فضل اغتنام الوقت في القرآن الكريم والسنة النبوية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

فإن الوقتَ في الإسلام له أهمية عظيمة، واستثمار الوقت يجب أن يكون أهمَّ أولويات المسلم في الحياة اليومية، فلا يضيعه في سبل لا تأتي عليه بالفائدة في الدنيا والآخرة، ولا يكرِّس الوقت فيما يُلهيه عن ذِكر الله تعالى والعبادات والطاعات؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[المنافقون: 9]، وبيَّن الله العظيمُ في الآية الكريمة عاقبةَ الخسران لمن يغفُلُ عن ذِكر الله تعالى، والتقرب إلى الله الكريم بالخيرات، وفِعل الحسنات، وفي هذا نذير مِن الانشغال بملذات الدنيا والركون إليها، وتوجيه لاستثمار الدنيا وما يملِكه الإنسان من موارد للاستعداد للآخرة.

وقال الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر: 1 - 3]، وفي هذه السورة العظيمة منهجٌ كامل للمسلم، وموعظة بليغة للاهتداء بها، وفيها استثنى الله -سبحانه- طائفة من الناس من عاقبة الخسران، وهي الطائفة التي أقامت حياتها على أربعة أسسٍ جليلة، وهذه الأسس: هي الإيمان بالله تعالى، وعمل الصالحات، والتواصي بالحق والتعاون على تحقيقه، والصبر في سبيل ذلك كلِّه على مواجهة الصِّعاب والشهوات والأذى؛ ولذا فتكريس المسلم لوقته أمرٌ حتميٌّ لفعل الطاعات، والتقرب بالحسنات؛ وذلك طلبًا للنجاة برحمة الله الملِك وتوفيقه.

وفي القرآن الكريم بيان حكيم لأهمية الوقت، وتدبُّر قيمته؛ قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾[الشرح: 7، 8]، وفي تفسيرِ الآية الكريمة يقول الإمام الطبريُّ رحمه الله تعالى: "اختلَف أهل التأويل في تأويل ذلك، وأولى الأقوالِ في ذلك بالصواب: قولُ مَن قال: إن الله -تعالى ذِكره- أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجعل فراغه من كلِّ ما كان به مشتغلًا مِن أمر دنياه وآخرته، مما أدى له الشغل به، وأمره بالشُّغل به إلى النصَب في عبادته، والاشتغال فيما قربه إليه، ومسألته حاجاته، ولم يخصُصْ بذلك حالًا مِن أحوال فراغه دون حال، فسواءٌ كلُّ أحوال فراغه، من صلاة كان فراغه، أو جهاد، أو أمر دنيا كان به مشتغلًا، لعموم الشرط في ذلك، من غير خصوص حال فراغ، دون حال أخرى"[1].

قال الله تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[الأعلى: 17]، وفي تفسيرِ الآية الكريمة يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[الأعلى: 17]؛ أي: ثواب الله -سبحانه- في الدار الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى؛ فإن الدنيا دنيَّةٌ فانية، والآخرة شريفة باقية، فكيف يؤثِر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى، ويهتم بما يزول عنه قريبًا، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخُلد؟![2].

والآيةُ الكريمة توضِّح المنهجَ الذي يجب أن يسيرَ عليه المسلم، وهو إدراكُ قيمة الآخرة، وتقديرها حقَّ قدرها، وهو الأمرُ الذي يتولد عنه استثمارُ الوقت في البحث عن الآليات التي تعمر دار الخلود.

وأهميةُ الوقت مقترنة بحقيقة لا ينكرها أحدٌ، وهي الموت، فبحلول الموت ينفَدُ الوقت لفعل الطاعات؛ قال الله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[المنافقون: 10، 11]، والآيةُ الكريمة تبيِّن خطر تأخير التوبة والتسويف، والاستعداد للرحيل، وتبيِّن فضل الصدقة وعِظَم أثرها، وهذا حث لكل مسلم على المسارعة بالصدقة، والمساهمة في تحقيقها بكل السبل، والتعاون مع المسلمين على ذلك.

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "أنت لا تسأل: متى تموت؟ ولا أين تموت؟ لأن هذا أمر لا يحتاج إلى سؤال، أمر مفروغ منه، ولا بد أن يكون، ومهما طالت بك الدنيا، فكأنما بقيتَ يومًا واحدًا، بل كما قال الله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾[النازعات: 46]، ولكن السؤال الذي يجبُ أن يرِدَ على النفس، ويجب أن يكون لديك جواب عليه هو: على أيِّ حال تموت؟!

وفي السنَّة النبوية وصايا شريفةٌ مِن سيد المرسلين عليهم الصلاة والسلام لبيان فضل الوقت وأهميته؛ فعن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفراغُ))(البخاري: 6412).

وعن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اغتنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: حَياتَك قبلَ موتِك، وصِحَّتَك قبلَ سَقَمِك، وفراغَك قبلَ شُغلِك، وشبابَك قبلَ هَرَمِك، وغِناك قبلَ فقرِكَ))(صححه الألباني في صحيح الجامع: 1077).

فبالموت تنقطع الحياة، وبانقطاع الحياة تنقطع موارد العمل الصالح، إلا من الحسنات الجارية، والحياة تشمل كل العناصر التي بيَّنها رسولُنا الحبيب صلى الله عليه وسلم في باقي الحديث العظيم، والصحة مِن أعظم النِّعم التي ينعَمُ بها الإنسان في حياته، وبنعمة الصحة يستطيع المسلم أن يفعل الكثير مِن أعمال الخير، فيساعد الآخرين بقوة بدنه، ويتحرَّك بيُسر وسهولة لتفعيل أعمال الخير، وهو الأمر الذي يوجب المسارعةَ باغتنامها في كل سبيل؛ خوفًا مِن مداهمة المرض، نسأل الله - سبحانه - أن يمتِّعَنا بصحتنا، ويرزقنا البركة فيها.

والفراغ ليس فرصة للتنعُّم بنعيم الدنيا، وإنما هو نعمة لنيل نعيم الآخرة، وهو الأمر الذي يُعْلي من قيمة الوقت وشأنه، وفترة الشباب فترة خصبة لغرس أعمال الخير في الدنيا؛ فالشابُّ المسلم يستطيع أن يطيق كثيرًا من الأعمال في شبابه، التي قد لا يقدر عليها في هَرَمه، نسأل الله تعالى أن يبارك في أعمارنا.

والغنى قبل الفقر، مِن أجمل الوصايا النبوية لتحفيز المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فمَن يملِك المال للتصدُّق اليوم قد يُعجِزه سبب عن المشاركةِ في الصدقات عند فقره أو غير ذلك؛ ولذا فعلينا اغتنامُ الوقت بالمسارعة بالصدقات، والبحث عن أوجُهِ المشاركةِ فيها.

وورَد في السنة النبوية بيان المسارعة باغتنام الوقت لفعل الصدقات؛ خوفًا من عدم إتاحة الفرصة للتصدق في وقت آخر؛ عن جَرير بن عبدالله رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدَّقوا قبل ألا تَصَدَّقوا، تصدَّق رجلٌ من دِيناره، تصدَّق رجلٌ من درهمِه، تصدَّق رجلٌ من بُرِّه، تصدَّق رجلٌ من تمرِه، من شَعيرِه، لا تحقِرَنَّ شيئًا من الصدقةِ، ولو بشِقِّ تمرةٍ))(صححه الألباني في صحيح الجامع: 1354)، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتينَّ على الناسِ زمانٌ يطوفُ الرجلُ فيه بالصدقةِ من الذهبِ، ثم لا يجدُ أحدًا يأخذُها منه، ويُرى الرجلُ الواحدُ يتبعُه أربعون امرأةً، يَلُذْنَ به من قِلَّةِ الرجالِ وكثرةِ النساءِ))(مسلم: 1012).

وفي الحديثينِ الشريفين ترغيب في الصدقة بأي قدر، واغتنام الوقت الذي ينعَم فيه المسلم بالقدرة على الصدقة، ولو بالقليل، وأرسى النبيُّ صلى الله عليه وسلم قواعدَ عظيمة في فِعل الصدقات، وهي اغتنامُ الوقت والفرصة السانحة للصدقة، والتصدُّق بأي قدر مما يملِكه المسلم، ومَن وُفِّق لهذا النَّهج في حياته سَعِدَ في دنياه وآخرته، ويتأتى ذلك بجعل الصدقة منهجًا حياتيًّا، ويسأل المسلمُ نفسه يوميًّا: كيف سأتصدق اليوم؟!

قال الشيخ محمد صالح المنجد -حفظه الله تعالى-: "سمِع أحدُ التابعين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ امرئٍ في ظل صدقتِه حتى يُفصَل بين الناس))(صححه الألباني في صحيح الترغيب: 872)، فكان لا يُخطئه يوم إلا تصدَّق فيه بشيء، ولو كعكةً أو بصلةً"، وبفضلِ الله تعالى يستطيع المسلم يوميًّا الصدقةَ، والإكثار منها، وذلك باحتسابِ النفقة التي ينفقها على أهل بيته، والبحث عن المحتاجين يوميًّا في الشارع؛ لكي يقوم بإهداء زجاجات العصير والفاكهة والطعام، ويحفز المسلم على ذلك الفعل يقينُه بأجر الله تعالى، والبركة والخلف من الله سبحانه فيما ينفقه في سبيل الله الكريم، وصدق الإيمان يحرِّكُنا لتفعيل ذلك بشكل يوميٍّ.

 

وسائل البركةِ في العمر:

إن البركةَ في العمر بطوله وحُسن العمل فيه مِن سعادة المؤمن؛ فعن نُفَيْع بن حارث الثقفي رضي الله تعالى عنه، قال: "إنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الناسِ خيرٌ؟ قال: ((مَن طالَ عمُرهُ، وحسُن عملُه))، قال: فأيُّ الناسِ شر؟ قال: ((مَن طال عمُرهُ، وساء عملُه))؛ (الترمذي: 2330).

ولقد بيَّن الرسولُ صلى الله عليه وسلم الوسائلَ الشرعية المضمونة للبركة في العمر بفضل الله تعالى، وهذه الوسائل تتمثَّل في صلة الرَّحِم والبِر؛ فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سرَّهُ أن يُبسطَ لَه في رزقِهِ، وأن يُنسَأَ لَه في أثرِهِ، فليَصِلْ رَحِمَهُ))(البخاري: 6817) (مسلم: 2557)، واللفظ للبخاري.

وعن سَلْمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرُدُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ، ولا يَزيدُ في العُمُرِ إلَّا البرُّ))؛ (الترمذي: 2319)، وحسنه الألباني في (السلسلة الصحيحة: 154)

 

آليَّات اغتنام الوقت:

أولًا: الإكثار مِن ذِكر الله تعالى:

إن أعظمَ سبيل لاغتنام الوقت هو ذِكر الله تعالى، وهو أيسَرُ عبادة يستطيع المسلم ملازمتها في كل وقت، ولا يشترط لمن يذكر الله تعالى أن يكون على وُضوء، وهو عبادة ليست مقترنة بمكان أو زمان، وأجورُها تُغيِّر حال المسلم في الدنيا والآخرة؛ يقول الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُون﴾ [البقرة: 152]، قال الشيخ ابن بازٍ - رحمه الله تعالى -: "ليس في الأعمال شيءٌ يسَعُ الأوقات كلها مثل الذِّكر، وهو مجال خصب وسهل، لا يكلف المسلمَ مالًا ولا جهدًا، وقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحدَ أصحابه فقال له: ((لا يزال لسانُك رَطْبًا مِن ذِكر الله))؛ [الترمذي: 3375]".

قال الشيخ عائض القرني -حفظه الله تعالى-: "قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال لسانُك رَطْبًا من ذكر الله))؛ [الترمذي: 3375]، رطِّبْ لسانَك بذكره، عمِّرْ أوقاتك بذكره، عطِّرْ مجالسك بذِكره سبحانه وتعالى".

قال الشيخ محمد صالح المنجد -حفظه الله تعالى-: "فلنغتنمِ الفرصةَ تسبيحة في نفس يتمنَّاها أهل القبور".

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "حضرتُ شيخَ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريبٍ مِن انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغَدَّ الغداءَ سقطَتْ قوتي"؛ (الوابل الصيب: ص 42).

 

ثانيًا: الحسَنات الجارية:

إن رصيدَ الحسنات الجارية يمكِّن المسلمَ من الاستثمار الأمثل للوقت؛ فهو مجال خصب وثري لفعل الطاعات، وهو يحثُّ المؤمن على أن يضعَ هذا الهدف نصب عينيه، وفي السنَّة النبوية توضيحٌ لسبل الحسنات والصدقات الجارية؛ فعن أنسٍ رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعٌ يَجري للعبد أجرُهنَّ وهو في قبره بعد موته: مَن علَّم علمًا، أو أجرى نَهَرًا، أو حفر بئرًا، أو غرَس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترَك ولدًا يستغفر له بعد موته))؛ حسَّنه الألباني في صحيح الترغيب‌.

فلنستثمِرِ الوقت ونشارك في الحسنات الجارية، ورِّثْ مصحفًا للمساجد، ولمراكز القرآن الكريم المعنيَّة بتعليم المسلمين التلاوة، قُمْ بإهداء المصاحف للمسلمين، شارِكْ بنشر التلاوات القرآنية عبر وسائل التخزين التكنولوجية، مثل: نَسْخ المصاحف المرتلة للقراء، ثم نقلها لأجهزة الحاسب المختلفة، قُمْ بنسخ التلاوات لأصدقائك في العمل، والجيران، والأقارب، ونفس الحال ينطبق على العلم الشرعي باستثمار نفس السبل التكنولوجية، وشارِكْ في جمع المال لحفر بئر، والتواصل مع المؤسسات الإسلامية والخيرية لجمع المال، واحرِصْ على تعليم أطفالك التعاليمَ الشرعية.

 

ثالثًا: المداومة على العمل الصالح:

هناك الكثيرُ من الآليَّات التي يتبعها المسلم لاغتنام الوقت، ومنها: المداومة على العمل الصالح، فثبَت في السنة النبوية أن هذه المداومة سببٌ في نيل محبة الله سبحانه رب العالمين؛ فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَحْتَجِرُ حصيرًا بالليلِ فيُصَلِّي، ويَبْسُطُه بالنهارِ فيَجْلِسُ عليه، فجَعَلَ الناسُ يَثُوبون إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيُصَلُّون بصلاتِه حتى كَثُروا، فأقبَلَ فقال: ((يا أيُّها الناسُ، خُذوا مِن الأعمالِ ما تُطِيقُون؛ فإن اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإن أحبَّ الأعمالِ إلى اللهِ ما دامَ وإن قلَّ))(البخاري: 5861).

قال سعيد بن المسيَّب رحمه الله تعالى: "ما فاتَتْني التَّكبيرةُ الأولى منذ خمسين سنةً، وما نظرْتُ في قفا رجُلٍ في الصَّلاة منذ خمسين سنةً"؛ (حلية الأولياء: 2/ 163).

 

رابعًا: تجنب التسويف:

إن التسويف سم زعاف، يسري في سجلِّ حياة المسلم، وهو يقتضي التصدي المستمر بالترغيب والترهيب والمراقبة، وفي أقوال أهل العلم قَبَسٌ مضيءٌ للتوعية والتنبيه بخطر التسويف؛ قال الإمام ابن الجوزيِّ -رحمه الله تعالى-: "التسويفُ هو آفة تدمِّر الوقت، وتقتل العمر، وللأسف فقد أصبحت كلمة "سوف" شعارًا لكثير من المسلمين، وطابعًا لهم".

قال الإمام الحسَن البصري -رحمه الله تعالى-: "الدنيا ثلاثة أيام: أما الأمس فقد ذهَب بما فيه، وأما غدًا فلعلَّك لا تدركه، وأما اليوم فلك فاعمَلْ فيه".

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "كم مِن إنسان خرج يقود سيارته ورجع به محمولًا على الأكتاف، وكم من إنسان خرج من أهله يقول: هيِّئوا لي طعام الغداء أو العشاء، ولكن لم يأكله، وكم من إنسان لبِس قيمصه وزر أزرته، ولم يفكَّها إلا الغاسل يغسله، هذا أمر مشاهد بحوادث بغتة، فانظر الآن وفكِّر على أي حال تموت!".

قال الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى-: "التسويف سيفٌ يقطع المرءَ عن استغلال أنفاسه في طاعة ربِّه؛ فاحذَرْ أن تكون مِن قتلاه وضحاياه".

قال الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى-: "ينبغي للإنسانِ أن يعرف شرفَ زمانه، وقدرَ وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قُربة، ويقدِّم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكُنْ نيتُه في الخير قائمةً من غير فتور بما لا يعجِزُ عنه البدن من العمل".

 

خامسًا: البحث عن الطاعات والمسارعة بالخيرات:

إن البحثَ عن سبل الطاعة والمسارعة لفعلها هو شُغل المسلم في هذه الدنيا، ويجب أن يكون البحثُ عن القربات والحسنات بوصلةً يومية للحركة في إطارها؛ قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[البقرة: 148]، وفي تفسيرِ الآية الكريمة قال الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى-: "مَن سبق في الدنيا إلى الخيراتِ، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات؛ فالسابقون أعلى الخَلْق درجة، والخيرات تشمل جميعَ الفرائض والنوافل؛ مِن صلاة وصيام وزكوات، وحج وعمرة وجهاد، ونفع متعدٍّ وقاصر"[3].

وفي السنَّة النبوية مثالٌ ومنهاج لكل مسلم؛ حتى يقتدي به ويسيرَ على أثره؛ فعن أبي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟))، قال أبو بكرٍ: أنا، قال: ((فمَن تبِع منكم اليومَ جِنازةً؟))، قال أبو بكرٍ: أنا، قال: ((فمَن أطعَم منكم اليوم مسكينًا؟))، قال أبو بكرٍ: أنا، قال: ((فمَن عاد منكم اليومَ مريضًا؟))، قال أبو بكرٍ: أنا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما اجتمَعْنَ في امرئٍ إلا دخل الجنَّةَ))؛ (مسلم: 1028).

 

 

وفي الحديث النبوي إشارةٌ إلى المسارعة بفعل العمل الصالح؛ فسيدنا أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- دائم البحث بصفة يومية عن أفعال الخير والقربات لله تعالى، واغتنام الوقت هو الآليَّة للمسارعة بالعمل الصالح، وفيه أيضًا فضيلةُ الجمع بين الأعمال الصالحة؛ مِن صيام التطوُّع، وتتبُّع الجِنازة، وإطعام المساكين، وعيادة المريض، وأن الجمعَ بين هذه الأعمال سببٌ لدخول الجنة، والفلاح لمَن يحرص على متابعة هذا السعي الدؤوب، وهذه المنهجية بالمسارعة لفعل العبادات كانت دأبَ الصحابة جميعِهم -رضي الله تعالى عنهم.

 

ولقد بيَّن أهلُ العلم فضيلة تكريس الوقت والمسارعة بالخير، ومنها ما يلي:

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "مَن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرةِ مِن السابقين إلى الكرامة؛ فإن الجزاء مِن جنس العمل، وكما تَدين تُدان"؛ (تفسير ابن كثير).

قال الإمام ابن تيميَّة -رحمه الله تعالى-: "الجنَّة درجات متفاضلة تفاضلًا عظيمًا، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات: بحسَب إيمانهم، وتقواهم"[4].

قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله تعالى-: "ما أصدَقَ ما رواه الشافعي -رحمه الله تعالى- في أسس التربية، هذه الكلمة الرائعة: "وإذا لم تشغَلْ نفسك بالحق، شغلَتْك بالباطل"، وهذا صحيحٌ؛ فإن النفسَ لا تهدأ، إذا لم تَدُرْ في حركة سريعة من مشروعات الخير والجهاد والإنتاج المنظَّم لم تلبَثْ أن تنهَبَها الأفكارُ الطائشة، وأن تلُفَّها في دوامة مِن التُّرَّهات والمهازل".

قال الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى-: "إن الأوقاتَ والساعاتِ كرأس المال للتاجر؛ فينبغي أن يتَّجِرَ فيما يربح فيه، وكلما كان رأسُ ماله كثيرًا كان الربحُ أكثرَ، فمَنِ انتفَع مِن عمره بأن حسَّن عمَلَه فقد فاز وأفلَح، ومَن أضاع رأسَ مالِه لم يربَحْ، وخسِر خُسرانًا مبينًا".

قال الإمامُ ابن القيِّم -رحمه الله تعالى-: "وقتُ الإنسان هو عُمرُه في الحقيقة، وهو مادةُ حياتِه الأبدية في النَّعيم المُقِيم، ومادة معيشتِه الضنك في العذاب الأليم، وهو يمرُّ مرَّ السَّحاب؛ فمَن كان وقتُه لله تعالى وبالله تعالى، فهو حياتُه وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا مِن حياته".

قال الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله تعالى-: "قرأتُ لأكثَرَ مِن 70 سنة، فما وجدتُ حكمةً أجمَلَ مِن: مشقة الطاعة تذهَب ويبقى ثوابها، ولذة المعاصي تذهَب ويبقى عقابُها".

نسأل اللهَ الكريم الغنيمة من كل بِرِّ، والسلامة مِن كل إثم، والحمدُ لله رب العالمين،

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

[1] تفسير الطبري بموقع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود.

[2] تفسير ابن كثير بموقع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود.

[3] تفسير السعدي بموقع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود.

 

[4] مجموع الفتاوى: 11 / 188

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

مقال للكاتب بعنوان: رصيد المسلم من غراس الجنة

-

حسين أحمد عبد القادر

22:32:41 2017-02-12

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. إن ذكر الله تعالى من العبادات الجليلة، وهي عبادة عظيمة تستوجب حرص المسلم عليها، وتتطلب معرفة قدرها، واكتساب أرباحها، فهي نعم التجارة للمسلم اللبيب، وهي نبع عذب يرتوي منه المذنبون، وحصن متين يحتمي به التائبون، ونور يلتمسه الصالحون، وهي عبادة أمر الله تعالى بالإكثار منها في كتابه الحكيم، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم فضل ذكر الله سبحانه ببيان مثال عظيم للتفرقة بين حال من يذكر الله تعالى وحال غيره، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلُ الَّذي يذكُرُ ربَّه والَّذي لا يذكُرُ ربَّه مثلُ الحيِّ والميِّتِ» (البخاري). ورد في فضائل قول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" الكثير من الأحاديث الشريفة وفيما يلي بيان لبعضها، وتذكير بفضلها، والحرص على اكتساب أجورها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيتُ إبراهيمَ ليلة أُسرِيَ بي، فقال: يا محمد، أقرِئْ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التُّربة، عَذْبة الماء، وأنها قِيعان، وأن غراسَها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» (الترمذي، وصححه الألباني)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة» (الترمذي، وصححه الألباني)، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلُّك على غراسٍ هو خير من هذا؟ تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ يُغرَس لك بكل كلمة منها شجرةً في الجنة» (صححه الألباني في صحيح الجامع). في واقع الأمر يفقد الكثير من المسلمين رصيداً كبيراً من غراس الجنة ونخلها يومياً، فهذه الأذكار العظيمة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه، وبإمكان المسلم طبقا لطموحه وسعيه للقرب من الله تعالى أن يكثر من هذه الغراس العظيمة، يستطيع المسلم بفضل الله تعالى أن يكون له يومياً آلاف الأشجار والنخيل في الجنة، بسعيه للإكثار من قول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، و"سبحان الله العظيم وبحمده"، في ساعة واحدة بفضل الله ملك الملوك يمكن للمسلم أن يحصل على أكثر من 2000 شجرة في الجنة، أو أكثر من 2000 نخلة في الجنة، ويتأتى ذلك بملازمة ذكر الله تعالى بتدبر وتعظيم لله جل جلاله، وبتحريك الشفاه، وبشكر الله جل جلاله على نعمة الذكر ونعمة اللسان، يستطيع المسلم أن يحصل بفضل الله تعالى على أكثر من ذلك عند تعليمه للغير فضل هذه الأذكار الشريفة، والدال على الخير كفاعله، يستطيع المسلم أن يغرس في أطفال المسلمين حب ذكر الله تعالى، يستطيع المسلم أن يبلغ غيره بمختلف الوسائل هذه الفضائل، بالتواصي الشخصي، وبالنشر عبر وسائل التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي، يستطيع المسلم بفضل الله تعالى عند السير في الشوارع وركوب وسائل المواصلات أن يغتنم الفرص لغرس الكثير من أشجار الجنة ونخلها، يستطيع المسلم بفضل الله تعالى أن يجد رصيداً وافر من غراس الجنة ونخلها عند سعيه لذلك، فلنحرص على شرف هذه العبادة الكريمة، ولنكن من الذاكرين، ولا نخسر رصيداً عظيماً من غراس الجنة، وذلك حتى لا نتحسر على فواته يوم القيامة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين الشاكرين المخلصين، والحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على خير خلق الله تعالى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.