كلمات في وسطية الفرد والأمة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

مقدمة:

خلق الله تعالى الإنسان وفطره على التوسط في كل شأن، وبما أن الإسلام دين الفطرة السليمة وهو الدين الوحيد الذي يغطي بتشريعاته كليات وجزئيات حياة الإنسان، فالمسلم الحقّ هو أبعد ما يكون عن التطرف في دينه وفي نظام حياته ، قال الله تعالى:{كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}البقرة 143، وقال تعالى{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة 185،

والوسط بالمعنى اللغوي والمعنى القرآني: الخيار والأجود والأعدل، وكذلك من معانيه الاعتدال والتوسط في الأمور والأحوال دون إفراط ولا تفريط؛ قال الشيخ السعدي الموفّق للجمع بين التفسير والتدبر"أمة وسطاً أي عدلاً خياراً، وماعدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر" (1)،

وعليه فالنقيض الحدّي للوسط: هو الأسوأ، والظلم ،والتطرف ويسبقها مراحل متدرجة بالبعد عن الوسط؛ وهذه كلمات تفاعلية في الوسطية للقارئ العادي (*) من خلال التفكر والتدبر في القرآن الكريم والسنة النبوية ، لنحافظ على وسطية الأمة وخيريتها ..

الوسطية .. لماذا؟!:

إن نتائج التطرف السيئة هي التي تجعلك تبحث عن أسباب غياب الوسطية وكيفية استعادتها حسب درجة بعدك عن المنابع الصافية وقربك من أدعياء تجفيفها كمراقب حيادي أو إنسان مستهدف! وبينما نغترف لاستعادتها من تلك المنابع مباشرة ، فإن الناس بين الوسطية والتطرف ثلاثة: إما مسوّق لبضاعته المزجاة فكريا والمنحرفة عمليا ليستميل ويستقطب بعد أن يُضِلّ ويصدّ ! وهذا ليس مجال بحثنا؛ أو فيه تطرف يؤدي لتطرفٍ مغايرٍ ربما ،فهو طاردٌ بالنبذ الفكري أو العاطفي وغالباً دون قصد؛ والثالث هو المستهدَف بأفكار وممارسات هؤلاء وأولئك : تجذبه لها بلطف أو تدفعه بعنف لتقصيه عن الوسطية، وكل منا قد يكونه؛ وليس شرطا لإدراك العلاقة بين الحق والوسطية أن تكون عالماً متعمقا ولكن من المعلوم أننا إذ نتبع الحق نتوسط ، ويعين أحدنا على التبصّر أمور منها:

-       حيثما كنت يفيدك تقوية الإيمان بالله تعالى والعيش مع آياته وسير الأنبياء والصحابة ، وإذا لوحِقْتَ بأفكارٍ غريبةٍ وجدت أنك تقهرُ نفسك لتقبّلها عملياً ، أو ممارساتٍ محيّرة قد تخلط الحرام بالحلال، لا تستنكف عن البحث وسؤال الأعلم والأخبر ..والأتقى ؛ ومع الوقت ستنمو لديك مقدرة على الإحاطة.. والتمييز.. والنخل، وستملك حاسة تُـنفّرك من شذوذ البعد عن التوسط السليم العدل (وهو وعاء الصراط المستقيم).

-       وستجد أنه بالنسبة لأي إنسانٍ عادي :البديهي هو الوسط والميل للتوسّط ،وأن التطرف يتكلفه المرء تكلّفا.. وهو ما يبرز عند "المسلم العادي" ولأجله تنفتح القلوب للإسلام، ذلك أنه وبنفس الأهمية: كما أنزل ربنا علينا تشريعه يهدينا إلى صراطه المستقيم  فقد جعلنا تعالى وفقه أمة وسطا وأمرنا بالوسطية، قال سبحانه: {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ  وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ  وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ  وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ  وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ  اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ  اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}الشورى15؛ وبتدبر الآية (2) تجد الاستقامة تحقق الوسطية، كما أن الوسطية لازمة لاستمرارنا على الاستقامة والعدل المترتب عليها، وكن على ثقة أن الوسطية تضمن حقوقك حتى الفتيل، وكل انحراف عنها باتّباع الأهواء عموما وهوى الشيطان وشياطين الإنس خصوصا، ينتهي للتشتت إلى أطراف شاردة، غير منضبطة بقانون يحميها ويحمي الآخرين حولها من عدوانها.. وتذكر أن ذلك كان أول ما تربصه بنا الشيطان: {قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم}الأعراف 16! وعلى أرض الواقع أول ضحايا المغررين المموِّهين لجهلهم بالتعالم والغافلين تبعا للأهواء، هو "العدل"! وهو أحد دلالات "الوسط" كما مرّ، والذي أُمرنا به اتّباعاً لنبينا في قوله تعالى {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}!

-       وتجد كذلك أنه كما دعانا ربنا للاعتدال والوسطية في العلاقة بين الجسم والنفس وعدم المبالغة في شأن أحدها على حساب الآخر باعتبارها ثنائية متداخلة ووحدة لا تنفصم ، فإنه سبحانه جعل التوسط سمة لصحة كل منهما منفردا ، وذلك مع إعطاء الروح حقها لأنها تقود الإثنين لما يُرضي الله تعالى القائل{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات 56؛ ويلزم اليقين بفعالية التوسط لحصول الشفاء في طب الجسم والنفس والروح، قال تعالى{وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.

الثابت والمتغير في الوسطية:

تنتمي"الوسطية" إلى"الكلمة الطيبة" التي{أصلها ثابت وفرعها في السماء}ابراهيم 24 ؛ فهي مثلها في الثبات والنمو كصفة تميّز الأمة (3)؛ ووسطية الإسلام من أسرار ميل القلوب للدخول فيه، وهو ما يجعل أعداء الله يسعون لانتزاعها منه ووسمه بنقيضها ولو بالقوة! ومقابل التوسط في الشرعة الربانية، هنالك التناقض فيما وضعه البشر، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} النساء 82؛ فاليقين بهذه الآية هام جدا لأن التناقض لدرجة التطرف المنسوب للمسلمين هو من خارج الإسلام ومصادر التشريع فيه، وقد يرجع التناقض والتطرف لعدم التدبّر لكلام الله وسنة رسوله أو لتدبر خاطئ، قال تعالى {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ()مستكبرين به سامراً تهجرون () أفلم يدّبروا القول أم جاءهم ما لم يأتِ آباءهم الأولين} سورة المؤمنون 66-68، ومن النكوص على الأعقاب القول في آيات الله ما لا يصح.. ولا يصلح.. وهو معنى قول الهجْر في الآية في أكثر التفاسير؛ ومن يصدق النيّة لا بدّ أن يُنْجه الله تعالى بسلامة الفطرة والبحث عن الحقائق في مظانّها والتعلم من الخطأ، ثم يوفقه لمدّ العون لآخرين أرهقتهم شبهات التطرف..

والموضوع اليوم يبحث غالبا من زاوية: التطرف وعلاجه بالوسطية، ولكن الأدقّ أنّ الوسطية هي الأصل (وليست مجرد علاج) وأنّ التطرف هو تغيير مذموم للثوابت:

 *] إما باتجاه النهاية الطرفية الموسومة بالعصيان والفسق وأضرابها ، ومحاربة الدين جهرا (من العصيان إلى الإلحاد) .

**] أو التطرف باتجاه التشدد في الدين و"لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ" أو محاربته سرا (النفاق)، وفي الصحيح أنّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ" رواه البخاري.

 فكلا الاتجاهين تعسير ونبذ والضغط على الناس باتجاه أحدهما بشدة قد يؤدي لرد فعل معاكس أشد تطرفا! وقد يكون التطرف الثاني أسوأ ويلزم علاجه بحزم ، بينما كان الأهم والأجدى الوقاية منه ابتداء، وهذه بعض سُبُل الوقاية:

تحذيرات ونصائح لحفظ الوسطية:

ذلك أننا إذ نحفظها تحفظنا على الحق ولا تُذِلّنا لباطل؛ أما جعلك مظلوما أو مفتونا، خاويا من المبادئ أو منحرفا عنها: باسم الدين المتشدد، أو بدعوى الوسطية المتساهلة ، فهو عين التطرف! 

-       نذكّر أولا أن الوسطية لا تعني الكثرة، وفي مجتمع ما قد يكون الأكثرية أو الجميع متطرفون بعيدا عن الفطرة السليمة في نمط الحياة وطاعة رب العباد ،ومن الأمثلة القرآنية المعروفة قوم لوط؛ والمثال النبوي عن مجتمع السوء لـ"قاتل المائة"في الحديث الصحيح المعروف.

-       ثانيا تجنب الحروف الحادة:حسب مكانك من المشهد قد تنخدع بمن تبهرك عبادتهم وتبتعد عن الوسطية المحمودة باتباعهم! لاسيما وأنت لم تُحِط بالمشهد كاملا، لتفاجأ أنهم يعبدون الله على حرف! قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(11)الحج، آية من دلالاتها الإشارة إلى الفتن الفكرية وأربابها وتقول لكل منا: احذر أن تتبع من يعبدون الله على حرف فإن انقلبوا في الهاوية انقلبت معهم!في الأرض متسعٌ ..فاعبده بعيدا عن الحرف وتذكر أن ذلك من الخسران المبين !! وأن عبادة الله تعالى بعيدا عن الحرف يدعمنا في الثبات على وسطية أمتنا في رحلة الإيمان وطاعة الله ربنا ،ويضمن لنا ولمجتمعنا الأمن والنجاة من مزالق الكفر والنفاق والإلحاد ؛ تلك الموصلة إلى ثقب أسود يبتلع الشاردين؛ هي آية  تدعونا للإحاطة بالمشهد من علٍ .. لنتيقّن أن ذلك الحرف يشرف على هاوية ..!!                                 

-       ثالثا تجنب الرتع في الحمى والحدود.. فخط الحدود وهو بعيد عن الوسط يكون عادة دقيقا لا يَـحْسن الاقتراب منه لأفراد فما بالك بفئات تتخذه موئلا !!والمسلم مأمور بتجنب الشرود للأطراف لينجو من الوقوع في المنطقة المحرمة الفاصلة بين الحرام والحلال (الحمى) ،هو قانون عام له شواهد منها الحديث الصحيح: عن النعـمان بن بشير رضي الله عـنهما قـال: سمعـت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بين ،وإن الحـرام بين ، وبينهما أمـور مشتبهات لا يعـلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرضه، ومن وقع في الشبهات وقـع في الحرام، كـالراعي يـرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجـسد مضغة إذا صلحـت صلح الجسد كله، وإذا فـسـدت فـسـد الجسـد كـلـه، ألا وهي الـقـلب" رواه البخاري ومسلم.

-       رابعا تجنب الذين يتسللون لِواذاً بعيدا عن الجماعة الوسط ولو لاحت لك معهم مغريات الدنيا أو الدين، فهي سراب؛ واحذر الانخراط في خلافهم الموصل للباطل ،هم كالذين {اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار} ثم قال تعالى فيهم {إن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاقٍ بعيد} البقرة175-176، وفُسّر الشقاق البعيد: أنه الخلاف والنزاع بعيدا عن الحق ! فالتمس الحق لتنجو مع القرآن الكريم وسيرة الحبيب وسنته صلى الله عليه وسلم وعلمائنا الأخيار.

-       خامسا: لا تتطرف مع الآخرين فيتطرفوا، وتجنب الغلوّ في الأمر والنهي، ولو في حدود التعامل اليومي وحتى ولو لم يكن التطرف لك فكرا ؛ إذ التطرف يولد التطرف وكلاهما مرض مهدّد للفرد والمجتمع ،خاصة مع من أنت مستأمن عليهم فكلكم راعٍ، أو كنت قدوة لهم (الأهل والمربين) فيتطرفوا في التعامل والفكر سواء: مثلك أو عكسك كرد فعل ؛ وتنبّه لدقائق الأمور مثل الإعراض ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبل بوجهه على محدثه ! والكبر بدرجاته من دواعي  التطرف فلا توارب وجهك كبرا على المتعلم ،أو على المتكلم وأنصت لما يقول إن كنت تحب أن تهديه ؛ وتجنب كقدوة ما يجعلك تبدو متطرفا دون قصد منك مثل :التفريط في الأحسن والإفراط في الأسوأ ، ومثل الغفلة والرّان على القلب،.. والمزيد من موانع التوسط ؛وراقب نفسك فهم يراقبونك كمربٍ قدوة !مستعيدا فطرتك النقية التي فطرك الله عليها من خلال وضوح الشرعة والمنهاج .. مقتديا بخيرة خلقه صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ؛ وهذا يخرج بنا للعنوان التالي:

التوسط كأفراد:

لإنجاح النصائح العامة نحو الحفاظ على وسطيتنا، لا بدّ من العمل الفعّال على دعائم، أوجز منها:

- اتباع الفطرة في عبادة وطاعة من فطرنا:حب الله:  وأول دليل لتحقق سلامة الفطرة: عبادة الله وحده وهذا مضمون دعوة الرسل الذين جاؤوا بالحكمة والموعظة الحسنة وعدم اتباع الأنداد ولو أعجبك قولهم ومظهرهم وسدّوا فراغا عاطفيا في نفسك ، وقد يدخل الشيطان على المرء من باب الأخوة في الله أو طاعة من وليته أمرك! في التنظير والتشريع ،والتحريم والتحليل،..، لدرجة حبهم"كحب الله" وما يحمله ذلك من إخلال بالعهد في قوله تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم مِنْ ظهورهم ذريّتهم وأشْهدهُم على أنْفُسهم ألسْتُ بربّكم قالوا بلى شهِدْنا أن تقولوا يوم القيامةِ إنّا كُنّا عنْ هذا غافلين} الأعراف 172، ونكوص عن حمل الأمانة في قوله تعالى {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يَحْملنها وأشفَقْن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوما جهولا}سورة الأحزاب 72؛ وإذا كان يدهش البعض كم يبذل أصحاب المبادئ الفاسدة باختلاف المكان والزمان وكم يحتملون لنصر مبادئهم.. فإن عقدنا المقارنات معهم وأنهم الأقوى وقد يُقال الأحسن.. الخ.. هي حالة متطرفة بذل عدوّنا الكثير لنبلغها (بعد أن  زرعهم بيننا)، كما قدّمنا الكثير من التنازلات نحوها.. لنتقاصر في المحصلة أمام قاماتهم أقزاما؛ بينما وعلى النقيض من ذلك .. نجد الله سبحانه يذكرنا بأننا الأقوى بحبه وحده ، وكأن رب العباد يرفع معنويات المؤمنين حتى مع ميلنا أفراداً عن الوسط إفراطا أوتفريطا فكيف ذلك؟!! قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوة لله جميعا}البقرة 165!! فالله تعالى يبشرنا أن الذين آمنوا وهم أشدّ حبا لله، لا يتخذون من دونه أندادا، ولأن {القوة لله جميعا} فالأشد حباً لله هم الأقوى والأقوم.. وهم يمثلون مجتمعين الأمة الوسط.. ومن جميل ما قرأت قول ابن تيمية أن هذه الآية تُثَـبّـت المؤمن "الذي يرى تحمل المحبين لغير الله ما يحتملون في سبيل حصول محبوبهم" (4)..سبحان الله، وكم يبدو هذا التثبيت غوثا في ساعات الزلزلة التي نعيشها ورحمة منزلة لـ"الذين آمنوا" اليوم إذ يمدحهم المولى بأنهم أشد حبّا لله.. الحمد لله !!

- مخالفة الهوى طلباً للهدى: في قوله تعالى {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطا} قال محمد رشيد رضا في تفسير المنار أي: "على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمة وسطا" (5)؛ ونتناول هذه الدعامة للحفاظ على الوسطية من خلال ضرورة التطرف وضرره ، فأنت عندما تعلم من المستفيد من تطرفك أو تطرف من تحب ، فإنك تبذل أقصى الجهد فعليا في مخالفة الأهواء واتباع الرشد والهدى ..

تطرف الأفراد والفئات بين الضرورة والضرر : وهذا عجيب ..فكيف يكون التطرف ضروريا ؟

هو ببساطة ضروري لعدوك .. إذ يُـمَكّنه من التفوق الفكري والمادي والسيطرة، قال تعالى: {ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلّوا السبيل} النساء 44، ومن ضلال السبيل أن نضلّ عن وسطيتنا التي فيها إمساكنا بزمام الأمر..، وعليها قامت حضارة الإسلام. وإن نشر وباء التطرف المعاصر هو إحياء لطريقة قديمة مفادها: الإقصاء ثم القنص ، فتحقيق الأول (الإقصاء) وهو الأهمّ قد لا يكون سهلا ، لذل تكاثرت أدواته ، وتنوّعت فنونهم فيه والساحات المستهدفة :من العقل إلى الروح ، ومن الهوى إلى الأنا؛ من الإغراء والجذب إلى التهديد والنبذ ؛ ومن الفرد إلى التجمعات الصغيرة التي تتمدد كالعشب الضار، وقديما علم الإنسان عندما ينازل عدوا قويا أنه بإقصائه عن الجمع ينفرد به ؛ وأعداء الأمة زادوا حضاريا على هذا الفخ البدائي جعل المتطرف يعادي فكريا وشعوريا ناسه الذي هو منهم ، عندما يقصفونه بفيروسات وجراثيم مولدة للتطرف.. ليعلنوا بعد كثرة المبتعدين الضالين والمضلين لغيرهم لدرجة العنف المادي ،أن الإسلام سرطان خطر على الكون .. فيجعلون أهله يباركون استئصال أجزاء منه !!

ومثل معاصر يتكرر: شباب فقير من الدول الغربية ..مسلم بالاسم أو للانتماء لأبوين ربما أحدهما مسلم بالاسم ! ارتكب الموبقات وسافه المخدرات ثم في أحد الأيام قال أنا مسلم وانطلق يقتل الناس عشوائيا ..(لا يدري فيم ..أو ربما لإيهامه أنهم وراء فقره وإدمانه) .. وتعلن القصة الأليمة للضحايا مسبوقة باتهام الإسلام : ويتكرر مشهد أخذ الأمة الوسط بجريرة أفراد ليس لهم من الإسلام إلا الاسم: وجرمٌ جرّهُ سفهاء قوم ** فحلّ بغير جارمه العقاب!

الوسطية على مستوى الأمم:

من نعم الله تعالى علينا أن جعلنا أمة وسطا عدلا خيارا بين الأمم كالجوهرة الثمينة واسطة العقد(6) !..بل إن في وسطيتنا نفع وخير للكون وسكانه ..،  فهل هي نعمة نكرناها بالإفراط و التفريط ؟ يقول الإمام الشعراوي في قول الله تعالى:{كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}البقرة 143: "فكأنّ الله يخبرنا أنه ستحدث في الكون معركة لن يفصل فيها إلا شهادة هذه الأمة ، وإن كانت الآية قد بشرت الأمة الوسط بأن العالم سيعود إلى حكمها فذلك لا يكون إلا إذا سادت شهادة الحق والعدل فيها"(7).. أي إذا كانت الأمة وسطاً بحق ..! واليوم لم تعد تخفى أضرار بعد أمتنا عن الوسطية بالمعنى العام (العدل والخيار) والمعنى الخاص (التوسط في الأمور دون إفراط ولا تفريط)، مما يفقد أمتنا مركزيتها ودورها بل ويوهنها وينحطّ بها؛ وتتسع الفجوة الفكرية بين الفئات المتطرفة فيها بعضها بعضا، وبينها وبين الجماعة الوسط في الأمة.. وتزداد الدروب تعرجا.. وتمتلئ بالخطوط المنحرفة والزوايا الحادة..!! وتتحول لعداوات مادية تبلغ حد قتل الأخ لأخيه!!.. ولقد قلنا أن التطرف ضروري للعدو ليضعف وسط الأمة وخيارها العدل  ويشقها ،ولكن قد يكون العدو من الداخل ،وقد يكون المرء عدو نفسه؛ وليجد الذين ينشرون التطرف أو يشجعونه نكالا بالأمة والدين أنهم ولو لم ينخرطوا فيه بداية ليسوا بمنأى من أذاه عليهم ناهيك عن التلبس به رغما عنهم  ..والله غالب على أمره ،وأنصع دليل للمعتبر حال بني إسرائيل..

مثل قرآني: تطرف بني إسرائيل: إن اليهود مجموعة بشرية لها إحداثيتها في التاريخ.. وهم كفروا بأنعم الله ، ولكنه تعالى منحهم مغفرته وتجاوز عنهم المرة إثر المرة في حوادث مشهورة أثبتها تعالى في كتابه المنزل ليكونوا عبرة للأمم من ورائهم (لاسيما امة الإسلام) ؛ والقرآن الكريم حافل بالأدلة على تطرفهم لكل متدبر .. انظرهم وقد خرجوا عن الوسطية والفطرة السليمة بكمٍّ من الاخطاء والآثام بحق رب العالمين كالعدو في السبت ،وعبادة العجل ..؛ وتطرفوا بالظلم والتظالم.. والصد عن سبيل الله.. واقتصاديا بأكل الربا وقد نهوا عنه :قال تعالى في سورة النساء 160 – 161{فبظلْمٍ مِنَ الذين هادوا حَرَّمنا عليْهم طَيّباتٍ أُحِلّت لهم وَبِصَدِّهمْ عن سبيلِ اللهِ كثيراً () وأخْذِهِمُ الرّبا وقدْ نُهوا عنْهُ وأكْلِهِمْ أَموالَ الناسِ بِالباطلِ وأَعْتَدْنا للكافرينَ منهمْ عذاباً أليماً}؛.. وهم تطرفوا بالكثير من القتل وسفك الدماء التي حرمها تعالى منهم ومن عباد الله أجمعين (84البقرة) والذي بلغ ذروته المنكوسة بقتلهم الأنبياء!! ثم إنّ أقصى التطرف قبل ذلك وبعده أنهم يكتمون الحق (البقرة 159)، و{يفترون على الله الكذب}النساء 50، ونزلت الآيات بصيغة المضارع !لتقول لنا أنهم مستمرون في ممارسة التطرف.. (القتل وأكل الربا والزنا) وزرعه في المجتمعات..، وليحذرنا القرآن نحن وكل الامم من بعدهم من الوقوع فيما وقعوا فيه، ولنسارع ان ظهر فينا بعض صفاتهم للتخلص منها حتى لا ينالنا الخسران المبين الذي نالهم في الدنيا والآخرة..!! وجعلهم استحقوا ويستحقون غضب الله تعالى عليهم ولعنته!

وختاما:

فإن المؤمن الحق بالله وحده ..يحتفظ بوسطيته.. بسلامة فطرته.. بانسجامه مع نفسه ومع الكون من حوله .. مهما ظهر وتظاهر حوله من تيارات متطرفة (بمعنى اتخذ بعضهم لبعض ظهيرا)  يدعّونه بعيدا عن الوسطية دعّاً! لذا كان الإيمان بالله تعالى وحده ،وأن نكون مخلصين في خيريتنا ووسطيتنا هي طوق النجاة لأمتنا والعروة الوثقى في وجه المخاطر.. ومن أسوأها تمدد التطرف.. ودائما تبرز أهمية التربية الصالحة وبذل الجهد في العلاج المبكر.. وقد نفرد لهما بحثا.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.        الرياض- د.غنية عبد الرحمن النحلاوي

هوامش ومصادر:  

1) تيسير الكريم الرحمن ،  الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي دار ابن حزم ط الأولى (1424ه-2003م) ؛وقال ابن كثير: "و(الوسط) ها هنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً ، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم (وسطاً) في قومه، أي: أشرفهم نسباً. ومنه (الصلاة الوسطى)، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر" \ تفسير القرآن العظيم لابن كثير الدمشقي بتخريج الأحاديث على الألباني-دار التوفيقية للتراث-ط2009 = مج1 ص 225

2) وهذا تعريف مبسط لتدبر القرآن الكريم :هو علم بمرامي الآيات وما تؤول له مبني على التفكر والتأمل ومشفوع بسعي للعمل بما فيها.

3) كتاب الثابت والمتغير/ دغُنية عبدالرحمن النحلاوي نشر دار الفكر  .

4)  كتاب العبودية لابن تيمية ، بمقدمة الأستاذ عبدالرحمن الباني / طبعة المكتب الإسلامي 1963

5) تفسير القرآن الحكيم المشتهر باسم تفسيرالمنار-محمدرشيدرضا- ط1931م /

6) مختار الصحاح- محمد بن أبو بكر الرازي ، دار الحكمة- دمشق  طبعة – 1983 

7) تفسير الشعراوي- المجلد الأول ص 226- تأليف محمد متولي الشعراوي – نشر أخبار اليوم قطاع الثقافة –طبع 1991

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا

-

أبومحمد

09:17:18 2016-09-28

‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ جزاك الله خيراً دكتورة غنية على هذا التفصيل الواسع لموضوع في غاية الأهمية في عصرنا الحالي أحب أن أضيف لو سمحتم لي بعض النقاط مما قرأت وفهمت حول هذا الموضوع. قال الله تعالى في سورة القصص: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) الوسطية هي حق بين باطلين واعتدال بين متطرفين وعدل بين ظلمين• وقال ابن القيم – رحمه الله – مؤكداً هذا المعنى - : " فدين الله بين الغالي فيه ، والجافي عنه ، وخير الناس : النمط الأوسط ، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ، ولم يلحقوا بغلوِّ المعتدين وعن حادثة الرجال الثلاثة الذين جاؤوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ومسلم وكان احدهم يصوم الدهر ولا يفطر، واحدهم يقوم الليل ولا ينام، واحدهم لا يتزوج النساء، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا وقال «أما أنا فإنني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»• وجاء في البخاري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (خير الامور أوسطها، إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا) إن المبتعدين عن وسطية الإسلام ينهجون منهج القهر والاكراه واستباحة الدماء والاعراض والاموال، لاتصافهم بصفتين شاذتين وخطيرتين هما: 1 ـ الجهل باحكام الشريعة الإسلامية المقررة في القرآن والسنة • 2 ـ التورط بتكفير المخالفين لهم لادنى تهمة او شبهة وهذا ظلم عظيم• بارك الله في جهودك يادكتورة وأسال الله لك التوفيق دائما وأن يجمعنا على الود والإخاء والمحبة وأن يثبت الله أجرك ونفعني الله والمسلمين بما تقدميه من مشاركات قيمة