الطفل السليم .. في البيت السليم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

إنّ السلوك الطبيعي للطفل هو نفس السلوك الذي يمارسه أقرانه، أو غالبيتهم -من نفس السن– في ظروف نشأة طبيعية في نطاق الأسرة ضمن مجتمع متوازن، وانخراط الطفل بمجتمعه بشكل عفوي وودّي يعتبر في نظر الباحثين درجة عالية من الطبيعية، أمّا سوء التكيّف الاجتماعي، فإنّما يعني وجود حالة مرضية كخلل نفسي، أو تربوي يحول دون عملية التهذيب السلوكي للطفل (الفرد)

ونظراً للأهمية البالغة لمرحلة الطفولة كدرجة عمرية يقتضي تجاوزها الكثير من التريّث والعقلانية، من حيث التربية والتوجيه والإعداد لمرحلة اليفاعة، وتشابك  تلك المرحلة وتداخلاتها المعقدة مع جميع المراحل اللاحقة، فقد نشط أخصائيو التربية، وعلماء النفس، والباحثون الاجتماعيون لإعداد الأبحاث المتطوّرة في هذا المجال وفق أسس ومعايير دقيقة، تعتمد التحليل السلوكي للتصرفات اليومية للطفل، ودراسة الظواهر المصاحبة للفعل الطبيعي، ورد الفعل لديه.

ونتيجة لما طرأ على الحياة الاجتماعية المعاصرة من خلل في البنى الأساسية التي تنهض عليها، والتي أمدّتها بأسباب ثباتها لسنين طويلة، وما شاب هذه العلائق من تطوّر وانفتاح سلبيين نتيجة البعد عن العادات والتقاليد الأصيلة المتوارثة، وتفسخ القيم الدينية والأخلاقية بتأثير الحضارة الغربية المبهرة، فقد انعكس هذا كله على التركيبة الأسرية في مجتمعاتنا بمختلف مواطنها (الريفية والمدنية) بدرجات متفاوتة، حتى أصبح هاجس البعض أن يتقن تربية أولاده حسب توصيات الدكتور (سبوك)

ويعزو المراقبون أسباب التفسخ الأسري، وخلل العلاقات الاجتماعية إلى أسباب إقتصادية واجتماعية عديدة، فخروج الوالدين معظم ساعات النهار إلى عملهما، وانشغال الأقارب بهمومهم اليومية، وانهماك الجيران في أعمالهم، وتباعد الأهل نتيجة نمو المدن واتساعها، وولع الأطفال بوسائل الترفيه الحديثة (تلفزيزن وفيديو وأتاري وانترنيت وبلاي ستيشن) دون رقابة أوتوجيه من أحد إضافة إلى الفهم الخاطىء –أحياناً- لطرق التربية الحديثة، والتوجيه السليم داخل البيت، والمحيط الاجتماعي، مع التشريعات المتعجلة لأساليب التربية المدرسية التي استبعدت العقاب البدني، ومنعت الترهيب، والبرامج الارتجالية التي تبثّها وسائل الاعلام المختلفة يومياً وعلى مدار الساعة، مع مسيرة العولمة الكاسحة وانعكاساتها المختلفة ، كل هذه العوامل وغيرها أوجدت -ربّما دون قصد– خللاً تربوياً ، وانحرافاً سلوكياً لدى الطفل يصعب السيطرة عليه

ولئن كان علم النفس الفردي يدرس الخصائص والمكوّنات الفردية لشخص بعينه، ويحاول إرجاع مستويات الأفراد إلى فروق فردية، إلاّ أنه لا يدرس هذه الفروق بعيداً عن الخصائص النفسية والجسدية والاجتماعية، ولا بعيداً عن العادات والقدرات، وتأثير العوامل الثقافية المختلفة، والتدريب المكتسب

من هنا نستنتج بأنّ التوجيه السليم والرعاية الحقّة، والتشريعات المنظمة لحقوق الطفل وحمايته تمنح الطفل قسطاً عالياً من الطمأنينة، وتشعره بأهميته كفرد من أفراد الأسرة، وتبعد عنه شبح القلق الذي –ربّما– يقوده تدريجياً إلى الانحراف السلوكي، ويحوّله ببطء إلى العدوانية كردّ فعل طبيعي للفت النظر إليه، واستجداء الرعاية والاهتمام على طريقته الخاصة، لأنّ القلق داء سهل التغلغل إلى نفوس الأطفال نتيجة أي خلل اجتماعي صغر أم كبر، ويأتي عن طريق الوحدة والفراغ والإهمال، وطغيان القيم المادية في المجتمع  أيضاً، وأكثر مايورّث القلق هو الوحدة والخوف والخواء الروحي، والله سبحانه وتعالى يقول :{الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألابذكر الله تطمئن القلوب} سورة الرعد: الأية 8 والقلق كما يراه (فرويد) عبارة عن  "رد فعل على حالة الخطر التي يتوقعها الطفل"، وقد أجرى الباحث (بياجيه) في العام 1932م سلسلة دراسات بسيطة ولكنها مهمّة في تناولها لبحث الأحكام الأخلاقيـة عند الأطفـال لملاحظـة أنّ حكم شخص على  (صلاح أو فساد) سلوك معيّن يتوقف في جزء كبير منه على إدراك ذلك الشخص لأسباب هذا السلوك

بهذه النتيجة يؤكّد بياجيه على الوالدين أن يعيا معادلة مهمّة في أسس التربية والرعاية الصحيحة للطفل، فبقدر مايملكان من الحزم والشدة للسيطرة على الطفل، وتنمية شخصيته عليهما بنفس الدرجة أن يشعراه بمقدار كاف من العطف والحنان، ليكبر الطفل على قيم إيجابية مثل الالفة والمودّ والرحمة والإيثار والصدق ، هذه القيم التي تمدّ الطفل بأسباب التواصل والاندماج والتعاون مع الآخرين، وعلى الوالدين أن يحرصا كذلك على إرضاء الطفل بقدر معقول من تحقيق الرغبات الممكنة له، لتحقق المعادلة التربوية غايتها بنسبة كبيرة عندما تجنّب الطفل الانحدار إلى مستوى الدلال والميوعة، وتبعده عن دائرة الأذى والعنف، والإمام علي رضي الله تعالى عنه يوصي الوالدين بأبنائهم أن (أدّبوهم ولاعبوهم)

ويؤكّد خبراء التربية، وعلماء النفس على قائمة من التوصيات التي يؤدّي الإلتزام بها إلى تحقيق الهدوء والاستقرار النفسي للطفل ، كأن يقوم الوالدان بحلّ خلافاتهما بعيداً عن أعين الصغار، وبشكل هادىء لا يثير انتباههم لأن اضطراب العلاقة الأسرية، وتنامي التوتر النفسي، والخلافات المتكررة حتى بين الإخوة أنفسهم، هذه المشاكل تتناسب طرداً مع زيادة التفكك العائلي، وانحراف السلوك الفردي، وتسهم في تشكيل شخصية مشوّهة انفعالية للصغار، لأنّ تصدّع القيمة (الرمز) المتمثلة في الوالدين تهتزّ صورتها، وتفقد هيبتها، ويضعف دورها في قيادة الأسرة الى النجاح والاستقرار، ولا تتوقف صورة القدوة على الوالد فقط، وإنما هو أقرب القدوات وأبسطها، فلكل أمة تاريخها وتراثها الحافل بالشخصيات القيادية، والرموز العظيمة، فنحن كأمة عربية إسلامية لنا في رسول الله صّلى الله عليه وسلّم أسوة  حسنة، وصفحات تاريخنا تزخر بسير القادة العظماء، والأئمة الأجلاّء، والمفكرين والمبدعين والرجال الصالحين، ولا يتطلّب الأمر منا سوى جهداً بسيطاً يتمثّل في إعادة كتابة التربية الوطنية بشكل يليق برموزنا الكبار، وينصف قادتنا، ويرى العالم الاجتماعي (لوكاش): "أنّ الحياة الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية هما نتاج لعملية تطوّر وتغيير تكون حصيلتهما بروز ما نطلق عليه "التاريخ"، فأطفال اليوم هم رجال الغد، وقادته، وصنّع تاريخه، فأيّ تاريخ يصنعه جيل يلهو بـ (البوكيمون وباربي)، ويشاهد (باباي وتوم وجيري)، ويتمثّل بـ (غراندايزر ورامبو)

وإننا إذ نرى كل هذا صاغرين، فتلك خيانة، وسوء أمانة فالحذار الحذار، لأنّ أحلامنا المؤجّلة تتبخّر، والجيل الذي نعقد عليه الآمال يستحقّ منا الجهد والتعب، فعجلة الزمن تسير، والتاريخ لايطيق الانتظار

وإنّمــا أولادنا بيننــا                  أكبادنا تمشي على الأرض

فرعاية أطفالنا وتهذيبهم وتنشئتهم على القيم والمثل والمبادىء أمانة في أعناقنا، والتقصير في واجبنا نحوهم خيانة عظمى، لأنّ نشأة جيل مشوّه مهزوم يعني مواجهة خاسرة مع العصر

وإنّما الأمم الأخلاق مابقيت                        فإن همٌ ذهبت أخلاقهم ذهبــوا

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

 

المقال مقطع من دراسة للكاتب بنفس العنوان مشوح

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply