رعاية اليتامى


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

أراد الله تعالى للمجتمع المسلم أن يكون مجتمعًا قويًّا مترابطًا، تسُود بين أفراده قيمُ المودَّة والتَّراحم والتَّعاطف، وتُرعى فيه الحقوق، وينتفي عنه الظلمُ والإهمال والعقوق، واليتيم هو جزء من هذا المجتمع، ومن حقِّه وحقِّ أبيه الذي خلَّفه وراءه صغيرًا محتاجًا أن يَحظى بالرِّعَاية والعِنَاية، سواء كان ذلك من الأفراد أو من الهيئات والمؤسسات؛ لأنَّ في صلاحه ضمانةً لصلاح مكوِّن من مكوِّنات المجتمع المسلم؛ ولذلك اهتمَّ الإسلام باليتيم اهتمامًا بالغًا، فأمر الله تعالى بالإحسان إليه وإكرامه، وقَرَن ذلك بعبادته وعدم الإشراك به؛ فقال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ﴾ [النساء: 36]، وقال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ [البقرة: 220].

وبعد أن امتنَّ الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بالرعاية والعناية حال يُتمِه، أمَرَه أن يكرم اليتيم ولا يستذله ولا يستضعفه، فقال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9].

ولذلك أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم برعاية اليتيم والاعتناء بشأنه، وبشَّر كافله والقائمَ بشؤونه بقرب منزلته من منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنَّة، حضًّا وترغيبًا لأهل الإيمان على المسارَعة والتنافس على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أنا وكافل اليَتيم في الجنَّة هكذا))، وقال بإصبعَيه: السبابة والوسطى[1].

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ رعاية اليَتيم ورحمته والتلطُّف به والعناية بشأنه هو دواء وعلاج لمن يشكو من قسوة قلبه، فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه قَسوة قلبه، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((امسح رأسَ اليتيم، وأطعمِ المسكين))[2].

وحذر الله تعالى من إهانة اليتيم وإذلاله أشد التحذير، مع الزجر عن ذلك؛ فقال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴾ [الفجر: 17]، بل جعل قهر اليتيم وظلمه وعدم الإحسان إليه[3] صفةً من صفات أولئك الذين يُكذِّبون بيوم الجزاء والحساب؛ تنفيرًا للمؤمنين من هذه الصفة القبيحة الذميمة، فقال تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾ [الماعون: 1، 2].

كما حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من تضييع حقِّ اليتيم، وإهانته والنَّيل منه، وجعل الإثم والحرج على مَن فعل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ إني أُحرِّج[4] حق الضعيفين: اليتيم والمرأة))[5].

وقد حرم الله تعالى كذلك أكل أموال اليتامى والتعدِّيَ عليها، وشبَّه من يفعل ذلك من الأوصياء ظلمًا وعدوانًا بالذي يأكل نارًا تستقر في بطنه في الدنيا، ثم يوم القيامة يذيقهم الله أشد العذاب بما كانوا يأكلون، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].

أمَّا إن كان الأخذ من مال اليتيم للمصلَحة والنفع، أو من أجل التثمير والتنمية، أو لإنفاقه في مصالحه وحاجاته، أو لحاجة وصيِّه وفقره لاستمرار رعايته، فإنَّ ذلك كلَّه ليس من قبيل أكل أموال اليتامى ظُلمًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ [الأنعام: 152]، وقال: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 6].

وقد أمر الله تعالى الأوصياء بردِّ المال لليتامى حالما رأوهم قادِرين على حفظه وتنميته وإدارته، فقال تعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [النساء: 6].

وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ أكل مال اليتيم من الكبائر المُهلكة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال: ((الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات))[6].

فاللهَ اللهَ في اليتيم أن يُهان أو يُستذلَّ أو يُؤكل مالُه؛ ولذلك لا بدَّ أن يُختار لليتامى أوصياء أتقياء، يخافون الله تعالى ويَرعون حقه في اليتامى، فلا يُهينونهم، ولا يتسلَّطُون على أموالهم، فإن لم يكن هناك قريب يصلح للوصاية، فعلى الدولة أن تقوم بالرعاية والعناية والمحافظة على اليتامى وعلى أموالهم؛ وذلك عن طريق دُور رعاية الأيتام التي ينبغي أن تُقام لهذا القصد.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

[1] أخرجه البخاري في الأدب برقم: 5659.

[2] أخرجه أحمد في المسند (2/ 263) برقم: 7566؛ وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 237) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح؛ وكذا ذكره الهيثمي في المجمع (8/ 293)؛ وقد حسَّنه ابن حجر في الفتح (11/ 151).

[3] انظر: تفسير ابن كثير (8/ 493).

[4] أي: أضيِّقه وأحرِّمه على مَن ظلمهما؛ انظر: النهاية في غريب الحديث (1: 397).

[5] أخرجه أحمد في المسند (2/ 439) برقم: 9664، والنسائي في السنن الكبرى (8/ 254) برقم: 9104، وابن ماجه في الأدب برقم: 3678، وابن حبان (12/ 376) برقم: 5565، والحاكم في المستدرك (1/ 131) برقم: 211، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

[6] أخرجه البخاري في الوصايا 6465؛ ومسلم في الإيمان برقم: 89.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply