يا عائش! حشا رابيةً


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

هذا العنوان الذي عنونت به لهذه القصة نصُّ سؤال وجّهه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زوجته عائشة، يستعلم منها عن السبب في ارتفاع نفسها واشتداده مع أن المفروض ألا تكون كذلك؛ لأنه تركها نائمة عندما انسل في ليلتها خارجاً إلى البقيع، فتبعته ظانة أنه ذاهب إلى بعض أزواجه، فلما عاد أدراجه إلى منزله رأى سواداً يسعى بين يديه، وكانت تلك عائشة.

 

نص الحديث:

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ؛ أنَّهُ قَالَ يَوْماً: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي! قَالَ: فَظَنَّنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ. قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم! قُلْنَا: بَلَى.

قَالَ: قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِيَ الَّتِي كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْداً، وَانْتَعَلَ رُوَيْداً، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْداً، فَجَعَلْتُ دِرْعِي في رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إزَارِي. ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إثْرِهِ. حَتَّى جَاءَ الْبَقيعَ فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ.

فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ. فَلَيْسَ إلاّ أنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ. فَقَالَ: (مَالَكِ؟ يَا عَائِشُ! حَشْيا رَابيَةً!) قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ شَيْءَ. قالَ: (لَتُخْبريني أَوْ لَيُخْبرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبيرُ) قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! بأَبي أَنْتَ وَأُمِّي! فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ: (فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟) قُلْتُ: نَعَمْ. فَلَهَدَني في صَدْرِي لَهْدَةً أوْجَعَتْنِي ثمَّ قالَ: (أظَنَنْتِ أنْ يَحِيفَ الله عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟) قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ الله. نَعَمْ.

قَالَ: (فَإنَّ جِبْرِيلَ أتَاني حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي. فأخْفَاهُ مِنْكِ، فأَجَبْتُهُ، فَأخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أنْ تَسْتَوْحِشِي. فَقَالَ: إنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أنْ تَأْتِيَ أهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ).

قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟ يَا رَسُولَ الله! قالَ: (قُولِي: السَّلاَمُ عَلَى أهْلِ الدِيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُسْلِمِينَ، ويَرْحَمُ الله الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرينَ. وَإنَّا، إنْ شَاءَ الله، بكُمْ لَلاحِقُونَ).

 

تخريج الحديث:

رواه مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز، باب ((ما يقال عند دخول القبور))، [ورقمه: 974[.

وعزاه ابن الأثير بالإضافة إلى مسلم إلى النسائي والموطأ مختصراً [جامع الأصول: 11/154[.

 

غريب الحديث:

ريثما:  أي: بمقدار ما.

رويداً:  متمهلاً فيما يفعله من أخذ الرداء والانتعال وإيجاف الباب.

أجاف الباب:  أغلقه.

درعي:  درع المرأة قميصها.

واختمرت: الخمار غطاء الرأس.

أحضر:  عدا، أي: ركض.

وتقنعت إزاري:  أي: لبسته.

حَشْيا رابية:  الحشو ارتفاع النفس وتواتره، ويكون المرء كذلك إذا أسرعْ في مشيه، أو انطلق راكضاً، والرابية من الربو، وهو ارتفاع النفس.

السواد:  أي: الشخص.

فلهدني:  أي: دفعني.

يا عائش:  أي: يا عائشة، حذف الرسول صلى الله عليه وسلم الحرف الأخير من اسمها على طريقة العرب في كلامها فيما يسمى بالترخيم.

 

شرح الحديث:

حدّثت عائشة بعض طلبة العلم الذين كانوا يقصدونها لسماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره منها، ولتفقههم فيما ترويه عنه، وقد استعملت معهم أسلوب التشويق، قائلة: ((ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: بلى)).

فحدَّثتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها في إحدى الليالي التي كان دورها فيها، فأخذ يتهيأ للنوم، فخلع رداءه عن كتفيه ووضعه، وخلع نعليه، وجعلهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، ثم اضطجع.

ولكنه لم يلبث في فراشه إلا بمقدار ما ظن أنها قد نامت، فقام بهدوء شديد، وأخذ يتهيأ للخروج، فأخذ رداءه، ووضعه على كتفيه، وانتعل نعليه، ثم فتح الباب فخرج وأغلقه وراءه، كل ذلك يفعله رويداً رويداً حتى لا يوقظها من منامها.

فما كان من عائشة إلا أن قامت مسرعة، فأخذت عليها ثيابها التي تلبسها حين تريد الخروج، فلبست قميصها وإزارها، واختمرت بخمارها، وانطلقت في إثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ظانةً أنه ذاهب إلى بعض نسائه في ليلتها.

ولكنها أخطأت في ظنّها، فلم يتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى واحدة من نسائه، بل توجه إلى بقيع الغرقد، وهو المقبرة التي تضم رفات أصحابه، فأخذ يدعو لهم واقفاً، فأطال الوقوف، ثم رفع يديه ثلاث مرات يدعو لهم.

انصرف الرسول صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى منزله، فانقلبت عائشة راجعة مسرعةً كيلا يعلم باتباعها إياه، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداً يسعى بين يديه في ظلمة الليل، فأسرع ليدركه، فزادت عائشة من سرعتها، فمشى الرسول صلى الله عليه وسلم أسرع ما يكون الرجل ماشياً، وهو الهرولة، فهرولت عائشة بين يديه، فما كان منه إلا أن عدا راكضاً، فعدت عائشة فسبقته، وانسلّت إلى فراشها، سريعاً، كي تخفي أمرها على الرسول صلى الله عليه وسلم .

ولكنها وإن استطاعت أن تأخذ الوضع الذي كانت عليه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندها، إلا أنها لم تستطع أن تخفي آثار عدوها المتمثل في ارتفاع نفسها وسرعة تواتره، فالقلب يخفق في مثل هذه الحالة بشدة، ولا يطيق الإنسان أن يخفض من نبضات قلبه، وعلو نفسه وتسارعه بمجرد إرادته.

ولحظ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك منها، فسألها عنه، فلم تعترف له بما كان منها، ولم تقدّم تفسيراً مقنعاً لما لحظه عليها، هنا واجهها بأمر جعلها تبوح بسرّها، قال لها: ((لتخبريني أو ليخبرنِّي اللطيف الخبير) فأخبرته بما كان منها، وأنها كانت هي السواد الذي عرض له أمامه، فجمع عند ذلك أصابع يديه، ودفعها في صدرها فآلمها، وهنا وجّه إليها اللوم في ظنّها به أن يذهب إلى غيرها من أزواجه في ليلتها، مستنكراً عليها ظنها فيه، مؤنباً لها في سماحها لذلك الظن أن يجول بفكرها: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟) فقالت معترفةً بما كان منها: ((مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم)).

ثم بيّن لها السبب الذي جعله يفعل ما فعل، فقد جاءه جبريل عليه السلام بعد أن تهيأ لمنامه، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخفى نداءه عن عائشة، وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم جواباً أخفاه عن عائشة، وسمعه جبريل، والسبب في ذلك أن جبريل عليه السلام لا يدخل منزلاً فيه امرأة وضعت عنها ثيابها.

وقد حمل جبريل فيما خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم إليه أمراً من ربّه، يطلب منه أن يأتي أهل بقيع الغرقد، فيستغفر لهم.

فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاءه من ربّه كره أن يوقظها ظاناً أنها نائمة، خشيةَ أن تستوحش بعد خروجه من عندها.

واهتبلت عائشة الفرصة، فسألت الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تقول إن هي زارت أهل البقيع، فأمرها أن تقول: (السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون).

 

عبر الحديث وفوائده:

في الحديث أنه يحسن استعمال الأساليب التي توقظ الغافل، وتشوقه إلى السماع عند إرادة تحديثه، فقد وجهت عائشة السؤال إليهم عند إرادة تحديثهم، وكذلك فعل محمد بن قيس عند إرادة تحديثهم عنها.

احترام وتبجيل زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم عند الحديث عنهن، فراوي الحديث لم يقل: ألا أحدثكم عني وعن عائشة، بل قال: أمي، اهتداءً بهدي القرآن القائل (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)[الأحزاب:6[.

رفق الرسول صلى الله عليه وسلم بزوجاته، فقد خرج من منزله بغاية الهدوء واللطف، حتى لا يوقظ عائشة من منامها.

من المصالح العظام التي أمر الله رسوله بها، وأمرنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم إتيان المقابر لتذكر الموت والبلى من جهة، وللدعاء لأهلها والاستغفار لهم من جهة أخرى.

مشروعية رفع اليدين في الدعاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم رفع يديه ثلاث مرات، وهو يدعو لأهل بقيع الغرقد.

لا حرج على من أسرع وعدا إذا أراد أن يستكشف أمراً يهمه، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين رأى سواداً أمامه يتحرك.

في الحديث صورة لما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم عند منامه، وما كان يفعله عند خروجه من منزله، وصورة للباس زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجهن من منازلهن.

غيرة المرأة على زوجها، وسعيها إلى استكشاف ما خفي من أمره، لا ينجو من ذلك زوجات الأنبياء، كما فعلت عائشة حين لحقت النبي صلى الله عليه وسلم في ظلمة الليل.

للرجل أن يظهر لزوجه حين تفعل ما لا يرضاه عدم رضاه بذلك، فقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة بكفه في صدرها، وأنّبها بإنكاره عليها ما كان منها من ظن غير حسن في سبب خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من عندها في ليلتها.

اعتذار الرجل من زوجته ببيان الحقيقة التي تكشف عن سبب فعله الذي حاولت معرفته بنفسها، كي يزول ما في نفسها، كما بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة عن سبب خروجه ليلاً من عندها.

لا حرج أن يأتي الرجل المقابر ليلاً، فيزور أصحابها، ويدعو لهم.

زيارة النساء للمقابر جائزة، فعندما سألته عائشة عما تقوله إن هي زارت المقابر، لم ينهها عن ذلك، بل علّمها ما تقوله في زيارتها، والمنهي عنه الإكثار من ذلك للنساء، وتصرفهن تصرفات حمقاء عند الزيارة، كالنواح ولطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك.

قد يرى الناس الأمر هيناً، وهو عند الله عظيم، فكثير من الناس يستهين بزيارة المقابر، والله يرسل لرسوله صلى الله عليه وسلم جبريل في ظلمة الليل، وهو على وشك النوم آمراً إياه بزيارة أهل بقيع الغرقد.

أدب جبريل عليه السلام وحياؤه في عدم دخوله منزلاً فيه امرأة وضعت عنها ثيابها.

قدرة الرسول صلى الله عليه وسلم على سماع جبريل، مع عدم قدرة الآخرين على سماعه في تلك الحال، وقدرته على تكليمه من غير أن يسمع من معه كلامه.

السنّة في زيارة المقابر أن يقول الزائر: ((السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون)) وجاء في رواية عن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في سلامه عليهم: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً، مؤجلون.. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) [مسلم: 974[.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply