ثِقْ وتوثّقْ


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

في سلسلة مقالاتٍ تتعلّق بمجال العمل الخيري؛ كنت قد كتبتُ مقالاً بعنوان (بين اليد اليُمنى واليد اليُسرى) http://cutt.us/AIm7m، وفيه تحدّثت عن مسألة تصوير المحتاجين أثناء توزيع المواد لهم من قِبل الجمعيات الخيرية، وقد حاولت الإشارة إلى الموضوع ومعالجته بشكلٍ أظنّ فيه كفاية للانتباه والمراجعة.

اطّلع بعض الإخوة الكرام على المقال، فذكروا لي أن المُحسِن المتبرّع هو الذي يشترط التوثيق لفعاليات وأنشطة التوزيع، بل والبعض يشدّد في تلك الشروط، حتى أنّه لا يرضى أو يقتنع إلا بعد وصول كذا صورة وكذا فيديو وبتلك الشروط إلى بين يديه.

نعم بعض الإخوة المحسنين يطلبون التوثيق، وأظن أن بعض المؤسسات الخيرية تزيد من الحرص والتفاني في تحقيق شروط المتبرّع؛ حتى تضع من عندها شروطاً إضافية، خفيّةً وجليّةً، وليس على المحتاج المسكين إلا أن يمتثل لأي توجيه، وهل له خيار أو قرار!

هنا أقول: من حقّ المتبرّع أن يتأكّد من وصول صدقاته للمحتاجين، ومن حقّه أن يشاهد آثار إحسانه على الفقراء والمساكين، ومن حقّه أن يتمتّع بمشَاهِد بذْله ونتائجها ومبلغها الشرق والغرب، ولكن:

أليس الأفضل أن تظلّ الصدقة وآثارها في محلّ ستْرٍ للجميع؟

أليس الأفضل أن تبقى الصدقة سرّ بين العبد وبين ربّه؟ وأن هذا أقرب للتقوى وأجدر بالقبول؟

أليس من حقّ المسكين أيضاً أن يبقى مستوراً عن أعين الناس وعدسات الكاميرات وصفحات الإعلام بأنواعه؟

وإذا كان ولا بدّ من التوثيق –وهذا حقّ للمتبرّع والمؤسسة المنفّذة- فبقدْر، وبصورة سهْلةٍ سائغة، تُراعى فيها حقوق الجميع، ويُحرص بها على إسبال الستْرِ على الجميع، وعدم التكلّف والتكليف، وبأساليب مناسبة، لا توحي بأي أمورٍ تؤثّر على أصل المسألة وإيجابياتها ونيّات أصحابها.

ومع ذلك فلي وجهة نظر خاصّة في مسألة تأكّد المتبرّع من وصول تبرّعاته، حيث أن البعض يريد ذلك للتأكّد من إتقان ومصداقية أداء الوسطاء من مؤسسات أو أشخاص، وللتأكد أيضاً من وصول الصدقات للمستحقين من المحتاجين، وهنا أقول:

إذا كان المتبرّع يشكّ أدنى شكٍّ في مصداقيّة أو إتقان الوسطاء، سواء كانوا جهاتٍ أو أفراد؛ فلماذا يتبرّع من خلالهم؟ ألا يجد في غيرهم الأمانة الكافية والكفاءة المرجوّة؟ من حقّه أن يشكّ في البعض، خاصّة في هذا الزمن الذي -للأسف- رأينا وسمعنا مَن يستغلّ الأمر لصالحه الشخصي، ومَن يتجاوز أو يقصّر إلى حدّ يضرّ بسُمْعة المؤسسة بل وبسُمْعة المجال كلّه وأهله، من حقّ المتبرّع أن يتردّد في اختيار الوسيط والدليل والشريك، ولكن عليه أيضاً أن يتحرّى من يتّخذهم لإيصال خيره وبرّه، ونحن –بحمد الله- لا نعدم وجود المؤسسات الخيرية القائمة على المؤسّسية، والسائرة على القيَم تطبيقاً لا ادّعاءً، وإن كانت لا تزال -من وجهة نظري- قليلة.

إذاً على المُحسن الكريم أن يجد أوّلاً من هو أهل للثقة، حتى يخفّف من اشتراطاته في الحصول على ما يثبت أمانته في التنفيذ ومصداقيته في العمل، وينعكس هذا الأمر بطبيعة الحال سلْباً على المعطي والآخذ والوسيط، ثم عليه ثانياً أن يرضى بما تقوم به الجهة الوسيطة من توثيق وترتيب حسب لوائحها ونظامها، وعلى المؤسسة هذه ألّا تُرهِق الناس أو تعرّضهم للإحراج، حتى يشعر البعض أنهم يستغلّون حاجتهم ويتاجرون بهم وبصورهم، ولتعلم أيضاً أنه إذا كان البعض لا يجد حرَجاً في التصوير والظهور على الأوراق والشاشات؛ فإن البعض لا يرضى بذلك ولا يحبّ ولا يحبّذ، ونحن في زمنٍ توارى فيه العفيف أكثر، وقلّ فيه الحرص على العثور عليه، ساهم في ذلك وجود المستعدّين للظهور في الإعلام بأيّ ثمن، والحريصين على الأخذ مهما يكن.

وعلى كل حال؛ أعتقد أننا جميعاً بحاجةٍ للعودة إلى هدي الكتاب والسنة، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لننظر نَظر تأمّل في آيات وأحاديث ومواقف الصدقة والبذْل، ونتساءل:

كيف أرشد القرآن وحثّ؟

كيف وجّه النبي صلى الله عليه وسلم وحبّذ؟

كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المحتاجين، وكيف تعامل الصحابة وسلف الأمّة؟

أدعو إلى التأمّل الجادّ، والمراجعة الحقيقية للحال، ثم العمل وِفْق الأفضل لكل الأطراف، سعياً لصيانة الصدقة، وسلامة الموقف، وربح التجارة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply