لغة الشكر خير من لغة الشكوى


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الحمد لله معزّ من أطاعه واتقاه، ومذلّ من خالف أمره وعصاه، قاهر الجبابرة وكاسر الأكاسرة، لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه، ينصر من نصره ويغضب لغضبه ويرضى لرضاه.

أحمده سبحانه وأشكره حمدًا وشكرًا يملآن أرضه وسماه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه ومصطفاه.

صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ولكل من نصره ووالاه

أما بعد

شكر الله تعالى ... هو عرفان النعمة من المنعم، وحمده عليها، واستعمالها في مرضاته.

وهو من خلال الكمال، وسمات الطِّيبَة والنبل، وموجبات ازدياد النِّعم واستدامتها.

والشكر واجب مقدس للمنعم المخلوق، فكيف بالمنعم الخالق، الذي لا تحصى نَعماؤه ولا تُعدّ آلاؤه.

والشكر بعد هذا من موجبات الزلفى والرضا من المولى عز وجل، ومضاعفة نعمه وآلائه على الشكور.

والشكر لا يجدي المولى عز وجل، لاستغنائه المطلق عن الخلق، وإنما يعود عليهم بالنفع، لإعرابه عن تقديرهم للنعم الإلهية واستعمالها في طاعته ورضاه، وفي ذلك سعادتهم وازدهار حياتهم.

عن مضارب بن حزن قال: بينا أنا أسير من الليل إذا رجل يكبر، فألحقته بعيري، فقلت: من هذا المكبر؟ قال: أبو هريرة، قلت: ما هذا التكبير؟ قال: شكرا.

قلت: على مه؟ قال: على أني كنت أجيرا لبُسرة بنت غزوان بعقبة رجلي وطعام بطني، فكان القوم إذا ركبوا سقت لهم، وإذا نزلوا خدمتهم، فزوجنيها الله فهي امرأتي اليوم، فإذا ركب القوم ركبت، وإذا نزلوا خُدمت.

ومَن قرأ كتابَ الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بروحِ الشكر العارِفةِ بالله المعترفةِ بفضلِه ورحمتِه؛ كان أسعدَ الناسِ قلباً وأقواهم يقيناً وأعظمهم ثناءً وحمداً.

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (الشاكرون أطيب الناس نفوساً، وأشرحهم صدوراً، وأقرهم عيوناً، فإن قلوبهم ملآنة من حمده والاعتراف بنعمه، والاغتباط بكرمه، والابتهاج بإحسانه، وألسنتهم رطبة في كل وقت بشكره وذكره، وذلك أساس الحياة الطيبة، ونعيم الأرواح، وحصول جميع اللذائذ والأفراح، وقلوبهم في كل وقت متطلعة للمزيد، وطمعهم ورجاؤهم في كل وقت بفضل ربهم يقوى ويزيد)

قال بن عيينة: كان لابن المنكدر جار مبتلى، فكان محمد إذا رفع جاره صوته بالبلاء، رفع صوته بالحمد.

وقال غسان بن المفضل الغلابي: حدثني بعض أصحابنا قال: جاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقا من حاله ومعاشه واغتماما بذلك، فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف؟ قال: لا. قال: فبسمعك؟ قال: لا. قال:  فبلسانك؟ قال: لا. قال: فبعقلك؟ قال: لا. في خلال، وذكره نعم الله عليه، ثم قال يونس أرى لك مائين ألوفا وأنت تشكو الحاجة؟!

ولله دَرُّ صاحبِ الظِّلالِ حينَ قال: «مِنْ رَحمةِ الله أنْ تُحِسَّ بِرَحمةِ الله؛ فرحمةُ اللهِ تَضُمُّك وتَغْمُرُك وتَفِيضُ عَلَيْك؛ ولَكِنْ شُعُورُك بِوُجودِها هو الرَّحمةُ، ورَجاؤك فيها وتَطَلُّعُك إليها هو الرَّحمةُ، وثِقَتُك بها وتَوَقُّعُها في كلِّ أمْرٍ هو الرَّحمة... ورَحمةُ اللهِ لا تَعِزُّ على طالبٍ في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ حالٍ؛ وَجَدَها إبراهيمُ –عليه السلام- في النارِ، ووَجَدَها يوسف -عليه السلام- في الْجُبِّ كما وَجَدَها في السِّجن. ووَجَدَها يونسُ -عليه السلام- في بطنِ الْحُوتِ في ظُلُماتٍ ثلاث. وَوَجَدَها موسى -عليه السلام- في اليَمِّ وهو طِفْلٌ مُجَرَّدٌ مِنْ كلِّ قُوةٍ ومِن كلِّ حِراسةٍ، كما وَجَدَها في قَصرٍ فرعون وهو عَدُوٌّ له مُتَرَبِّصٌ به ويَبحثُ عنه. ووَجَدَها أصْحابُ الكهفِ في الكهفِ حين افْتَقَدُوها في القُصُورِ والدُّورِ، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته}[الكهف:16] ووَجَدَها رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وصاحبُه في الغارِ والقومُ يتبعونَهما ويَقُصُّون الآثار، ووَجَدَها كلُّ مَن آوَى إليها يائساً مِن كلِّ مَنْ سِواها؛ مُنقطِعاً مِن كلِّ شُبْهَةٍ في قُوةٍ ومِن كلِّ مَظِنَّةٍ في رَحمةٍ؛ قاصِداً بابَ اللهِ وَحْدَه دُونَ الأبواب».

رأى بكر بن عبد الله المزني حمالاً عليه حمله وهو يقول: الحمد لله، استغفر الله، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره وقلت له: أما تحسن غير هذا؟ قال: بلى أحسن خيراً كثيرا،ً أقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمه السابغة واستغفره لذنوبي. فقلت: الحمال أفقه من بكر.

 

أقسام الشكر ووسائله:

الشكر أقسام: شُكر قلبي، وشكر لساني، وشكر عملي.

- «شُكْرُ القلب»: هو الاعتقاد والإيمان بفضل الله سبحانه، والاعتراف الداخلي بنعمه وآلائه... يجب أن يبدأ بالشكر من الداخل أي من قناعات مطلقة ومتينة وفق تصور عقائدي، وأن يمزج بالنية الصادقة والخالصة، وأن يختلط بالروح والعقل والنفس، أي أن يكون إطارا للذات الإنساني، حتى يتحول إلى المرحلة الثانية وأن يبني الأساس الثاني.

سُئل المرتعش: أي الأعمال أفضل؟ فقال: رؤية فضل الله.

- «شُكْر اللسان»: هو ترديد الكلمات المُعَبِّرَة عن الاعتراف بالنعمة وقد قال القائل: «جُعِلَ الكلامُ على الفؤاد دليلاً»... يترجم هذه القوة الروحية والقناعة الصادقة إلى كلمات وعبارات للشكر بكل ثقة وحضور القلب، ويقول بكل اندفاع: (يا رب لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك)

ولكي يستكمل مسيرة النعم تراه باستمرار يردد: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات) وإن افتقر إلى نعمة ما فتراه يقول: (الحمد لله على كل حال).

ولكن صاحب هذا الرسوخ الإيماني وهذه الأذكار الدائمة لا يتوقف عند هذا الحد لذا يتهيأ لبناء الأساس الثالث «شكر العمل» وذلك شوقا لرضا الله -سبحانه وتعالى- طمعا للأجر ولاستمرارية النعم، لأنه يتيقن ويؤمن بالقاعدة الربانية {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7].

قال الأوزاعي: بلغني عن خالد بن معدان أنه كان يقول: « أكل وحمد، خير من أكل وصمت»

قال الجنيد: كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ فقلت: ألا يعصي الله بنعمه، فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك. قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي.

- «شُكْرُ العمل»: هو حسن استعمال النعمة، والشكر عليها عمليًّا بالطاعة، والعبادة، والإنفاق لوجه الله تعالى، قال عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13]

إنه شكر يتحول إلى ميادين العمل، ويحول كل ما أنعم الله عليه إلى حركة في الواقع، ويتعاون مع الآخرين، ويضحي بكل ما هو متاح - لذا تراه يتصدق بماله، ويفعل الخير بكل طاقاته، ويحرص على هداية الناس بكل نصيحة، ويمشي معهم في حاجاتهم.

عن محمد بن منصور أنه سئل: إذا أكلت وشبعت فما شكر تلك النعمة؟ قال: أن تصلي حتى لا يبقى في جوفك منه شيء.

قال ذو النون المصري أبو الفيض: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال.

وإذا كانت هذه الأنواع كلها واجبة ومطلوبة، فلا شك أن الشكر العملي هو جوهرها وعمادها؛ لأن العمل بالطاعة ينشأ عن إيمان القلب، والألفاظ عنوان ظاهري على الاعتقاد الداخلي.

ولو اقتصر الإنسان على مُجرَّد التلفُّظ بكلمات تدُل على الشكر، دون وعْي لها أو تأثر بها، لمَّا كان ذلك كافيًا.

 

نصائح لاكتساب فضيلة الشكر والتحلي به:

1 - التفكر فيما أغدقه اللّه على عباده من صنوف النعم، وألوان الرعاية واللطف، وأن الإنسان في كل حالة من أحواله في نعمة، بل ولا يمكن أن يمر عليه لحظة في حياته إلا وهو يتقلب في نعم الله تعالى، وفي هذا استجابة لأمر الله تعالى بقوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}[البقرة:231] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[فاطر:3] والآيات في هذا المعنى كثيرة.

2- الضراعة إلى الله تعالى بأن يوزع عبده الضعيف شكر نعمته، والإعانة على القيام بهذه الوظيفة العظيمة التي لا قيام للعبد بها إلا بإعانة الله تعالى، والضراعة صفة أنبياء الله تعالى ورسله وعباده الصالحين. قال تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[النمل:19].

وقال تعالى عن العبد الصالح: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الأحقاف:15].

وقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- بهذا الدعاء العظيم فقال له وقد أخذ بيده: «يا معاذ، والله إني لأحبك، ثم أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء؟ قولوا: اللهم أعنا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك».

3- أن يعلم الإنسان أن الله تعالى يسأله يوم القيامة عن شكر نعمه. هل قام بذلك أو قصّر، قال تعالى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:8]، قال ابن كثير رحمه الله: (أي: ثم لتسألن يومئذٍ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ماذا قابلتم به نعمه من شكر وعبادة).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة [يعني العبد] أن يقال: ألم نُصحَّ جسمك، ونرويك من الماء البارد».

4- أن يعلم الإنسان يقيناً أن النعم إذا شكرت قرت وزادت، وإذا كفرت فرت وزالت، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7]

فمتى أراد العبد دوام النعم وزيادتها فليلزم الشكر. وبدونه لا تدوم نعمة.

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقلَّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم.

فعلى ذي النعمة أن ينظر إليها وإن قلت بعين التعظيم وإظهار الفاقة لأنها من الله تعالى، وقليله لا يقال له قليل. وقد أوصلها إليك فضلاً منه وامتناناً لا باستحقاق منك.

ومن الجهل بالنعمة أن يراها الإنسان يسيرة لا تستحق الشكر وبإمكانه أن ينالها، وهذا فهم سقيم، فإن كل مطلوب يريده الإنسان لن يكون إلا بتيسير من الله مهما كان صغيراً، فإذا تحقق فهو من نعم الله عليه، لأن حصوله مصلحة لهذا المخلوق الضعيف الذي لا يملك لنفسه ضراًّ ولا نفعاً.

5- أن يفكر الإنسان في حاله، ويتأمل حياته قبل حصول هذه النعمة، وكيف كانت حاله آنذاك. وينظر إلى حاله لو كان فاقداً لها، فإن كان غنياً فإلى حال فقره، وإن كان صحيحاً فإلى حاله يوم كان مريضاً، وإن ملك بيتاً فإلى حاله يوم كان لا يملك بل كان يستأجر أو في بيت ضيق لا يرتضيه، وهكذا كل نعمة ينظر إلى وجود ضدها ليعرف بذلك قدرها فيشكرها.

6- أن ينظر الإنسان إلى من دونه في أمور الدنيا. فإذا فعل ذلك استعظم ما أعطاه الله تعالى وفضّله به على غيره، فلم يعب نعمة ولم ينتقص عطية، فقام بمحبة الله تعالى وشكره، وتواضع لربه، وفعل الخير، فكان من الشاكرين.

وهذا ما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم».

إن الإنسان إذا وضع نصب عينيه هذا المعنى الجليل الذي اشتمل عليه هذا الحديث الشريف رأى أنه يفوق كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت بالحال، فيزول همه وقلقه، ويزداد سروره واغتباطه بما هو فيه من نعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها.

وما أحسن ما قاله بعض السلف: (لَنِعمُ الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها، وذلك أن الله لم يرضَ لنبيه الدنيا، فلأَنْ أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبَّ له، أحبُّ من أن أكون فيما كرهه له وسخطه)

7- وما يساهم في علاج تقصير الناس في الشكر التواصي بشكر نعم الله والقيام بحقها، فإن تذكير الناس بالشكر أمر مطلوب، لاسيما من صاحب كلمة مسموعة، كخطيب جمعة وإمام مسجد وغيرهما من واعظ ومحاضر.

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (تذاكر النعم شكر).

وقد كان السلف من هذه الأمة من الصحابة والتابعين يلهجون بشكر الله تعالى وحمده، والثناء عليه، عند كل لُقِيٍّ واجتماع.

وما ذلك إلا لاستنارة قلوبهم، ومعرفتهم لنعمة الله تعالى عليهم، بل إن بعضهم كان يتقصد لقاء أخيه، ويسأله عن حاله مع قرب العهد بينهما وما مقصوده من سؤاله أو السلام عليه إلا أن يسمع منه حمد الله تعالى والثناء عليه سبحانه.

وقد جاء ذلك في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته الشريفة. فقد ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أحمد الله إليك يا رسول الله. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : هذا الذي أردتُ منك»

ومعنى (أحمد الله إليك): أحمد الله معك، أو أشكر معك أياديه ونعمه. فـ (إلى) بمعنى (مع).

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سلم على رجل، فرد عليه السلام. وقال للرجل: كيف أنت؟ قال الرجل: أحمد الله إليك، قال عمر: هذه أردت منك.

وعن علقمة بن مرثد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إنْ كنا لعلنا أن نلتقي في اليوم مراراً، يسأل بعضنا بعضاً عن حاله، وإنْ نريد بذلك [أي ما نريد بذلك] إلا الحمد لله عز وجل.

وهذا العلاج الذي وصفناه إنما ينفع صاحب القلب المبصر الذي يتأمل في نعم الله تعالى. أما القلب البليد الذي لا يعد النعمة نعمة إلا إذا نزل به البلاء فسبيل صاحبه أن ينظر أبداً إلى من دونه، لعل الله تعالى أن يوقظه من رقدة الغفلة فيرى نعم الله ويقوم بشكرها.

وأول مراتب سعادة العبد أن تكون له أذن واعية، وقلب يعقل ما تعيه الأذن، فإذا سمع وعقل تذكر فضل الله عليه. كلما تجددت له نعمة جدد لها شكراً. فهذا على خير وإلى خير.

 

أقوال في الشكر:

·       قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله، حتى ينقطع الشكر من العبد».

·       قال الحسن البصري: «إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر، فإذا شكروه كان قادراً على أن يزيدهم، وإذا كفروه كان قادراُ على أن يبعث نعمته عليهم عذاباً».

·       قال مطرف بن عبد الله: «نظرت في العافية والشكر فوجدت فيهما خير الدنيا والآخرة، ولأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر».  

·       قال عون بن عبد الله: «قال بعض الفقهاء: إني نظرت في أمري، لم أر خيرا ً إلا شرا معه، إلا المعافاة والشكر، فرٌب شاكر في بلائه، ورُب معافى غير شاكر، فإذا سألتم الله فاسألوهما جميعا».

·       قال مخلد بن الحسين: «كان يقال: الشكر ترك المعاصي».

·       قال ابن رجب: «كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدا فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم، وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر».

 

كفران النعم:

أما كفران النعم، فإنه من سمات النفوس اللئيمة الوضيعة، ودلائل الجهل بقيمة النعم وأقدارها، وضرورة شكرها. وهذه صفة أكثر الخلق،

كما قال جل جلاله في ثلاثة مواضع من كتابه: {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}، وفي موضعين: {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ}.

وهذا التصوير الرباني لواقع الناس يشعر بالحسرة الشديدة على العباد المنكرين الجاحدين، وحقاً إن الإنسان لظلوم كفار، يلبس ثياب النعمة فتكسوه من شعره إلى أخمص قدميه: صحة وعافية ومالاً وولداً وأمناً، ثم لا يلوي على صاحبها ومسبغها بالشكر والعرفان.

عن سفيان: {نستدرجهم} قال: نسبغ عليهم النعم، ونمنعهم الشكر

والجاحِدُ.. لا يهدأ له بالٌ.. ولا يرتاحُ له قلبٌ ولا ذِهنٌ؛ لأنَّه يشعرُ بألَمِ المعصيةِ وعُقدةِ الذنبِ ووَخزِ الضميرِ؛ ولأنه كذلك يرى نفسَه أهلاً لأن يُنعِمَ الله عليه بأكثرَ من هذه النعم! فكلُّ ذلك يُنغِّصُ عليه حياتَه ويُفسِد عليه سَعادتَه، ويُشعره دائماً بقلةِ ما هو فيهِ وانعِدامِ السعادة والهناء. ولو أُعطِيَ الدنيا كلَّها لم يُرضِه ذلك؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع»!.

وكذلك مَن يجحد نِعَمَ الله عليه؛ يُحْرَم نعمةَ الطمأنينة ولذةَ الشعورِ بالسعادة الحقيقية التي لا تكتمل إلا برضوانِ اللهِ عن العبدِ وإقبالِ العبدِ على ربِّه بالمحبة والرضا والذل والطاعة.

 

شكر الناس:

ومن نعم الله تعالى على العبد نِعمٌ يسوقها له بواسطة عباد الله تعالى، كما أجرى إِحسانه تعالى إلينا على يد رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكما ساق خيره لنا بواسطة والدَيْنَا ومربِّينا من المرشدين العارفين بالله تعالى.

فعلى المؤمن أن يشكر الله تعالى لأنه المنعم الحقيقي الذي سخر الناس لجلب الخير إليه، قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}[النحل: 53].

وعلى المؤمن أن يشكر أيضاً من جعله الله تعالى سبباً لنعمه، لذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».

وقال العلامة الخطابي رحمه الله تعالى، شارحاً لهذا الحديث: (هذا الكلام يتأول على وجهين: أحدهما: أن مَنْ كان من طبعه وعادته كفران نعمة الناس، وتركُ الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله وتركُ الشكر له سبحانه. الوجه الآخر: أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس، ويكفر معروفهم، لاتصال أحد الأمرين بالآخر).

فأيسر الشكرين شكر العباد، فمَنْ ضيَّع شكر العباد، كان لشكر الله عز وجل أضيع.

إن الحياة قائمة على الأخذ والعطاء، فكما نأخذ لابد وأن نعطي، وكما نعطي لابد وأن نأخذ، لنحظى بـ (الشكر) على ما أقدمنا عليه، فنحن وحين نأخذ لابد وأن (نَشكُر)، وحين نعطي فلاشك بأننا سـوف (نُشكر)، وما أجمل الشكر الذي يعرب معنى التقدير خير إعراب، ويوضح موقع ووقع الفعل الذي أقدمنا عليه، فيعزز رغبتنا بامتداد رقعة الإقدام على الفعل الذي سبق وأن فعلناه، فللشكر قيمة تسحر النفوس وتذيب كل الكتل الثلجية التي تُعسر المعاملات اليومية التي تفرزها حياتنا اليومية كل يوم، قيمة تبث في نفس مرسلها ونفس مستقبلها الفرحة التي تُلزم الابتسامة على البحث عن سكن تسكن من خلاله ذاك الوجه وكل وجه يستقبلها.

إن العلاقات التي توجد بين البشر يجب تتويجها ببعض اللمسات الرقيقة والتي من المستحيل أن تحكمها أية قواعد، فهي تنبع من داخل الإنسان، والإكثار من ممارستها يجعلها من إحدى سمات الشخصية، بل وجزءاً لا يتجزأ منها، ويصبح كل شخص مديراً للعلاقات العامة.

ولكي لتستطيع إيصال الشكر بفعالية عليك إتباع الخطوات التالية:

1- انطق كلمة «شكراَ» بصوت واضح ومسموع: هذا من شأنه أن لا يدع أي مجال للشك في عقل المستمع أنك تعني شكره حقاَ. كن سعيدا بأنك تقولها. عندما يسمعك الآخرون تعبر عن شكرك، فإن هذا يضاعف من قوة تأثير عبارة الشكر.

2- انظر إلى الشخص: فالتواصل البصري مع الشخص الآخر يؤكد إخلاصك له، وأن تربت بيدك خفيفاَ على مرفق الشخص الآخر سوف يؤكد ذلك شكرك، ويجعل من السهل تذكره أكثر.

3- استخدم اسم الشخص عند شكره: إضافة صيغة شخصية على شكرك أشد تأثيرا من جملة «إنني أشكرك» مجردة.

4- أرسل رسالة شكر مكتوبة: تعد هذه الطريقة أفضل طريقة للشكر، عندما يسمح الموقف بذلك، ويليها في قوة التأثير تقديم الشكر وجها لوجه، ثم الشكر عن طريق الهاتف.

كن صادقاَ عندما تشكر شخصاَ ما، وابحث عن فرص لشكر الآخرين ولو كان على أمور بسيطة، ولا تنس أن تكون مخلصاَ في تعبيرك عن الامتنان.

 

الشكر يعزز الصحة

لغة الشكر تعزز الصحة وتريح الأعصاب وتزيد من مناعة الجسم... كذلك قال «روبرت إيمونسن» الباحث في علم النفس في جامعة كاليفورنيا: أن الشعور المتواصل بالامتنان والتقدير لدى الإنسان، يحقق نتائج مفيدة له من الناحية الجسدية والنفسية. وأن الأشخاص الذين يشعرون بالامتنان، عادة ما يتمتعون بصحة أفضل من غيرهم، كما تقل لديهم الأعراض المرضية، ولديهم طاقة كبيرة، ولهم علاقات اجتماعية أوسع، إضافة إلى تمتعهم بروابط زوجية أقوى، وربما بمدخول مادي أكبر، مقارنة بأشخاص من غير الشاكرين!

وأضاف الباحث - وفقاً لما نقلته صحيفة «ماكلاتشي تريبيون» الأميركية-: إن الشاكرين يخلدون إلى النوم بسهولة، وينامون بعمق ولفترات أطول، ويستيقظون هانئي البال.

ونوه الباحث بأن زيادة مستويات الشعور بالشكر والامتنان تزيد من مستويات «إميونوجلوبولين أimmunoglobulin A »  في الحنجرة والأنف، الأمر الذي يزيد من مقدرة الجسم على مقاومة العدوى الخبيثة. كما أشار إلى دور الامتنان في تقليل هرمون التوتر في الجسم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply