بين اليد اليُمنى واليد اليُسرى


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

سرُّ الصدقة، وطِيبة النفس، وتحقُّق التقوى: مراماتٌ يسعى إليها ويحرص عليها صاحبُ اليد اليمنى، التي لا تعلم عنها شمالُه ولا تعرف أحوالَها.

سبحان الله ما أدقَّ هذا التعبيرَ النبويَّ العظيم: ((ورجلٌ تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِمالُه ما تُنفِق يمينه))! مبالغة في إخفاء الصدقة رجاءَ قَبولها، وحرصًا على تخليصها من شوائب الرياء، وعلى هذا المسلك يحرص الموفَّق؛ حيث يسبل ثوب الستر على ثلاثتِهم (الصدقة، وصاحبها، ومحتاجها)، وبذلك تصحبُهم السلامة جمعًا، ويكونون جميعًا أقرَبَ للتقوى، وأبعَدَ من البلوى، وهذه هي الصدقة التي تستحق القَبول، ويستحق صاحبها ظِلالَ العرش في يومٍ لا ظل فيه ولا ظلال، إلا ما يجود به الكريم على أتقى الخلق وأكرمهم لخلقه وعياله.

هذه الصفةُ الحاضرة الغائبة اليوم، مع كثرةِ المحتاجين، وخيرية المحسنين، بحاجةٍ إلى وقفة جادَّة مع النفس وتقواها، وهذا إذا كنا فعلًا نبحثُ عن المصداقية والصدق والتقوى، فهل نشعر اليوم بذلك الخفاء والنقاء والتُّقى؟!

أنا لا أدَّعي العلم في ذلك أو الإحاطة، فكل مخلوقٍ لديه مع خالقه سرٌّ أو أمر هو به أدرى، وربُّه به أحكم وأعلم، كما أننا لا نحكم بنفيِ الخيرية عن الأمة وعن محسنِيها، ولكننا نُحذِّر مما نسمع عنه ونراه، ونَلفِت النظر إلى معنى الصدقة وحكمتها وهدفها؛ لينتبهَ الغافل، ويَحذَرَ المتغافل، وتسلَم الهِبَة، وتنفعَ القُربةُ، ويرضى الخالق.

ألا نرى اليوم ما وصل إلى حدِّ الظاهرة، وبلغ شأن المظاهرة، مِن علم الإنس والجن بصدقةِ فلانٍ لفلان، وتوزيع الجهة الفلانية لذوي فلان! وما كان لأحد أن يسمع أو يرى لو كفَّ هؤلاء أنفسهم الشرَّ عن أنفسهم بأنفسهم، وأبقَوا الصدقة شريفةً نظيفة بعيدًا عن عدسات الكاميرات، وضجيج الإعلام، والسباق في مواقع التواصل الاجتماعي بما يكون وما كان وما سيكون، حتى غدا الأمر مقصودًا به وجه الإعلام، ولم يقفِ العلم حصرًا عند اليد اليسرى، بل انتشر الخبر وآثاره حتى وصل المشرق والمغرب، وعلم مَن له دخل ومَن ليس له فيه ناقة ولا جمل! فأين التقوى في هذه الصدقة؟ وأين الإحسان؟ وأين مخافةُ ألا يتقبَّل الله العمل؟!

يا ويل السر ماذا فعل به وبصاحبه وأهله؟! ويا ويل اليد اليمنى مِن كل الأيادي والأعين والآذان، ويا شفقة المولى على الأسماع والأبصار والأفئدة!

لا تكتفي اليوم اليدُ اليمنى بإشراك اليسرى في العلم، بل تُطوِّعها لتنفيذ حملاتها كما تطوِّع كلَّ الحواسِّ المملوكة وغير المملوكة، ولا تتقدم خطوة قبل أن يسمع بها العرب والعجم، كيف لا وهي حريصة على أن تُسطَّر صدقتها في سجلِّ الخالدين، وتُعَنْون في صفحات الكاتبين، وتظهر على صفحات الإعلام في كل وقت وحين، وتحصد أكثر التعليقات، وتنال أعلى الإعجابات؟ وكفى بذلك عملًا وتقوى، وأنعِم به رضًا وظلًّا، وبذلك لا يكون لها ولا لصاحبها اهتمامٌ بشأن الخلود أو الكَتَبة أو الحسنة أو الزكاة أو رضا الرحمن، ما دام الهم والهمة والاهتمام معقودًا بالعاجل الزائل، ولا عجب بعد ذلك عند رؤية الكيف المائل، أو شهود الحظِّ العاثر.

حينما ترى جهةً من الجهات الخيرية تُهيِّئ الكاميرات، وتُرتِّب اللوحات، وتستعد بالعرض قبل الفرض، في سبيل تنفيذ حملةٍ للمحتاجين من المفترض أنها خيرية! ثم تشهَد ألوان الناس وشرائح المجتمع والصغار مع الكبار يمتثلون لأوامر المخرج والمصوِّر، ثم لا يستلم أحدهم كيسًا من الطحين، أو صاعًا من التمر، إلا بعد أن ترضى عنه عدسة البركة، وتراه لائقًا للعرض، ومناسبًا للإخراج، وجاهزًا للنشر، عندها عليك أن تنظر كم الفرقُ بين هذه السوءات والسيئات، وبين: ((حتى لا تعلم شمالُه ما أنفَقَت يمينه)).

حين ترى جهةً -مِن المفترض أنها خيريةٌ- تُخرِج المرأةَ العجوز، والشيخ الطاعن في السن، والطفلَ البريء، والمعاق العاجز؛ لتضع بين يدَيْه شيئًا من غِذاء أو دواء أو قليل من المال، ثم تبتَلِعه مع حيائه وماء وجهه بلمحة برقٍ خاطف من عدستك، وتهتك سترَه المهلهل في لحظات، وقد أسبله عليه خالقه لسنوات، قبل أن يتشرَّف بحاله أمامك وأمام خيرك العميم، الذي جاء لتشهيرِه وهَتْك عِرضه، بدلًا مِن أن يساهم في ستره، ووصل حبله، والحفاظ على ماء وجهِه.

ما أجمل حينما نسمع عن الأثر دونَ أن نعرف المؤثِّر، وما أقبحَ الأمرَ كله حينما نسمع الهَرْج والمَرْج، والمؤثرات والمزمجرات، ثم لا يكتب الله لها أثرًا ولا قَبولًا ولا بركةً، والعلم عند الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ما أجمل حينما نسمعُ عن فاعلِ خيرٍ تبرَّع للمحتاج الفلاني، أو المريض الفلاني، أو الشريحة الفلانية، دون أن نعرفه، بل ويشترط ألا يُعرَف أو يُطرَح اسمه، حتى يصل الأمر بالبعض أن يوصل صدقته بواسطةٍ؛ حتى يُبقِي على لثامه، فلله دَرُّه ما أحسَنَه، وما أكرمه، وما أتقاه! والله حسيبه.

وما أشد وطأتَها حينما نسمع عن جهةٍ أرعدت وأزبدت، وأعلمت كلَّ الخلق بأنها ستُعطي وتصل، حتى تجمع كل الناس، وتُحدِث عرسًا جماهيريًّا متكاملًا، ثم لا ترضى إلا حينما تعودُ بمئات المواقف، وآلاف الصور، وعشرات الألبومات، ويصل الأمر بجهةٍ أن تُوقِف التوزيع؛ لأن كاميراتها غير جاهزة للتصوير، أو طاقمها غير مستعدٍّ للتوثيق، فأي علمٍ خَفِي عن اليد اليسرى؟! وأي سترٍ أُسدِل على المحتاج؟! وأي سرٍّ بقي بين المحسن وبين ربِّه؟!

دعوة أرفع بها صوتي لكل معنِيٍّ وعامل في الجهات الخيرية، كما هي لكل محسنٍ وقائم على أي عمل خيريٍّ:

قدِّموا مراقبة الله، ودَعُوا مراقبة خلقه، جوِّدوا الخدمة، وأكمِلوا الإحسان، واعلموا أن الله جعلكم في موضع تمكينٍ، ولخلقه إليكم حاجة، فاستروا ما وَسِعكم الستر، ولا تجمعوا على المحتاج بين بلاء الفقر وبلاء التشهير! دَعُوا لليد اليمنى سرَّها وبركتها، وحافِظوا على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم وسبيله، واقصدوا ظلَّ العرش إن كانت لكم فيه رغبة.

وحسْبكم -إن كان ولا بد من الإعلام- بكتابة خبر لا يكون هو المقصد والأساس، وزيِّنوا أعمالكم دومًا بالإخلاص، وعوِّذوها بالفلق والناس.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply