مشكلة التخلف العلمي في العالم الإسلامي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

إن فجوة التخلّف بيننا وبين العالم المتقدم في قضايا العلم والتقنية فجوة هائلة، تزداد اتساعًا يوماً بعد يوم، الأمر الذي بات معه بعض الناس في عالمنا الإسلامي يعتقد بأنه من المستحيل على المسلمين اللحاق بالركب العلمي والتقني الذي وصلت إليه أوروبا وأمريكا واليابان، بمعنى أن المسلمين سيبقون في القضية العلمية -على الأقل- يعيشون على العطاء الغربي.

فهل من سبيل إلى ردم هذه الفجوة؟ وهل كان ذلك بسبب ارتباطنا بالإسلام كما يزعم بعضهم، أم أنه كان عقوبة لانسلاخنا عنه؟ وذلك أن طلب العلم فريضة، وتحصيل ما تحتاج إليه الأمة المسلمة من العلم والتقنية فرض كفاية لا بد من القيام به وإلا أثمت الأمة جميعها.

 

أعباء الاستخلاف:

** من القضايا الرئيسة المطروحة في العالم الإسلامي اليوم: قضية إعادة صياغة العلوم من خلال التصور الإسلامي باللغة العربية كخطوة أولى لا بد منها على طريق التقدم. طبعًا هناك من ينتصر لهذه القضية انتصارًا لمقومات الأمة في القضاء على مركب النقص الذي تورثه عقدة تفوق الأجنبي ولغته. وبعضهم يرى أن مراجع العلوم كلها أجنبية؛ في فترة يعيش العالم الإسلامي فيها مرحلة تخلف، عاجزًا عن العطاء، فتعلّم العلوم باللغة العربية، أو نقلها للغة العربية يشكل مرحلة قاسية وعقيمة تحرم الطالب من كثير من المصادر التي يمكن أن تكون موردًا لزيادة المعرفة بالنسبة له. فما رأيكم في هذه القضية بشقيها:

- إعادة صياغة العلوم.

- لغة العلوم؟

** قبل أن أجيب على هذا السؤال أود طرح مقدمة هامة أرى أنها في صميم القضية: أذكر أنني دعيت لحضور مؤتمر التضامن الإسلامي في مجال العلوم والتقنية (الرياض: 1975م)، وطلب مني أن أكتب عن الثروات المعدنية في العالم الإسلامي، وبعد أن بدأت الكتابة في الموضوع فعلاً، وجدت أنه - على أهميته - سبق أن طرق من قبل. ويكفي المرء أن يلجأ إلى أي كتاب من كتب الجيولوجيا الاقتصادية، أو بعض الأطالس ليدرك أن الموضوع لا يحتاج لشيء من الجهد، وبعد تفكير فتح الله - تعالى - عليّ بموضوع وضعت له هذا العنوان:

(ضرورة إعادة كتابة العلوم من وجهة نظر إسلامية) وقدّمته للمؤتمر. وكان له أثر طيب في النفوس لدرجة أن أكثر من هيئة اهتمت بنشره، لأنه أثار فعلاً قضية ذات وزن، وتشغل بال المسلمين.

وأذكر أن محور البحث هذا دار في خط واضح للغاية، هو أن المسلمين حينما تربوا على الإسلام أدركوا أن قضية الاهتمام بالناحية العلمية هي قضية تعبدية بالدرجة الأولى، وليست مجرد الحصول على شيء من القوة أو الغلبة والتسلط في هذه الدنيا، فحين يتعرف المسلم على بديع صنع الله تبارك و-تعالى- في هذا الكون، فهو يتعرف على خالقه. وقد أحصيت عدد الآيات القرآنية التي تحض الإنسان على النظر في الكون فوجدتها تفوق (750) آية، إلى جانب أن القضية لا بد منها للقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني وتسخير الكون كما أراد الله -سبحانه وتعالى-

** كأن الإنسان يلمح أن الجيل الأول القدوة من المسلمين لم يكن يرى التفريق -بهذا الشكل- بين العلم التجريبي وبين العلوم الشرعية من الفقه والتفسير ونحوهما، ذلك أن الإنسان بدأ يشعر بأن النظرة النصفية هذه معطلة للعالم الإسلامي، ولقد كنا نرى الإنسان فلكيًّا ومفسرًا، وطبيبا وفقيهًا. لم تكن النظرة النصفية هذه موجودة، رغم أن التخصص كان أمرًا قائمًا إلى حدّ ما؟

** هذا صحيح، ولعل ما يشكو منه العلماء الآن قضية التفتيت في المعارف، فالتخصص الدقيق جعل الناس ينحصرون في دوائر ضيقة، فجاءت نظرتهم للحياة نظرة جزئية جدًّا، نظرة غير إنسانية لأنها غير متكاملة، إن النظرة المتكاملة هي التي يستطيع الإنسان من خلالها التعرف على قوانين الله - تعالى - في الكون، والقيام بواجبات الخلافة في الأرض على أحسن وجه، وكلما تعرّف على قوانين أكثر كلما كانت قضية عمران الحياة على الأرض أيسر.

 

الفروض الكفائية تعني وجوب تحصيل الاكتفاء الذاتي:

هذا يعني أنه لا يمكن أن تتحقق وظيفة الإنسان الشرعية على الأرض ما لم يحصل على العلم التقني، وأنه -حتى في زمن التخصص- لا بد أن يحمل لنا العقل المجتمعي الإسلامي نظرة عامة عن هذه العلوم جميعًا، بمعنى أن المجتمع الإسلامي يحتوي على كل التخصصات. وهذا الموضوع في تقديري يرتبط بفهم المسلمين الآن لما يسمى فرض الكفاية وفرض العين، حيث أصاب هذا الفهم شيء من القصور، وأعتقد أن طلب العلوم الشرعية -أي ما يجب أن يُعلم من الدين بالضرورة- هو فرض عين على كل مسلم. أما فيما وراء ذلك من التخصصات فتبقى فروضًا كفائية، وأبسط ما يقال في فهم معنى الفروض الكفائية أن يتوافر العدد الذي يغطي حاجة المجتمع لهذا التخصص أو ذاك، فإذا قام به بعض الأفراد دون أن يصلوا إلى الحجم الذي يغطي حاجة المجتمع، يظل المجتمع آثمًا.

اسمها فروض كفائية، ومعنى أنها "كفائية" أنها تحقق الاكتفاء الذاتي في هذا الجانب للأمة المسلمة.

** إن هذا الكلام صحيح تمامًا، ويعكس التصور الإسلامي لقضية العلم -الذي يختلف عن التصور الغربي الأوروبي- حيث نتلقى العلم اليوم من خلال فلسفته؛ فحين قامت النهضة العلمية في العالم الإسلامي وكانت أوروبا تغط في نوم عميق في عصور الظلام أو العصور الوسطى، حمل العالم الإسلامي تراث البشرية من المعارف في الحضارات السابقة والمعاصرة لبعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- حضارة الفرس والروم والهند والصين ومصر القديمة - جمع كل ذلك وصفاه بمنطق النظرة الإسلامية الصحيحة، وأضاف إليه إضافات أصيلة، وحين أخذته عنه أوروبا بعد ذلك عن طريق المدارس الإسلامية في الأندلس وجنوبي أوروبا بصفة عامة - صقلية وجنوبي إيطاليا - ظهر الفارق واضحًا، فالمسلمون لم يجدوا في تعاليم الإسلام وأصوله ما يمكن أن يقف حائلاً دون نشاطهم العلمي، بل وجدوا في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يدفعهم إلى ذلك دفعًا، بينما كان الموقف مختلفاً تمامًا في عصر "النهضة" - عندما بدأت أوروبا في (أواخر القرن السادس عشر) تأخذ بالأسباب انطلاقًا من القاعدة التي علمتها لهم الأمة الإسلامية ومدارسها في شمالي أفريقيا وجنوبي أوروبا، فكانت المفاصلة بين رجال العلم والكنيسة - لأن الكنيسة كانت تتبنى أفكارًا ونظريات علمية مغلوطة انطلاقًا من كتاب "الأصول" أو "الخلق" بالعهد القديم، وكانوا يعتقدون أنها حق إلهي مطلق لا يجوز الخروج عليه، وعندما بدأت الاكتشافات العلمية تتعارض مع ما جاء في "سفر التكوين" قامت حملات الاضطهاد في وجه رجال العلم، فلم يكن للعلم أن ينهض بغير مفاصلة بينه وبين الدين.

 

أخلاق المعرفة:

** الحقيقة أنه في فترة التخلف التي سادت العالم الإسلامي وأصابت عقول بعض الناس بوهم كيفية الإنقاذ من التخلف، كان أقرب سبيل لهم أن قاسوا حالهم وواقعهم على أصول الحضارة الغربية في نظرتها وفلسفتها الحضارية. لذلك توهموا أن ترك الدين هو الذي يخلصهم من التخلف كما فعلت أوروبا، فوقعوا بالمشكلة، لذلك أقول: إن الإسلاميين -بشكل عام الآن- استطاعوا أن يقدموا الدليل ليحطموا الأسطورة التي عششت في عقول كثيرين في العالم الإسلامي من ضرورة الفصل بين العلم والدين ليحصل التقدم، بأن قدموا نماذج على أعلى درجات من التخصص العلمي والتفوق، وفي الوقت نفسه يمكن أن تمثل أعلى مراتب التصور والفهم الإسلامي والثقافة الإسلامية، وهذه قضية أعتقد أن لها أثرًا تربويًّا كبيرًا على الجيل المسلم.

** هذا في الحقيقة ينقلنا إلى الناحية التربوية من الموضوع، فليست القضية قضية تفوق علمي بقدر ما هي -في الأصل- قضية تربوية، كيف نربي الفرد المسلم على فهم صحيح؟ وأنا ممن يؤمنون بأن أحد الأسباب الرئيسة لتخلف جامعاتنا في العالم الإسلامي -على كثرتها ووفرة إمكاناتها- أن هذه الجامعات لم تنطلق من منطلق إسلامي، وليس لديها التزام أخلاقي، فهي جامعات أسست على نظم غربية، وفكر غربي، أو جامعات غربية في أرض إسلامية، وهذا بدوره أدى إلى نوع من الازدواجية عند الطالب بثقافته الإسلامية المحدودة حين يتعلم من كتب غير إسلامية، وبمفاهيم وقيم غير إسلامية، فلا نظام التعليم والامتحانات، ولا المناهج والأساليب التي يعامل بها الطالب، ويتعامل بها الأستاذ نابعة من منظور إسلامي، من هنا كانت حصيلة نظمنا التعليمية ضئيلة للغاية، ومن يخرج منها ثابتًا على دينه وفاهمًا لرسالته في الحياة قلة نادرة، أما الكم الأكبر، فإن العملية التربوية ذاتها تفسده.

** يمكن أن نلخص ذلك بأن المشكلة ليست في العلم فقط، لكن في خُلُق العلم وهدفه المفقود في الفلسفة الغربية، وليست في المعرفة بقدر ما هي في أخلاق المعرفة، لأن الخُلق هو الذي يصرف المعرفة إلى المواقع الخيرة أو الشريرة.

** ولذلك نلاحظ أن نظام التعليم الغربي على الرغم من تفوقه الملحوظ في بناء قواعد علمية وتقنية جيدة، وفي بناء متخصصين في القضايا المختلفة على مستوى جيّد، وفي توفير المكتبات والمختبرات، إلا أنه ينهار في ناحية بناء الإنسان، وتشير التقارير التحليلية إلى أن أسوأ الناس سلوكًا هم أعلى الناس تعلمًا في الغرب. وهذه ظاهرة يدركها التربويون، وكتبوا عنها كثيرًا، ومن ذلك أنهم لا حظوا أن التعليم أصبح من أجل الشهادة، والشهادة من أجل الاستعلاء في الأرض والتسلط، وقد أدّى هذا إلى ظهور نوعيات من البشر، تشقى بها البشرية الآن. وأذكر أن مؤتمرًا عقد عام 1981م في استوكهولم -السويد- تحت عنوان: العلم والتقنية في الحضارة الغربية وفي الإسلام، حضره سبعة علماء من المسلمين وثلاثون من غير المسلمين. وكان الحوار فيه مفتوحًا لثلاثة أيام، حول قضية التقدم العلمي والتقني المعاصر في الفلسفة الغربية وفي الإسلام، وانتهى إلى قرار تاريخي لم يحدث أن وصل إليه مؤتمر من المؤتمرات، حيث قرر أن التقدم العلمي والتقني الحالي يتهدد البشرية بمصير لا يعلم مداه إلا الله -سبحانه وتعالى-، فحجم المخزون من الأسلحة النووية والكيميائية والجرثومية لدى الطرفين المتنازعين -روسيا وأمريكا- أكبر مما يحتاجه تدمير الحضارة المعاصرة عدة مرات. والناس -حيال ذلك- في الغرب يقفون موقفين: إما التسليم بالأمر الواقع، حيث يقولون إن هذا قدر البشرية، وعليها أن تسير فيه إلى النهاية، أو موقف الرفض التام على أساس أن هذا بلاء جاء نتيجة التقدم العلمي، وعلينا أن ننبذه وراء ظهورنا ونعود مرة أخرى إلى "حياة الطبيعة".

ظهرت بالفعل حركات تنزع إلى الهروب من المجتمع والعيش في أحضان الطبيعة، بل إن مدنًا في أمريكا وأوروبا تحرم الآن دخول الآلة الحديثة التي تلوث البيئة. والمشكلة هنا أن الإنسان يعالج الانحراف بانحراف آخر، والإسلام جاء بالتوازن الذي أسميناه الوسطية والاعتدال، وهو أمر مفقود اليوم.

هذا - في الحقيقة - الذي استطعنا أن ننقله إلى العلماء خلال أيام المؤتمر -على تباين تخصصاتهم؛ من اجتماعيين وتربويين وعلماء في الطاقة النووية وفي الطب والجيولوجيا- رؤية الإسلام الوسطية التي أشرتم إليها، وينتهي المؤتمر فعلاً إلى الإقرار بأن الإسلام لديه الحل لأنه منهج وسط لا يميل إلى أي جانب من هذه الجوانب المتطرفة، وأنه النظام الروحي الوحيد الذي يستطيع إيقاظ ضمير الإنسان ويجعل من نفسه على نفسه رقيبًا. لذلك أقول: إن قضية إعادة صياغة العلوم من منظور إسلامي قضية أساسية وضرورة إنسانية، فقد مرّت بنا فترة غفوة، تخلّف فيها المسلمون علميًّا وتقنيًّا، وفي الفترة نفسها جاءت النهضة في العالم غير الإسلامي على أساس المفاصلة بين العلم والدين، وعندما استيقظ المسلمون ليلحقوا بالركب، أخذوا ما كتبه الغربيون بغثِّه وثمينه دون تمييز.

كان التمييز صعبًا عليهم -في الحقيقة- لأنهم عاجزون أصلاً عن الفهم، حيث إن موقع التخلف ينسحب على كل شيء، ولو لم يفتقدوا التمييز ما كانوا في حالة تخلف.

هذا صحيح، فقد كان العالم الإسلامي في ذلك الوقت مستعمرًا من قبل البريطانيين أو الفرنسيين أو الإيطاليين استعمارًا عسكريًّا واقتصاديًّا وفكريًّا وعلميًّا. وكانت المعاهد والمدارس في أيدي القوى المستعمرة، وكان الأوروبيون يكتبون الكتب العلمية مباشرة لهذه المدارس أو يترجمونها إلى العربية، وتأتي الخطورة من هنا، فعندما كان العالم العربي يكتب العلوم كان يكتبها من منطلق إلحادي أو لا ديني صرف، من خلال الصورة التي انتهى إليها، ثم نُقل ذلك إلى العالم الإسلامي، الأمر الذي أدى إلى موقف خطير، فالمسلمون عندما بدءوا بقراءة هذه الكتابات العلمية، ورأوا فيها إلحادًا، نفروا منها - من ذلك الأزهر مثلاً، الذي لم يكن في وقت من الأوقات مدرسة للدراسات الإسلامية والعربية فقط بل أيضًا مدرسة علمية متخصصة - حيث كان فيه جغرافيون ورياضيون وفلكيون متميزون، في سنواته الأولى - ثم تقوقع على الدراسات العربية والإسلامية فقط لأنه وجد أن سيل المعرفة الذي يأتي إلى العالم الإسلامي إلحادي صرف، فواجهه بالانغلاق، وكانت النتيجة، إما صد ذلك التيار الإلحادي صدًّا كاملاً بإهماله وتركه، أو مجاراته وقبوله، ظنًّا أن هذه هي وسيلة الأخذ بالأسباب.

 

قضية الابتعاث:

** أعتقد أنه ما من شك أن تخلف المسلمين هو الذي حال دون الخطوات الصحيحة المتميزة، لأنهم حينما كانوا يتمتعون -تاريخيًّا- بمعدة هاضمة علميًّا، وكانوا على درجة من التصور الإسلامي الصحيح لم يقعوا في هذه المشكلة، فنحن الآن - في الحقيقة - واقعون في المشكلة بسبب التخلف عن الوظيفة الإسلامية لعمارة الأرض، وبسبب التخلف عن الثقافة الإسلامية وأبعادها الحقيقية، والانفصال العلمي الذي يمارسه المسلم بين الدين والحياة؛ وإن كان هو يرفع شعارات تعاكس ذلك، يقول إن الإسلام دين شامل لجميع جوانب الحياة، ولكننا نراه في الممارسة يعيش على جانب ويدع بقية الجوانب. المطلوب كيفية الخروج، كيف ننتهي من الأمنيات؟ من أمنية إعادة صياغة العلوم أو هضم العلوم، أو ما هي كيفية تعامل المسلم مع الواقع من خلال التصور الإسلامي؟ وما هي الوسائل العلمية في نظرك؟

** لا بد لي أن أقول -قبل الإجابة- بأنه إذا أردنا أن نصحو علميًّا وتقنيًّا، فعلينا أولاً أن نعيد صياغة المعارف بتصور إسلامي صحيح وباللغة العربية، وأن نبني مدارسنا العلمية بأيدينا، لا يمكن أبدًا للأجنبي أن يبني قاعدة علمية في بلد مسلم البناء الذي نأمله، فمثلاً، قضية الابتعاث المستمرة للخارج قضية تهدم مبدأ التقدم العلمي والتقني من أساسه، لأن أي شاب - والجامعات عادة تبني قواعدها العلمية بشبابها -بعث به للخارج- بغض النظر عن أني أعرضه لعملية غزو فكري رهيبة - يتعرض لتصيد من الكنيسة، ومن اليهودية وعملائها، والحركات الاستخبارية، هذه كلها عوامل نفسية تحول دون النمو العلمي والتقني للشباب، بالإضافة إلى ذلك، فإننا نبعثه في جو غريب يستخدم أجهزة قد يعود إلى بلده ولا يجدها، ومكتبة قد يعود إلى جامعته ولا يرى مثلها، وقد يوجه دراسته إلى التركيز على مشكلة قائمة هناك قد لا تهم البلد المبتعث منه، وحينما يعود يشعر أنه قد فصل من البيئة التي تربي فيها علميًّا، هذا بالإضافة إلى أنه قد أصبح اليوم -لدى كثير من الجامعات الغربية- اعتقاد أن المسلم ليس ضروريًّا أن يتعلم جيدًا، ويمكن أن يعطى الشهادة التي يحتاجها، ولكن حين أقوم ببناء قاعدة علمية في بلدي، فالشباب هو الذي يصمم الجهاز الذي يريد أن يعمل عليه، ويعمل على توفيره، وهو الذي يطلب الكتب التي تلزمه، وينشئ مكتبة جيدة، ويبدأ بدراسة مشكلة محلية فيساعد على حلها.

والقاعدة العلمية كالشجرة -حقيقة- تحتاج لمد جذورها إلى الأعماق حتى تؤتي ثمارها، لدينا في العالم الإسلامي جامعات عمرها أكثر من خمسين سنة - وهذا صحيح - ولكن ماذا قدّمت إلى الآن؟ إنها لا تزال تعيش في الغالب على الابتعاث!!

** هل تعتقد أنه بواقع العالم الإسلامي الآن نستطيع أن نلغي عملية الابتعاث؟ أنا أرى أن القضية قد حُل بعضها ولا يزال بعضها الآخر متوقفًا بانتظار الحل، بحيث يمكن أن نفكر بإلغاء بعض جوانب عملية الابتعاث في الصورة التي هي عليها الآن -على مراحل- ونضع خطة للانتهاء منها، فإلغاء الابتعاث فورًا قضية قد تعود على العالم الإسلامي بشيء من الانغلاق لأن الجامعات الآن غير مؤهلة لما تطرحونه، فإذا استطعنا أن نهيئ دليلاً ثقافيًّا من خلال الروّاد الذين أدركوا خطورة عملية الابتعاث وأبعادها، وننبه إلى أهمية المراكز الإسلامية -التي أصبحت حصون حماية في الغرب إلى حدّ بعيد- ونضع عمرًا لانتهاء عملية الابتعاث بشكل عام، ونقتصر على حاجاتنا، يمكن أن نرى في ذلك طريقة صحيحة أكثر من عملية الانغلاق وإلغاء الابتعاث، لأننا لم نر من الابتعاث غير وجهه الشرير تاريخيًّا، وإلى جانب ذلك رأينا بعض النماذج الفاضلة؛ فبعض الأخوة الذين ذهبوا، عادوا إلينا أكثر ثباتًا وأعمق شعورًا بالتحدي الحضاري، وأحسنوا عملية الاستفادة، واحتفظوا بإسلامهم، وقدموا لنا أشياء ومعالم كثيرة.

لا شك أنني حينما أنادي بإلغاء الابتعاث، لا أنادي بإلغائه بين يوم وليلة، فلا بد من وضع برنامج تتم العملية بموجبه على مراحل تدريجية؛ عبر عشر سنوات أو خمس سنوات -حسب إمكانية كل بلد- ولكن دعني أقدم لكم أنموذجاً طيبًا:

لقد كنت مدعّوا إلى مؤتمر علمي -عُقد في باكستان- وقمنا خلاله بزيارة مركز الأبحاث في لاهور، وهزني أن أرى كل جهاز في هذا المركز مصممًا ومصنوعًا بأيدٍ باكستانية، على الرغم من أن المركز فقير من الناحية المادية، هذه هي عملية بناء القاعدة العلمية، أما أن نقتصر على الابتعاث فلن نبني قاعدة علمية محلية أبدًا، ومعنى هذا أن يبقى الابتعاث هو البداية والنهاية، ونظل دائمًا في موطن التلقي.

** هذا إذا لم نرسم له عمرًا معينًا لننتهي من الكثير منه، ونقيم القواعد العلمية والمختبرات في جامعاتنا، وإلا سنبقى في مرحلة التخلف التي يريدها لنا الغرب. المطلوب هنا هو إعطاء عمر لإنهاء الابتعاث بشكله القائم وليس الانغلاق دونه.

أنا لا أرى الانغلاق حتى بعد أن نوقف الابتعاث أو نحد منه، فحين أحقق إنشاء القاعدة العلمية في بلدٍ ما، سيقوم العلماء الذين انتهوا من مرحلة الدكتوراه محليًّا بزيارات علمية، ويحضرون مؤتمرات، ويتبادلون البحوث والدراسات المتقدمة، وذلك لأن عملية التبادل العلمي والثقافي تساعد في إحداث النضج المطلوب. نحن لا ننادي بالانغلاق، فالعلم ليس ملكاً لأمة من الأمم، ولا لشعب من الشعوب، ونحن أولى الناس به، فالحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أولى بها.

 

النبوغ ومناخ الاستبداد:

** من خلال دراسة أسباب عدم النبوغ العلمي في العالم الإسلامي يمكن أن نقول بأن عامل اللغة من العوامل الرئيسة، فهي قالب التفكير، ووسيلة التواصل التاريخي والحضاري بين الأجيال، إلى جانب ضرورة توفر مناخ الحرية -المفقودة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي- التي يجب أن يتوافر للعلماء بصفة خاصة، وللناس بصفة عامة؛ ذلك أن قضية الحرية على جانب كبير من الأهمية، فلا يمكن لعالم غير مستقر نفسيًّا وغير مطمئن على نفسه وعلى عرضه وعلى ماله أن يبدع. هذا مع العلم بأن عملية الإبداع لا تتم في سنة أو اثنتين بل في عشرات السنين، والإنسان القلق -لسبب أو لآخر- عاجز عن الإبداع والعطاء.

تحضرني هنا مناقشة دارت بيني وبين الأستاذ الذي كنت أعمل معه في بريطانيا عندما استقبلني أول مرة، حيث سألني: ماذا يفعلون للناس في بلادكم؟.

ولم أفهم السؤال لأول وهلة، ولم أفهم ماذا يريد، فأضاف موضحًا:

"لقد عمل معي عدد كبير من الشباب من بلادكم، وكنت أتوقع لهم مستقبلاً باهرًا، وبمجرد عودتهم لا يصلني منهم سوى رد على خطاب أرسله، ثم بطاقة تهنئة بمناسبة ما، ولا أدري بعد ذلك هل هم أحياء أم أموات!! "

الحقيقة أن العيب ليس في الناس وقدراتهم، بدليل نبوغ الكثير منهم في دراساتهم في الغرب، بل في البيئة والمناخ، كما نلاحظ أن الذين أضافوا للعلم في أوروبا وأمريكا، نشأوا على القاعدة العلمية التي أقامها الرعيل الأول -وهي قاعدة مستمرة- ولذلك فهم يتقدمون بقوة الدّفْعَةِ الذاتية الأولى، بقوة الاستمرارية

لقد كان الحافز الرئيس للنشاط العلمي ينبع من احترام المجتمع وتقديره للعلم والعلماء، وهذا أجدى من التقدير المادي. إن إهمال المجتمع لهذه النواحي، وعمليات الإرهاب الفكري التي يعيشها المجتمع في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وعدم الشعور بالاطمئنان والأمن والاستقرار -بصفة عامة- كلها عوامل تؤدي إلى الحيلولة دون النبوغ العلمي.

الحقيقة أن مناخ الاستبداد السياسي لا ينشئ نبوغًا علميًّا ولا علماء، لكن في الوقت نفسه من المفروض أن نوفر للجيل المسلم -وللإسلاميين بشكل عام- حصانة نفسية تحول دون السقوط، فكيف نستطيع حمل الشباب المسلم على تجاوز الصورة إلى الحقيقة؛ ليعلموا أن الحقائق هي التي تبني مجتمع المستقبل؟ فنحن لا نرضى بأن نستسلم لما أريد لنا من مخططات ونعدم الأسلحة أمام التحدي القائم.

ما من شك في أن فهم الفرد المسلم للإسلام هو الحل لكل هذه القضايا، فهم المسلم معنى "لا إله إلا الله" وأنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله -سبحانه وتعالى-، فإذا تربّى المسلم من الصغر على فهم دقيق للعقيدة الإسلامية، بمعنى أن عمره في هذه الدنيا حدده الله -تعالى-، ولا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تزيد من عمره لحظة أو تنقص منه لحظة، وأن رزقه مقدّر سلفًا، ولا تستطيع قوة على الأرض أن تزيده أو تنقصه درهمًا واحدًا، هذه المعاني النفسية مهمة جدًّا وبدونها يضيع الإنسان.

 

النبوغ في خدمة العقيدة:

** يعني الحصانة النفسية لمواجهة الاستبداد، ذلك أننا نعتقد أن الاستبداد السياسي يعطل عملية النبوغ - بشكل عام - ومع ذلك فأرى أن صوراً للاستبداد السياسي لم تعطل النبوغ عند علماء تمتعوا بالحصانة النفسية، فهم في ذلك قدوة للجيل المسلم -مثل ابن تيمية- على الرغم من الظروف التي كانت محيطة في عصره.

** هذه فلتات، ذلك أنهم تمتعوا بالحصانة النفسية.

** وهذه الفلتات أرى أنه يجب أن تكون معالم للجيل المسلم حتى لا يستسلم ويقف عن أداء رسالته. إن تقديم نماذج من هؤلاء العلماء للجيل، يصحح ويعالج وضعه النفسي، ولنا أيضا في العصر الحاضر نماذج من المسلمين الذين لم يحد الاستبداد السياسي من ظهور نبوغهم على الساحة الإسلامية، إلا أن الرؤية لا تزال عاجزة عن جعل النبوغ في خدمة العقيدة، بمعنى أن المسلم لو كان نابه الذهن لأدرك أنه يستطيع أن يخدم دعوته الإسلامية من طريق المواقع التي يعتليها كطبيب أو مهندس متفوق أكثر من وجوده في مواقع أخرى، فقضية الدعوة ليست بهذه الوسائل المحدودة التقليدية المتنقلة من جيل إلى جيل، وإنما الحياة بكل شعبها، فأنا أعتقد أن راعي الغنم في طريق الهجرة؛ وبرغم وظيفته البسيطة في سلم الحياة الاجتماعية قد جعلها في خدمة عقيدته، حيث جعل الأغنام تمر على آثار أقدام أسماء بنت أبي بكر إذا خرجت إلى الغار أو عادت منه، فعطّل بذلك الرؤية واقتصاص الأثر عند أعداء الإسلام الذين يطاردون المهاجرين؛ حتى إننا نستطيع أن نقول بحسب الأسباب البشرية إنه شكّل منعطفًا في التاريخ الإنساني.

** أود أن أعقب على هذا، بأن مرحلة جديدة تعتمدها الحركات التنصيرية في العالم الإسلامي المعاصر أبعد من اعتمادهم الكوادر الفنية من أطباء ومدرسين وغيرهم كوسيلة من وسائل العمل؛ حيث إنهم يقومون الآن بحركة يسمونها "حركة صانعي الخيام" نسبة إلى أحد القديسين عندهم، أظنه "سان جون" الذي كان يتعيش من صناعة الخيام؛ فيعتبرون كل كادر فني موجود في بلد هو أحد هؤلاء الذين يتعيشون من مهنتهم ويعملون لخدمة الحركة التنصيرية.

** هذه حقيقة إسلامية، فما من نبي من الأنبياء إلا وله حرفة، وما من عالم من علمائنا القدامي إلا وقد اشتهر بحرفته، الخياط والوراق والبزّاز وحتى الإسكافي. إن قضية "لا أسألكم عليه أجرًا" قضية خطيرة، غائبة عن ذهن المسلمين، ولكنها تؤثر بصورة سلبية على التصور الشمولي لواجبات الفرد المسلم في مجتمعه وتجاه دعوته، حتى إن بعض الشباب المسلم يفهم أن قضية التعلم تقابل قضية الدعوة ولا تنسجم معها، أي أن قضية الدعوة تقابل قضية التعلم والاستمرار بالجامعات والحصول على الدرجات العلمية، وقد يدع بعضهم الكليات العلمية تحت عنوان القيام بالدعوة الإسلامية، ويرفض الاستمرار في دراسة الطب أو الهندسة، وقد يكون ذلك في سنوات الدراسة الأخيرة، ويدع هذه المنابر الخطيرة ذات الأثر الكبير في المجتمع ويعزف عن القضية العلمية ظنًّا منه أنها ليست من الدين، علمًا بأنه إذا لم يستطع المسلمون اعتلاء المنابر المتقدمة، وتطوير وسائلهم بمنطق العصر، تستمر الإصابة بالتخلف، ويعزلون أنفسهم عن المجتمع.

** هذه نقطة من أهم النقاط التي أثيرت في حوارنا هذا، فما من شك في أن فهم المسلم لطبيعة مهمته في الحياة -عبادة الله وذلك بالقيام والاستخلاف في الأرض- مهم وأساس، لأن كلا الجانبين في مهمته مكمل للآخر. إن فهم رسالة الإنسان في هذا النطاق يحقق مطلوب الإسلام في التعبد لله -سبحانه وتعالى-، والسعي وراء الرزق في نطاق الإيمان بالله، والسعي في كسب العلم في إطار من الإيمان كالعبادة، ولا بد أن يفهم المسلمون ذلك جيدًا. إن الدراسات الإسلامية قضية تخصصية، ويوفّق لها من أعطاه الله -تعالى- الملكات لهذا التخصص، وليس كل إنسان لديه المواهب نفسها، بل من رحمة الله -تعالى- أن تتوفر الإنسانية على فوارق فردية وملكات مختلفة.

 

اختصار فجوة التخلف:

** في الحقيقة، هناك حد أدنى لما يجب أن يُعلم من الدين بالضرورة، وهو ما لا يستطيع مسلم أن يمارس إسلامه ولا عبادته إذا لم يتعلمه، لكني أتكلم فيما وراء هذا القدر، وكل إنسان محاسب على حواسه وملكاته التي منّ الله عليه بها، وهو مسؤول أن يستخدم هذه الملكات إلى أقصى قدر ممكن، ومن ذلك أن يكون نابغًا في النواحي التي مكّنه الله منها، سواء أكانت هندسية أو طبية أو علمية. نقطة أخيرة أود طرحها في هذا الحوار؛ هي أن بعض الناس في عالمنا الإسلامي يعتقد بأنه من المستحيل على المسلمين اللحاق بالركب العلمي والتقني الذي وصلت إليه أوروبا وأمريكا، والأولى بهم أن ينصرفوا إلى آفاق أخرى؛ لأن عملية الاختصار لفترة التخلف أصبحت بعيدة المنال، وهذا يعني أن المسلمين سيبقون - في القضية العلمية - يعيشون على العطاء الغربي، فما أدري: هل هذه المقولة في المجال العلمي مقولة صحيحة؟ وهل من المستحيل فعلاً على المسلمين الآن أن يختصروا فجوة التخلف؟

** طبعًا.. ما من شك أن الفجوة التي بيننا وبين العالم غير الإسلامي والعالم الغربي بصفة عامة في قضايا العلم والتقنية فجوة هائلة جدًّا، وتزداد هذه الفجوة اتساعًا يومًا بعد يوم بمعدلات رهيبة، لأنهم يعملون بتخطيط دقيق، ونحن نعمل بغير تخطيط - إن كنا نعمل - لكن تبقى نقطة هامة للغاية أود أن أطمئن المسلمين عنها وهي:

أن العلم والتقنية من القضايا المنطقية، بمعنى أنها ليست طلاسم، وليست ألغازًا بحيث لا يستطيع العقل الإسلامي أن يستوعبها وأن يفهمها، بل بالعكس هي قضايا منطقية، يمكن للذي يبدأ الآن معالجتها بموضوعية أن يصل فيها إلى أقصى ما وصلت إليه المجتمعات الأخرى؛ لأنه سيأخذ آخر ما وصلوا إليه وينطلق به، وعلى هذا فإن محاولة رأب هذه الفجوة ليست مستحيلة على الإطلاق، بشرط أن نأخذ بالأسباب، ونبدأ في بناء معاهدنا العلمية ومراكزنا التقنية بشيء من الجدية. وأقول: - للأسف الشديد - إن المعاهد والمراكز في العالم الإسلامي اليوم تتصف بصفة المظهرية، حيث تهتم بالشكل ولا تهتم بالمضمون أو المحتوى.

فإذا نحن أخذنا بالأسباب فمن المؤكد - خلال سنوات معدودة وفي فترة زمنية قصيرة - أن تُردم هذه الفجوة بإذن الله، علمًا بأن مقومات ذلك متوافرة، حيث يوجد لنا في كل جامعات العالم الغربي والشرقي على حد سواء، كوادر إسلامية على أعلى مستويات العلم والتقنية، وهي تقوم بأدوار رئيسة في البناء التقني الغربي، وتحظى بالتقدير والاحترام، في مناخ يهيئ لها فرص النبوغ والإبداع.

ولكن إذا لم تُجبر هذه الفجوة، هل نرضى بالتخلف الدائم للمسلمين؟! وهل سيظل القرار السياسي والقرار الاقتصادي والقرار الفكري - على مستوى العالم - لغير المسلمين؟ هذا هو السؤال.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply