أسباب نهوضِ الأُمة وقوتها


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

إلى الذين يبحثونَ عن جمع الكلمة ورِفعةِ المكانة:

قال تعالى: ﴿لقد كان في قَصَصِهم عبرةٌ لأُولي الألبابِ، ما كان حديثًا يُفتَرى

قصَّ الله علينا في محكم التِّبيان ما جرى مع الأُمم السابقة للاعتبار والتفكُّر، والاستفادةِ والتأمُّل، فذكر لنا أسبابَ هلاكِ بعضِ الأمم؛ لنبتعدَ عما اقترفوا وفعلوا ...

وقصَّ علينا في سورة الكهف تجربةً عسكريةً ناجحة لذي القرنَين؛ فقال جلَّ شأنُه: ﴿إنا مكَّنا له في الأرضِ وآتيناه مِن كلِّ شيءٍ سببًا﴾؛ كي نستفيدَ منها ونأتسيَ بها.

فالعاقلُ هو الذي ينظر للتاريخ نظرةَ المستفيد المستقي مِن وقائعه، فيأخذُ أسبابَ النجاحِ ويعملُ بها، ويتدبَّر أسبابَ الفشل فيجتنبُها.

ومِن هنا قالوا: «مَن نظر إلى الماضي فهم الحاضر».

ولعل قائلًا يقول:

إنِّ بعضَ أهلِ الحكمة قالوا: «لا تنظر للخلف، وامشِ للأمام»، نعم هذا صحيح، ولكنْ معناه: لا تنظر للخلف فتيأسَ وتقعد، وامشِ للأمام بخطًى ثابتةٍ مبنيَّةٍ على أُسس وقواعد.

فالذي لا ينظر للخلف ولا يدرسُ أسبابَ الفشل سيُكرِّر هزائمَه، ومَن لا يتأمَّل أسبابَ عدمِ نجاحه وانتصارِه فسيكون عِبئًا على أُمته، وسببًا مِن أسباب هزائمها.

أخرج الإمام مسلمٌ عن الصحابيِّ الجليل الحكيم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «السعيد مَن وُعِظ بغيره».

فالشقيُ إذن هو الذي لا يتعظ بغيره، فيُكرِّر تجاربَهم الفاشلةَ فيفشل ويُفشِل معه قومَه، وكان الحريُّ به أنْ ينتفعَ بالتجارب السابقة الناجحة، وينهضَ بنفسه وقومِه وأُمته ...

ومِن هنا:

تشاغل الباحثونَ والنُّقادُ الغربيُّون بدايةَ القرن الماضي، ولا سيما الإنكليزُ والألمان والنمساوِيون، وسار معهم بعضُ العرب، وردَّ كلٌّ منهم على الآخر، واتفقوا بنقاطٍ معيَّنة أُخرى، وذلك في أمرٍ شغل بالهم، ويبدو أنه قضَّ مضاجعَهم، ألا وهو:

كيف استطاعت مجموعةٌ فقيرة مِن الرُّعاة الرُّحَّل، عددُ مقاتليها نحوٌ مِن 400 فارس، كيف استطاعتْ أنْ تقفَ في وجه البيزنطيين، وهم القوةُ الضاربة في العالم آنذاك، إضافةً لمعارك تلكم الرُّعاةِ مع المغول الهمج، زِدْ على ذلك خيانةَ القريبِ قبلَ الغريب.

وهذه القبيلة اسمها: (القايِي)، ومعناها باللغة التُّركمانيَّة: صاحب القوة والشجاعة.

مع العلم بأنَّ الكنيسةَ وقتَئذٍ كانت على درجةٍ كبيرةٍ مِن اتفاق طوائفِها، ورغبتِهم بإنهاء حُكمِ الدولة الإسلامية، وبسطِ نفوذِهم على بلاد العرب والمسلمين، وخاصةً بأرض الأناضول !

ليس هذا فحسب، بل كيف تمكن أحفادُ هؤلاء الرُّعاة ـ مع الذين انضمَّ إليهم من الأعراق المختلفة ـ أنْ يتربَّعوا على الحكم أكثرَ مِن ستة قرون، وهي أطولُ مدَّةٍ امتدَّ بها حكمُ دولةٍ عبرَ تاريخ المسلمين !

ثم صار هؤلاء الفاتحونَ الجددُ هاجسًا وكابوسًا يُهدِّد الإلحادَ والظلمَ في العالم كلِّه، بل صارت كلمةُ (الترك) إذا جرتْ على لسان مِلَلِ الكفر تعني: (المسلم المجاهد)، وهذه دقيقةٌ قلَّ مَن تنبَّه لها مِن قُراء تاريخ القُرون الوسطى، ولأجل ذلك نجد العلامةَ محمود أحمد شاكر يُكرِّرها في مقدمة تحقيقه لديوان المتنبي.

هذا ودعْ عنك الجهودَ والتكاتفَ الذي بُذل مِن أجل تشويهِ تاريخ هذه الدولة وإبعادِ المسلمين عنه؛ خوفًا منه وحقدًا عليه، مما جعل الكاتبَ والسياسيَّ البريطانيَّ (مارْمادُوك بِيكْتال) يشرئبُّ لمعرفة حقيقة هذه الدولة، التي رآى عيانًا كيف قام ويقوم أبناءُ قومِه بتزوير تاريخها والدسِّ فيه، إلى أنْ كانت مشاهدتُه لتزوير تاريخ العثمانيين والدسِّ فيه سببَ إسلامِه !

وبعدَ التي واللَّتَيّا والبحثِ والتنقير، وصل الغربيونَ ومَن معهم مِن الباحثين إلى أسباب تلك الصاعقة التي فعلها أولئك الرُّعاةُ وأحفادُهم، ولا شك أنهم بحثوا عن ذلك لمحاولة إبعاد المسلمينَ عن هذه الأسباب؛ كي لا تتكرَّرَ مصيبتُهم الكبرى، وتقضَّ مضاجعَهم مرةً أُخرى ...

وها هي بعضُ الأجوبة على تساؤلاتِهم أُلخِّصها بما يأتي:

أـ معارك العثمانيين لم تكن مِن أجل السلب والنهب، بل كانت لأسباب إنسانيةٍ أخلاقية، مع حسنِ معاملتهم للأهالي وعدمِ التدخُّل بحياتِهم المعاشية، وهذا هو السببُ الذي جعل المدنَ التي يفتحونها لا تخرج تارةً أُخرى مِن يدهم، بل يدخل أهلُها بالإسلام، ويصيرونَ مقاتلينَ أشدّاء، أو دعاةً وعلماء، بل تركوا أحيانًا المناصبَ التنظيمية والإدارية في كثيرٍ مِن المدن التي فتحوها مع القائمينَ عليها من أهل الكتاب.

يقول المستشرق النمساويُّ (باول وِيتِّك): إنَّ المسامحةَ الكبيرة التي عامل بها العثمانيونَ سكانَ المناطق التي فتحوها جعلتْ أهلَها يمتزجون بهم بسرعةٍ وقوة.

ولا ينقضي عجبي من هذا المستشرقِ النمساويِّ كيف ينقل دقائقَ مشرقةً عن الدولة العثمانية، مع أنه معادٍ لها جملةً وتفصيلًا !

وسجَّل التاريخُ أنَّ الدولة العثمانية خاضتْ حروبًا استجابةً لنصرة بعضِ المسيحيين، ورفعِ الظُّلمِ عنهم.

ب ـ العقيدة الإسلامية الفِطريَّة، التي كانت الدافعَ الأساسيَّ للبسالة والشجاعة لدى المقاتلين، وكان من شعارات العامة عندَهم: (إنْ قُتلتُ فأنا شهيد، وإنْ قَتلتُ فأنا غازي)، طبعًا كلمة: (غازي) في الثقافة التركية معناها: (المجاهد)، كما دلَّت عليها النصوصُ الشرعية.

ج ـ الحرية الدينية التي منحها العثمانيون لأهل الكتاب مِن اليهود والنصارى، فلم يتدخَّلوا بدُور عبادتهم، ولم ينقل التاريخُ حادثةً واحدةً لإكراه أحدهم على الإسلام، ومَن دخل منهم في الإسلام كان يُمنح كافةَ الاستحقاقات دونَ النظر لماضيه، بل نال عندَهم أعلى المناصب وأرفعِها.

وأما الوظائفُ الاجتماعية والمهنية والإدارية فلم يكن العثمانيون يُفرِّقون بينَ دينٍ وآخر، بل يتولى مشيخةَ الصناعاتِ والمهارات ونحوِها مُستحقُّوها، دونَ النظرِ لدينه وعِرقِه.

د ـ لم ينغلق العثمانيون على أنفسهم بقوانين الحياة وتنظيم الدولة، فكان دستورُ الدولة هو الإسلام، والأحكامُ القضائية من الأحكام الشرعية، إلا أنهم بتنظيم البلدان والسكان استقَوا من أنظمة غيرِهم، فكانت تتطوَّر وتتغيَّر كلما تغيَّر الزمان، واتسعتْ رقعةُ الدولة.

هـ ـ القلعة الفُولاذيَّة التي اعتمد عليها العثمانيون في نهضتهم، وهي ثلاثية: (الجامع، والمدرسة، والتكية)، هذه القلعة التي يعتبرها المؤرِّخون من المستشرقين وغيرِهم هي القلعةُ المنيعةُ الفُولاذيَّة التي أطالتْ عمرَ الدولة، وجعلتْها رائدةً على الأُمم والشعوب.

وهنا يقف المستشرق (باول وِيتِّك) ويُطيل النفسَ والبحث، فهو يرى أنَّ صمودَ الدولة العثمانية بوجه حملات التنصير كان بسبب العلماء والمربِّين، إضافةً إلى أنهم كانوا سببًا بتوسُّعها وطولِ عمرها.

وإني لأعجب ممن نحسبهم أبناءَ جلدتِنا، كيف يستهزؤون بدَور العِلم والتربية في نهضة أُمتنا، ويحاولون إبعادَ شبابنا عنهما بحجَّةِ الفكر والتجديد تارةً، وبدعوى الانفتاح والتطوير تارةً أُخرى، في الوقت الذي ينشغل الغربُ الصليبيُّ بهذه الحيثية تحديدًا، ويعتبرونها ثالثةَ الأثافي !

ز ـ اعتمادهم في دور التأسيس على قادةٍ عسكريينَ أفذاذٍ، متخصِّصين بالحروب والمعارك، أمثال: (تُورْغُوت)، (بامْسي وزوجته)، (أقْجَهْ كُوجَه)، (رحمان)، (غِييكْ لي بابا)، (كُوندُوز) رحمهم الله وتقبَّل جهادَهم، وجعلهم في جنات النعيم.

فكانت تُعطى لهم إدارةُ الجيوش، ولا يجرؤ أحدٌ على التدخل بأعمالهم، وكانوا أيضًا يُمنحون منحًا وعطايا كبيرة، مما جعل لهم مكانةً مرموقةً في الدولة والمجتمع.

وكذلك فعل العثمانيونَ مع العلوم الأُخرى، من الهندسة والرياضيات والكيمياء والطب، فأوقفوا لها الأوقافَ وبنوا لها المدراس، وجعلوا لأصحابها استحقاقاتٍ وأوسمةً، ولعلي سأُفرد هذا ببحثٍ في الأيام القادمة إن شاء الله تعالى.

ختامًا:

فيا شبابَ الأمة في هذه الأيام الحالكات، وفي هذه الأوضاع الأليمة التي يعيشها العرب والمسلمون:

اقرؤوا التاريخَ قراءةَ متدبِّرٍ ومتَّعظ، واحذروا الحذرَ كلَّه مِن دعاةٍ على أبواب جهنم، بعضُهم يُدخلون الشبابَ في أَتُون الغلوِّ والتكفير، والبعضُ الآخر يُشرِّدون الشبابَ في تيه البُعد عن العلماء والمربِّين، وكلٌّ مِن الطرفين يُتمِّم وظيفةَ الآخر.

يا شبابَ الأمة:

لا تنخدعوا بالشعارات والألبسة والأشكال، اعملوا بجدٍّ واجتهاد، حصِّلوا العلومَ الكونية ودقائقَ التقنيّات الصناعيَّة، ارتقوا على الأُمم بالعِلم قبلَ أن تُفكروا بحكمهم عن جهل، فسنةُ الله في الأرض أنَّ القويَّ يحكم الضعيف، والعلمَ يقضي على الجهل.

يا شباب الأمة:

ليكن الخطُّ الأحمر عندَكم الذي لا يُسمح لأحدٍ بمساسه أو النيلِ منه هو: (ما يجمع كلمةَ المسلمين ويوحِّدُ صفوفَهم)، واعقدوا على ذلك الولاءَ والبراء، وليكن هذا المقصدُ الجامعَ لكم، والموحِّدَ لصفوفكم !

ولا تغرَّنَّكم كثيرٌ مِن الدعوات المفرِّقة هنا وهناك، التي يُنفق عليها كثيرٌ مِن الأموال، ويُروَّج لها عبرَ القنوات والإعلام ..

ولا تحسبوا أني جلستُ متكِّئًا وكتبتُ هذه الكلمات، بل هي مسيرةُ بحثٍ وتنقيب في تاريخنا المشرق المظلوم، إلا أني جمعتُها بسُمْطها هذه الأيام !

وكتبه الغريب البعيد عن الأهل والأوطان محمد وائل الحنبلي الدمشقي العُقيبيُّ غرةَ ذي القَعدة 1438، يسَّر الله أمرَه وفرَّج كربَه، ولكلِّ مَن دعا له وقال: آمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

المصادر والمراجع:

ـ أصل الإمبراطورية العثمانية، فؤاد كوبرولي (النسخة المترجمة للعربي)

ـ اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، إدوارد جيبون، (النسخة المترجمة للعربي)

ـ تاج التواريخ، سعد الدين خوجه (باللغة العثمانية)

ـ تاريخ الدولة العثمانية، أُوزتونا

ـ تاريخ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد بيك

ـ تاريخ جودت، أحمد جودت باشا بالعثماني، (باللغة العثمانية)

ـ تاريخ سياسي دولة علية عثمانية، كامل باشا، (باللغة العثمانية)

ـ تاريخ عسكري عثماني، أحمد جواد، (باللغة العثمانية)

ـ تأسيس الدولة العثمانية، خليل إينالجيك

ـ الحروب الصليبية في المشرق والمغرب، محمد العَمروسي

ـ الدولة العثمانية، علي محمد الصلابي

ـ الدولة العثمانية المجهولة، أحمد آق كوندوز (الطبعة الثانية)

ـ رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، أحمد محمد شاكر

ـ الشقائق النعمانية، طاش كبري

ـ القوانين العثمانية وتحليلها قانونيا، أحمد آق كوندوز، (باللغة التركية)

ـ الموسوعة الإسلامية التركية، (باللغة التركية)

ـ الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي

 

ـ rise of the ottoman empire، باول وِيتِّك، (باللغة الإنكليزية)

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply