دعوة للمحسنين (أتْقِنْ بصْمتَكْ)


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

كتب الله بفضله الخير في هذه الأمّة، وجعلها خير أمةٍ أُخرِجت للناس، وفيها بحمد الله نرى الخير دائماً، كما نرى أهله وأصحابه، ومنهم أولئك المحسنون، الذين طابت أنفسهم بالفضل والنوَال، وتلمّسوا حاجات الناس فواسوهم بأموالهم وببعض ما تفضّل به عليهم المولى الكريم، ليستمرّوا في اكتساب الأجر، ويحصدوا ثمرات العطاء والبذل، وبه يفارقون مَن يكتفي بجمع المال، وكنز الكنوز، ثم لا يرى لله فيما أعطاه واجباً، ولا يرى اللهُ في ماله الذي رزقه إيّاه بفضله لخلقه حاجة، فطوبى للمحسنين الباذلين، وهنيئاً لهم غناهم وأجرهم وخيرهم.

وتحسينٌ للأمر، والتفاتٌ للأهم، ولفت النظر للأوْلى؛ رأيتُ أن أنبّه إلى الموضوع الآتي، وأدعو المحسنين في المقام الأول لإعادة النظر، ثم هي دعوةٌ لكل من يقوم على الأمر أو له صلة به من قريب أو بعيد، عسى الله أن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل.

بعض المحسنين يدفع ماله إلى جهةٍ خيرية لتتصرّف بما تراه مناسباً، وبعض المحسنين يذهب بنفسه أو يكلّف شخصاً أو جهةً معيّنة بأن تنفّذ له بعض المشاريع الخيرية في مكانٍ ما، وكل هذا خير وفيه بإذن الله أجر، ولكن مما لاحظناه أن بعض المشاريع تتكرّر في المكان الواحد، وقد لا تمثّل أولويةً لأصحاب تلك المنطقة، وأكثر ما نراه في هذا المجال هو بناء المساجد، سعياً من المحسن لنيل أجر عمارة بيوت الله، وتحفّزاً بحديث "من بنى مسجداً لله بنى الله له في الجنة مثله

وبهذا وصل الأمر إلى تكرار المشروع مع أن غيره أهمّ وأوْلى منه بكثير، وربما نجد بعض المساجد مهجورة، أو فيها عدد من المصلّين لا يتجاوزون إصبع اليد الواحدة، ولهم في المسجد المجاور مكانٌ ومُتّسع، وكم رأينا مساجد يجاور بعضها بعضاً، وليس بين كل واحدٍ والآخر إلا بضع خطوات، فهل ذلك فعلاً ما يهمّ الناس حصْراً؟ وهل راجعنا فيه قبل الإقدام عليه حاجة الناس المُلحّة ومشاريعهم الضرورية؟

ليعلم الإخوة المحسنين أن الآثار وردتْ بالفضل والأجر لكل خيرٍ وبذل ومعروف، وليس الأمر مقتصراً على المساجد فقط، بل ربّما يفوق أجر التبرّع بأحد المشاريع الأخرى فضل بناء المسجد الذي لا يضطرّ الناس إليه كاضطرارهم لذلك المشروع، وهنا يجب على المحسن الكريم أن يتذكّر ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.

فهذا الحديث وغيره يُرشد إلى كثيرٍ من سُبُل الخير وأبواب الحسنات والأجر، فلماذا نقتصر على أجر بناء المساجد؟

يخبرني أحد الإخوة ممّن لهم اطلاعٌ بمثل هذه الأمور، أن في الكونغو جمعية خيرية واحدة قامت ببناء أكثر من مائة وعشرين مسجداً، إلا أنهم للآن لم يتمكّنوا من بناء مدرسة واحدة أو دارٍ للأيتام، إلا داراً واحداً وبعد جهدٍ جهيد، علماً أن المسجد يكلّف أكثر من خمسين ألف دولار، وقد لا تكلّف مشاريع أخرى إلا جزءاً يسيراً من هذا المبلغ، لأن المتبرّع دائماً يشترط بناء مسجد، ويحرص فقط على مفحص القطاة، وقد تفوته مفاحص وقراريط كثيرة تتمثّل في أبواب الحسنات الأخرى التي يرهقها الدهرُ انتظاراً واستجداءً.

إن اشتراط المُحسن الكريم أو الجهة الخيرية للإنفاق في بعض وجوه الخير دون البعض الآخر، دون مراجعة حقيقية للواقع ولما يحتاجه الناس أوّلاً؛ فيه من التعسّف والتكلّف ما قد يُخرجه ويخرجهم ربما إلى الرياء وحبّ الشهرة فقط، فلماذا هذه الاشتراطات العوجاء؟ ألا نخاف أن نساوي أولئك الذين ينفقون أموالهم رياءً أو يُتبِعون ما أنفقوا منّاً وأذىً!

أيهما أوْلى؛ أن نقوم بتنفيذ إفطارٍ جماعيٍ يكلّف آلاف الدولارات، ثم يصاحبه ما يصاحبه من تبذير وإسراف ورجْمٍ لبقايا الطعام الذي يبقى أكثره صالحاً للأكل والاستعمال، أم نبني بتلك الأموال مشروعاً تنموياً به نعفّ كَمْ أسرةٍ فقيرة، ونمكّن لِكَمْ فردٍ من تعلّم صنْعة أو مهْنة يبقى له خيرها وللمحسن أبد الدهر!

يخبرني هذا الأخ الكريم، أن ثلاثمائة ألف دولارٍ في كمبوديا قيمة إفطاراتٍ جماعية، وحدّث ولا حرج عمّا يتم فيها وبعدها من التبذير والتصرّف الذي لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين.

أقولها بصراحة؛ إن بعض الإخوة من المحسنين أو الجهات الخيرية يفعلون كما تفعل الدول الكبرى التي تدّعي الاهتمام بنا وبأوطاننا، حيث تقوم بإنفاق بعض المواد الاستهلاكية والغذائية، وربما تجود فيها وتبسط يدها، ولكننا لم نجد منها إلى الآن التفاتاً للمشاريع التنموية والنهضوية، حرصاً منهم وقصداً على عدم تطوّر الأمّة، وعلى بقائها ممدودة اليد، تستجدي أكلها وشربها ولباسها.

أمّا في مسألة الإفطارات الجماعية؛ فلا بدّ من مراجعة الأمر تماماً، وإن كان ولا بد من تنفيذ إفطارٍ جماعي بهدف جمع الناس لما قبله أو أثناءه أو بعده من موعظة أو تعارف أو ما شابه؛ فلْيكن بقدْر، وليتم الترتيب فيه قبلاً على كيفية الإنفاق وتصريفه للمحتاج، حتى لا يبقى للإسراف أو الخطأ مجال، مع مراعاة ثقافة البلد الذي يُقام فيه الإفطار، إذْ بعض المجتمعات لا يناسبها التوزيع لبقايا الطعام بعد الانتهاء، وبعضها لا يستسيغ أصحابها الأخذ بأنفسهم من المائدة لأهلهم، وهكذا، وإن كنتُ أفضّل في هذا المجال أن يتمّ توزيع المواد الغذائية للمنازل على شكل وجبةٍ إما جاهزة أو غير جاهزة؛ ليستفيد منها كل أعضاء الأسرة، وتكون مساحة الإسراف فيها منعدمة.

وفي هذه النقطة لا بد من توجيه الشكر لبعض المؤسسات الخيرية التي انتبهت لهذا الأمر، وسبقت به الجميع، وخصّصت في بنودها ومواقعها نوافذ خاصة ببيان المشاريع التي تحتاج إلى دعمٍ وتنفيذ، حتى يُقدم المحسن الكريم على التبرّع ببصيرة، ويعلم أن أمامه تلك المشاريع المُبيّنة بكل تفاصيلها، والتي قدّمتها المؤسسة بعد مسْحٍ ودراسة ومعرفة بحاجة الناس.

أيها الإخوة الكرام؛ لقد رأيت بنفسي حاجة المسلمين في أفريقيا لكل شيء، وحينما أقول كل شيء؛ فأنا أعي ما أقول... ترى وتتحسّر حينما تذهب أموال المسلمين وأموال العرب يميناً وشمالاً، وبعضها في أمورٍ تافهةٍ وربما في أعمال شرّ وضير، ثم لا يكون لأولئك المحتاجين للعلم والتعليم والارتقاء منها شيئاً... لقد رأيت بنفسي هناك السعي الحثيث لنشر البدعة والتشيّع، واستهداف الطبقة الحائزة على بعض العلم والمعرفة للغة العربية والدّين، فما بالك بالباقين؟

التفاتاً جادّاً للمشاريع التنموية الحقيقية، ونظرةً بعيدةً إلى المستقبل، ونَفَسَاً طويلاً حتى نصِلْ،

وإلّا فلا أظن أنّنا سنبرح مكاننا، ونُعلي شأننا، ونفيد حقّاً إخواننا، ونستثمر فعلاً مع الله أموالنا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply