواعد اللعب، ثم مد يده كعادته إلى جيبه وأخذ في توزيع الحلوى، ولم أكن معهم لحظتها، وجئت وقد فرغ الشيخ من مهمته المعهودة، وانصرف، لكنه بعد انصرافه التفت على غير عادة منه، إذ كنا نعرف أنه إذا سار لا يلتفت، لكنه التفت في تلك المرة ليراني ويقول لي أين أنت يا عبدالله.. لماذا لم تلعب معهم كورة، ومد يده وأعطاني نصيبي من الحلوى، وقد كنت أحسست بحسرة قبل ذلك على منظر أقراني يمضغون ويسيلون لعابي دون أمل من كرم أحدهم عليَّ، وقف الشيخ وأعطاني، ثم التفت إلى الجميع وقال: لو كنت في سنكم للعبت مثلكم ولكن أنا شايب يا عيالي، ثم انصرف ومشى، وبعد أن مضى قررنا يومها أن نذهب إلى الصلاة معه في الجامع ولم نكن نفعل ذلك من قبل، ولقد صارت تلك عادتنا كل مغرب حيث نسير خلفه ثم نراه يتقاصر في مشيته لكي نقترن مع مشيته، ويظل يلاطفنا ويتقبل منا كلامنا على سذاجة ما عندنا من كلام.

وكبرت لأعرف أن الشيخ كان أباً وصديقاً للجميع، وإن مرت سنون لا أعرف أن تلك الحمراء الغضة ذات الرائحة الزكية كانت تفاحة، فإن مزيداً من السنين والتعلم كشفت لي أن التفاحة رمز المعرفة. تلك هي هدية الشيخ، وفي

المقال القادم مزيد حديث عن ذكريات طفل مع الشيخ عبدالرحمن السعدي - رحمه الله -.


 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply